يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التحول في سياسة أنقرة الخارجية بعد فوزه بولاية ثالثة في مايو (أيار) الماضي، حيث تحاول تركيا- بطموح غير مسبوق- تعزيز مكانتها بوصفها قوة دولية صاعدة، وترسيخ نفوذها في ساحات متعددة؛ في الشرق الأوسط، والبلقان، وجنوب القوقاز، وآسيا الوسطى، وإفريقيا، غير أن ولاية أردوغان الجديدة تطرح عددًا من السيناريوهات أمام السياسة الخارجية لتركيا خلال الفترة المقبلة، خاصة في ظل ملامح الخطة الاقتصادية الجديدة التي تفرض على أنقرة محددات مختلفة تحكم علاقاتها الخارجية مع دول المنطقة؛ ومن ثم يطرح هذا عدة تساؤلات رئيسة، منها: هل تفرض الأزمة الاقتصادية في تركيا توجهًا خارجيًّا مختلفًا لأنقرة؟ وهل تنجح خطة أردوغان الاقتصادية الطموحة في الخروج من الوضع الاقتصادي المتردي؟ وكيف سيشكل التحول في السياسة الخارجية التركية خريطة النفوذ في المنطقة؟
فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفترة رئاسية ثالثة لتركيا في مايو (أيار) الماضي، ويستكمل هذا الفوز مسيرة أردوغان في السلطة التي قضى فيها عقدين من الزمن، منها رئيس وزراء منذ عام 2003 حتى 2014، وهو العام الذي تولى فيه رئاسة الجمهورية التركية في أول انتخابات مباشرة للرئاسة، ويكون بهذا الفوز أول رئيس في تاريخ البلاد ينتخب ثلاث مرات متتالية، غير أن الإرث الطويل لوجود أردوغان في السلطة أثار الخوف من أن تتحول تركيا، على الرغم من مبادئ الديمقراطية المعلنة منذ عام 1950، إلى دولة استبدادية، ففي أعقاب المحاولة الانقلابية في يوليو (تموز) 2016، أعلنت الحكومة التركية حالة الطوارئ التي علقت بعض الوظائف الطبيعية للدستور، واتُّخذ في إثرها كثير من السياسات التي أدت إلى تقييد الحقوق والحريات في البلاد.
وفي هذا السياق، يواجه أردوغان بعد الفوز بولاية ثالثة حالة من الانقسام الشديد في البلاد؛ ففي حين يرى مؤيدوه أنه استطاع إنقاذ تركيا من الوقوع في فخ الانقلابات العسكرية، وأنه حقق خلال عقدين من الزمن كثيرًا من الإنجازات على المستويين السياسي والاقتصادي، يرى معارضوه أن الإجراءات التي اتخذها بعد المحاولة الانقلابية منحته فرصة لسحق المعارضة، ما يؤسس دعائم دولة استبدادية بامتياز، ودعم هذا فوزه خلال الانتخابات الأخيرة التي حشد فيها إستراتيجيات وظّف فيها التناقضات الإثنية والدينية لصالحه، واستفاد من ضعف حملة المعارضة وفشلها في كشف نقاط ضعفه.
وفي مقابل الوضع الداخلى الشائك، فإن الصعيد الدولي يضع أردوغان في عدة اختبارات، أولها طبيعة علاقة تركيا بالغرب فيما يخص ملف انضمام السويد إلى الناتو، ويتبع ذلك ملف طائرات “إف- 16” من الولايات المتحدة، والعلاقة مع إدارة بايدن التي ستستمر حتى الانتخابات الأمريكية القادمة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، خاصة بعد أن شهدت السنوات الماضية موجات من التوتر بين تركيا والغرب بشأن كثير من القضايا، مثل قضايا حقوق الإنسان، والقضية القبرصية، والصراع في شرق البحر المتوسط، لا سيما بعد تعزيز إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التعاون العسكري مع اليونان وقبرص، وتعزيز فرنسا وجودها العسكري في اليونان، فضلًا عن موقف تركيا المتشابك جغرافيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا من الحرب الروسية الأوكرانية، وأخيرًا موقف أردوغان الصارم من العدوان الإسرائيلي على غزة.
تواجه تركيا أزمة اقتصادية طاحنة منذ أعوام، زادت حدتها خلال عام 2023، حيث ارتفع مستوى التضخم ووصل إلى نحو 65 % بسبب الزيادات الضريبية، وانخفاض قيمة الليرة التركية مقابل العملات الأخرى، إذ فقدت منذ بداية العام نحو 13 % من قيمتها، كما سجلت تركيا رقمًا قياسيًّا جديدًا للديون الخارجية القصيرة الأجل خلال عام واحد، إذ ارتفعت قيمة هذه الديون- وفق بيانات البنك المركزي التركي- إلى 207 مليارات دولار، بما في ذلك القروض المصرفية الواردة من الخارج، والودائع الأجنبية في البنوك التركية، والديون الواردة من القطاعين الخاص والعام، ويعود هذا الارتفاع الحاد إلى الاعتماد المتزايد على الديون الخارجية القصيرة الأجل لتلبية حاجات التمويل في تركيا، وهو ما انعكس على تغيير سعر الصرف، وأسعار الفائدة بشكل مفاجئ، وأثر في قدرة تركيا على سداد تلك الديون.
ورغم هذا الوضع الاقتصادي المتدني، فاز أردوغان بولاية جديدة للبلاد في مايو (أيار) الماضي، بعد أن قدم وعودًا انتخابية، مثل زيادة الرواتب برفع الحد الأدنى للأجور إلى ما يعادل 500 دولار، والتحول جذريًّا عن السياسات غير التقليدية، ومنها تخفيضات أسعار الفائدة التي فاقمت أزمة الليرة، واتخذ أردوغان سلسلة من الإجراءات الهادفة إلى طمأنة المستثمرين والأسواق الدولية، من بينها تعيين الاقتصادي محمد شيمشك وزيرًا للمالية، وحفيظة غاية أركان محافظًا للبنك المركزي، مع منحهما حرية اتخاذ قرارات اقتصادية جريئة.
وتشكلت الحكومة الجديدة، وتولى شيمشك وزارة المالية والخزانة في يونيو (حزيران) الماضي، وعمل الفريق الاقتصادي بقيادته على تنفيذ خطة إصلاح اقتصادي جديد، فشرع البