في لقاء خاص، في الثامن والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 2023، استمر قرابة الساعة، تحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى المذيع الأشهر ديمتري كيسيليوف، على قناة (روسيا-1) الحكومية، عن مجمل قضايا السياسة الخارجية، ومن ضمنها ما يحدث من حرب على قطاع غزة. قدم عميد الدبلوماسية الروسية رؤية مغايرة عن جميع المواقف والبيانات الرسمية الصادرة عن الدولة الروسية، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، من خلال التصريحات التالية:
شكلت هذه التصريحات ارتباكًا لدى قطاع عريض من الرأي العام العربي، الذي عوّل على موقف روسي داعم للقضية الفلسطينية، بدت ملامحه ظاهرة من خلال تصريحات الرئيس بوتين المتكررة، عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وبكائه على مشاهد قتل الأطفال بنيران الجيش الإسرائيلي؛ وعليه، طُرح السؤال: “كيف يمكن أن نفهم هذه التصريحات وما بدا من تناقض مع المواقف الرسمية؟”.
الاتحاد الروسي الحالي هو الوريث الشرعي لمملكة “كييفسكايا روس”، أو “روس القديمة”، التي كانت عاصمتها تقع في مدينة كييف، وتشكل دولة السلاف الشرقيين الموحدة، وهم شعب واحد، يعيشون الآن فيما تسمى “السلافيات الثلاث” (الاتحاد الروسي- أوكرانيا- بيلاروس).
خانية الخزر (650- 1048) التركية، التي اعتنق ملوكها اليهودية، منذ عام 740، كانت مجاورة لمملكة روس القديمة، ونشأت بينهما علاقة متوترة، أدت إلى حروب ونزاعات في أغلب الأحيان، حتى سقوطها وتشتت قطاع عريض من سكانها المتهودين في جميع أنحاء أوروبا، وهم من باتوا يعرفون باسم الأشكيناز. وقد تشابهت الرواية التاريخية مع علم جينيالوجيا الحمض النووي، في تأكيد انتمائهم العرقي إلى الترك والسلاف، مما يجعلهم شعبًا سلافيًّا– تركيًّا.
وصلت موجة من هؤلاء المتهودين الترك إلى كييف، في القرن التاسع الميلادي. مع الوقت، زاد نفوذهم المالي والسياسي إبان حكم الأمير الروسي سفياتوبولك إيزلافيتش (1093- 1113)، وبعد وفاته مباشرة، اندلعت أعمال عنف شديدة تجاه اليهود، شجع عليها رجال الدين الأرثوذكس، وقد اعتُبرت انتفاضة كييف عام 1113، أول مذبحة لليهود مسجلة في التاريخ الروسي.
وصف الحاخام يعقوب بن حانوكا، في رسالة تسمى “خطاب كييف“، أوضاع اليهود الصعبة في مملكة روس القديمة، حين أرسل بطلب للحصول على مساعدة مالية من يهود المشرق، وقد اكتُشف هذا الخطاب عام 1962، في وثائق (جنيزة القاهرة) المحفوظة في كنيس بن عزرا، في منطقة الفسطاط في حي مصر القديمة، ويرجح أنه يعود إلى القرن العاشر.
نتيجة تبني السلاف الشرقيين للعقيدة المسيحية البيزنطية “الأرثوذكسية لاحقًا”، ورثوا منهم الأيديولوجيا المعادية لكل ما هو يهودي، وهو ما انعكس على حياة اليهود في دوقية موسكو العظمى، وروسيا القيصرية، والإمبراطورية الروسية؛ لذا لم يكن مستغربًا أن يكون أغلب قادة الثورة البلشفية من ذوي الأصول اليهودية، في إطار بحثهم عن الخلاص من هذا الاضطهاد التاريخي عبر أيديولوجيا أممية تدعو إلى الحرية والمساواة. وعلى الرغم من تبني الاتحاد السوفيتي رسميًّا لسياسية معادية للأديان والقوميات، فإن العداء لليهود ظل موجودًا، وإن كان بوتيرة أقل من العهود السابقة، وهو ما عبّر عنه المؤرخ الروسي فلاديمير بولداكوف، في كتاب “الارتباك الأحمر: عواقب العنف الثوري“، بالقول: “ما تسمى المسألة اليهودية كانت- في الواقع- أزمة اليهود في الإمبراطورية الروسية”.
منذ توليه الرئاسة عام 2000، شهدت علاقات الدولة الروسية مع اليهود اختلافًا جذريًّا، وربيعًا حقيقيًّا لم يسبق له مثيل منذ اللقاء الأول بين السلاف الشرقيين واليهود، قبل أكثر من ألف عام، وهو ما أكده الحاخام الأكبر لروسيا، ومؤسس اتحاد الجاليات اليهودية لرابطة الدول المستقلة، بيرل لازار، في محاضرة له بتاريخ 27 فبراير (شباط) 2008، أمام أعضاء جمعية هاباد (Chabad Society)، في جامعة أكسفورد البريطانية، تحت عنوان: “يهود روسيا ومستقبلهم“، تحدث فيها عن وضع اليهود في روسيا، قائلًا: “لم يسبق لأي زعيم لروسيا أو الاتحاد السوفيتي أن فعل الكثير من أجل اليهود، وبشكل غير مسبوق، مثل فلاديمير بوتين. الآن في روسيا كثير من رؤساء بلديات المدن، ورؤساء المناطق، ووزراء الحكومة هم من اليهود. لقد أصبح تعيين اليهود في المناصب القيادية هو القاعدة”. أما فيما يخص العلاقة مع إسرائيل، فقد قال: “بعد عدة لقاءات مع بوتين، أكد لي أرئيل شارون، في محادثات سرية معي، مرارًا وتكرارًا أننا (اليهود وإسرائيل)، لدينا أعظم صديق في الكرملين”.
لتأكيد هذه العلاقة الخاصة، وفي حوار له مع صحيفة نوفايا غازيتا، قبيل الانتخابات الرئاسية لعام 2018، كرر الحاخام الأكبر لروسيا دعمه لبوتين، قائلًا: “أينما يَعش اليهودي في أي مكان حول العالم؛ عليه أن يصلي لأجل الرئيس بوتين، ونجاحه في الانتخابات”. وقد علل ذلك بأن: “اليهود في جميع أنحاء الاتحاد الروسي يعيشون أزهى عصور الحرية والمساواة بفضل بوتين وسياساته، وبعد (عودة) شبه جزيرة القرم إلى روسيا، تنسم اليهود فيها لأول مرة رياح الحرية”.
بالتوازي، بدأت العلاقات الروسية- الإسرائيلية تتطور بوتيرة متسارعة، بعد حرب أوسيتيا الجنوبية عام 2008، حينما عانى الجيش الروسي صعوبات في مواجهة الجيش الجورجي، نتيجة للدعم العسكري الذي حصل عليه من الجانب الإسرائيلي. في هذه الأثناء، تنبه بوتين لخطورة التمدد الإسرائيلي في المجال ما بعد السوفيتي، والحاجة إلى تنسيق المواقف معها، وعقد آنذاك ما يشبه المقايضة “تتعهد موسكو بألا تقدم للنظام السوري وإيران وحلفائها أي أسلحة كاسرة للتوازن، ولو كانت دفاعية، واتخاذ موقف متوازن تجاه الصراع مع الفلسطينيين، مقابل ألا تستجيب تل أبيب للطلبات الأمريكية لدعم بلدان سوفيتية سابقة من الناحية العسكرية”. أدى هذا التفاهم إلى توقف التعاون العسكري بين إسرائيل وجورجيا، وتراجع موسكو عن منح إيران وسوريا منظومة الدفاع الجوي أس-300 (S-300 missile system).
تعمقت هذه التفاهمات عندما قررت موسكو التدخل العسكري في سوريا عام 2015، من خلال آلية للتنسيق المشترك بين الطرفين، والسماح للطرف الإسرائيلي بضرب أهداف لإيران أو وكلائها ترى أنها تهدد أمنها، وقد تمكنت هذه الآلية من ضبط العلاقة فيما بينهما، وعندما حدث فيها خلل عند سقوط الطائرة الروسية إيل-20 (Ilyushin Il-20RT)، قبالة السواحل السورية في سبتمبر (أيلول) 2018، وتحميل موسكو إسرائيل المسؤولية عن إسقاطها، وردًا على ذلك، سلمت النظام السوري منظومات أس-300، لم تسمح لبشار الأسد باستخدامها دون إذن منها، وسرعان ما تجاوز الطرفان الخلاف سريعًا.
الخلل الأكبر الذي أصاب العلاقة الروسية- الإسرائيلية من جانب، وعلاقة بوتين مع اليهود من جانب آخر، بدأت معالمها الأولى تظهر بعد ضم/ استعادة روسيا شبه جزيرة القرم، حين عارض بعض السياسيين، ووسائل الإعلام التي يمتلكها روس من ذوي الخلفية اليهودية، هذا القرار، وانحازوا إلى الموقف الغربي، وتعمق كثيرًا بعد يوم الرابع والعشرين من فبراير (2022)، عندما بدأت “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا. حينئذ، كانت أصوات المعارضين الأبرز من ذوي الأصول اليهودية، وقرر كثير منهم ترك البلاد والهجرة إلى الغرب وإسرائيل، والتحول إلى منصات معارضة تهاجم السياسة الروسية، وبوتين شخصيًّا.
الحاخام الأكبر لروسيا، الذي أشاد بسياسات بوتين في أكثر من مرة، التزم موقف الحياد، ودعا إلى الصلاة لأجل السلام بين روسيا وأوكرانيا، في حين قرر حاخام موسكو الأكبر فيليب غولدشميت، ترك البلاد، وصرح لوسائل الإعلام الأمريكية بأن: “المجتمع اليهودي يتعرض لضغوط لأجل دعم الحرب في أوكرانيا”، وأنه كان عرضة للاعتقال “إذا أعلن رفضه لهذه الحرب”. ثم أطلق بعدها تصريحًا آخر، قال فيه: “أدعو يهود روسيا إلى مغادرة البلاد، حيث علمتنا التجربة التاريخية أن روسيا عندما تتعرض للأزمات، ينصب سخط شعبها على اليهود. إني أخشى اليوم أن نكون كبش فداء بعد نهاية الحرب في أوكرانيا”.
شكّل هذا التصريح الخطير ضربة قاصمة لكل جهود الكرملين التي قام بها على مدار عقدين، لخلق علاقة صحية لأول مرة في التاريخ الروسي مع اليهود، واستغلال قوة اللوبي اليهودي في الغرب، وبالتحديد في الولايات المتحدة، لتقريب وجهات النظر، حيث راجت في روسيا نظرية مفادها “أن علاقة جيدة مع اليهود الروس، الذين يشكلون ثالث أكبر كتلة يهودية في العالم من حيث الأصول، بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، وإن كانت أعداد حملة الجنسية الروسية منهم دون أي جنسيات أخرى، لا يزيد على (145.000)، لكنهم ما زالوا مرتبطين بروسيا، ستؤدي إلى تحسين صورة روسيا في الغرب، وإمكانية استغلالهم لخدمة القضايا التي تخدم الدولة الروسية”.
بدت هذه النظرية (لا تعمل)، وبدلًا من أن يدعم اليهود الروس “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، لكونها موجهة- وفق الرؤية الروسية- ضد “النازيين الجدد”، الذين يتبنون عقيدة تمجد شخصيات قومية أوكرانية، مثل ستيبان بانديرا، ورومان شوخيفيتش، اللذين تورطا بالتحالف مع ألمانيا النازية، وارتكبا عدة مجازر بشعة ضد اليهود، منها مذبحة لفيف عام 1941، وجد الكرملين أن غالبية اليهود الروس الذين ظن أنهم سيكونون صوته في الغرب لتأكيد صحة الموقف الروسي، بدلاً من ذلك دعموا أوكرانيا، وانحازوا إلى الرؤية الغربية، وذهب كثير من الخبراء العسكريين الإسرائيليين لمساعدة الجانب الأوكراني والقتال معه، بجانب كون فولوديمير زيلينسكي من أصل يهودي، وقد أدى دعمه للقوميين الأوكرانيين إلى فقدان السردية الروسية القدرة على الإقناع غربيًّا.
دفعت كل هذه الأحداث، مع هجرة أكثر من 20 ألف يهودي من نخبة المجتمع إلى الخارج، الطرف الروسي إلى الشعور بـ”الخيانة”، وخيبة الأمل، وتعالي الأصوات القومية المعادية لليهود في الداخل، وصولًا إلى تصريح لافروف، الذي اعتبر فيه هتلر “ذا جذور يهودية”، وهو ما أدى إلى حالة غضب شديدة وتوتر مع اليهود الروس، ودفع إسرائيل إلى طلب الاعتذار عن هذه التصريحات، وقد اعتذر بوتين بنفسه عن هذه التصريحات، التي اعتبرت معادية لليهود، وفق بيان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت، الذي جاء فيه: “رئيس الوزراء قبل اعتذار الرئيس بوتين عن تصريحات لافروف، وشكره على توضيح موقفه تجاه الشعب اليهودي وذكرى المحرقة”.
بعد عملية “طوفان الأقصى”، لم يُخفِ القوميون الروس سعادتهم بما لحق بالإسرائيليين من هلع وخوف، وعلقوا ساخرين بأن من “تركوا روسيا خشية الحرب مع أوكرانيا، وتغنوا بالأمن والأمان والحرية والديمقراطية التي يتمتعون بها في وطنهم الجديد إسرائيل، عليهم أن يشعروا بالندم على خيانة وطنهم الأم روسيا”.
بينما كان الكرملين ينتظر الورود من هذا الربيع في العلاقة مع اليهود، وجد نفسه يجني الأشواك وخيبة الأمل، والشعور بالخذلان، وألا مجال لعقد “تحالف” بين الطرفين كما كان يأمل، واتجهت العلاقة نحو التدهور، واتخاذ إجراءات قانونية ضد الوكالة اليهودية للهجرة في روسيا (سوحنوت)، في حين رأي اليهود في المهجر أنها “قضية سياسية” تهدف إلى الانتقام من المجتمع اليهودي، وكرروا الشيء نفسه، بعد الهجوم الشعبي على طائرة قادمة من تل أبيب، تقل يهودًا روسيين في مطار محج قلعة الدولي.
رغم ما تبدو عليه تصريحات لافروف، من مخالفة لكل المواقف الرسمية الروسية، ولموقف الرئيس بوتين نفسه، فإنها جاءت بتنسيق مع الكرملين، ولا يمكن القول إنها تعبر عن رأيه الشخصي، حيث لا مجال لهذه الفرضية في السياسة الروسية، وفي ظل قيادة بوتين الفردية الصارمة لملفات السياسة الخارجية.
لا يمكن أخذ هذه التصريحات على محمل الجد، حيث لا تزال الدولة الروسية لا تصنف حماس “منظمة إرهابية”، واستقبلت بالفعل وفدًا من حماس في 26 أكتوبر (تشرين الأول) في العاصمة موسكو، أعقب ذلك سحب إسرائيل سفيرها من موسكو؛ اعتراضًا على هذه الخطوة.
بعد زيارة سريعة قام بها بوتين إلى أبو ظبي والرياض، يوم السادس من ديسمبر (كانون الأول)، بدأت المواقف الروسية تتغير تجاه ما يحدث في غزة، حيث أعقبها بأربعة أيام مكالمة مطولة بين بوتين ونتنياهو استمرت 50 دقيقة.
بدا بعد هذه الزيارة والمكالمة مع نتنياهو أن الموقف الغربي يشهد بعض التغيير فيما يحدث في أوكرانيا، وهناك حاجة إلى اختباره، فكانت تصريحات لافروف، التي تبدو وكأنها “جس نبض” لتفاهمات ما تقايض من خلالها موسكو مواقفها تجاه الحرب على غزة، مقابل تخفيف الضغط عليها في أوكرانيا، أو عقد بعض الصفقات المرحلية، وهو ما قد يفسر توجيه موسكو- لأول مرة- ضربات جوية غير مسبوقة على العاصمة كييف، ورد الفعل الأوكراني الذي يبدو أنه أدرك أن هناك تفاهمات ما تتم خلف الكواليس على حسابه؛ لذا أقدمت كييف على توجيه ضربة بدون تنسيق مع الغرب، وبما لا يتوافق مع سياساته في عدم استهداف المدنيين استهدافًا مباشرًا داخل الأراضي الروسية، وقد أدت إلى مقتل أكثر من 20 مدني روسي.
شهدت العلاقات اليهودية- الروسية، عبر التاريخ، منذ اللقاء الأول منذ أكثر من ألف عام، توترًا دائمًا، حتى تولى بوتين السلطة، وقد شهد عصره أعلى معدلات الحرية، واحترام الخصوصية الثقافية، والقومية، والدينية لكل القوميات والأديان في روسيا، واليهود على وجه الخصوص، وهو أمر لا ينكره حتى خصومه ومعارضوه.
تعرضت العلاقات الروسية- الإسرائيلية، ومع اليهود الروس عمومًا، لتضرر كبير بعد “العملية العسكرية الخاصة”، نتيجة خيبة أمل الكرملين في رد فعلهما، وما يبدو فشلًا لنظرية “محاباة” إسرائيل، ومنح اليهود مكانة مميزة في الدولة بما لا يتناسب مع حجمهم، سيؤدي إلى خلق “لوبي” داعم للمواقف الروسية في الغرب، وتفهم لأسباب الحرب في أوكرانيا، لأن روسيا تحارب القوميين الأوكرانيين الذين يمثلون امتدادًا لأفكار وشخصيات تاريخية معادية لليهود، وارتكبت مجازر كثيرة ضدهم، وترفع شعارات نازية واضحة وصريحة.
المواقف الروسية، التي بدت داعمة بشكل غير مسبوق للطرف الفلسطيني، يمكن قراءتها في إطار العوامل السابق ذكرها، على أنها رد فعل على ما يعتقده الكرملين “نكرانًا” للجميل من جانب النخب اليهودية وإسرائيل، ومشاغبة الولايات المتحدة والغرب الجماعي؛ لإبراز ما تسميه روسيا “نفاقًا” و”ازدواجًا للمعايير” من خلال فضح المواقف المتحيزة لإسرائيل مقابل المواقف العدائية تجاه موسكو، بذريعة حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير المصير، واحترام حدودها، واستقلالها.
حسب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، في مقال بعنوان (ما الذي يقلقني بشأن حرب غزة بعد رحلتي للدول العربية؟)، كتب- وفقًا له- أن: “السعودية والدول الموقعة على اتفاقيات إبراهيم ليست متعاطفة مع حماس؛ وعلى هذا، أدرك بوتين، في زيارته الأخيرة للخليج، أن حماس لا تمتلك غطاء سياسيًّا عربيًّا، وأن هناك أطرافًا عربية تخشى صعودًا جديدًا لتيار الإسلام السياسي، وتأثيرات هذا الصعود المفترض في الأمن الداخلي الروسي. كما أن لروسيا مصالح مهمة وحيوية بشأن اتفاقيات (أوبك بلس)، وكذلك العلاقات التجارية، حيث أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة، الشريك التجاري الرئيس لروسيا في العالم العربي، بعدما زاد حجم التجارة بنسبة 63% خلال 9 أشهر فقط من هذا العام، ليصل إلى 8 مليارات و800 مليون دولار. وقد أثمرت هذه الزيارة صفقة جديدة لتبادل الأسرى، بعد وساطة إماراتية؛ وعليه المواقف والمصالح الروسية في المنطقة، أهم وأكبر من حماس.
لا يوجد لدى حماس ما تقدمه لروسيا؛ لعدم تبنيها خطابًا سياسيًّا واضحًا ومحددًا، حيث لم تعترف حتى الآن- بوضوح- بحق إسرائيل في الوجود، وقبولها بحدود الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وحل الدولتين، وتفكيك قواتها وتحولها إلى حزب سياسي بعد الاستقلال، وإعلان الدولة، وهو خطاب (إذا صدر من حماس)، يمكن لروسيا أن تبني عليه، وبدونه فلا يعدو التواصل مع حماس أن يكون من باب التواصل مع جميع الأطراف لحجز مكان لنفسها في عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية، وممارسة الضغوط على الطرف الإسرائيلي لضمان تطبيقه للتفاهمات المتفق عليها معه، وعدم انجرافه إلى تقديم دعم لأوكرانيا.
بوتين لديه علاقة خاصة مع نتنياهو، ويحترم عدم انجراره خلف المواقف الأمريكية والغربية، ولا ابتزاز زيلينسكي له بيهوديته، ليحصل على دعم عسكري من إسرائيل. كما أن نتنياهو لم يوجه أي انتقاد إلى روسيا منذ بدء الأعمال العسكرية في أوكرانيا. كذلك، لا يوجد أدنى شك لدى الطرف الروسي في دعم بقاء إسرائيل وأمنها، ورغم كل التوترات التي حدثت بين الطرفين، وتوقف إسرائيل عن إبلاغ روسيا بالهجمات على سوريا، لكن هذه الآلية عادت من جديد، وقتلت إسرائيل رضي موسوي وعددًا من أفراد الحرس الثوري.
تظل العلاقات مع إسرائيل مهمة وحيوية لروسيا، ورغم تراجعها، فإن كلا الطرفين حريص على عدم تدهورها وخروجها عن نطاق التفاهمات الأساسية. ويمكن فهم تصريحات لافروف في إطار “اختبار” القدرات الإسرائيلية، إذا غيرت موسكو موقفها من الصراع مع الفلسطينيين، ما الذي ستقدمه بحكم علاقاتها مع الولايات المتحدة، وإذا لم تحقق هذه الخطوة المرجو منها، ستُعد تصريحات “شخصية” لم يترتب عليها أي إجراءات قانونية أو سياسية ضد حماس، أو تغير في الموقف من دعم إيقاف الحرب، وحقوق الشعب الفلسطيني.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.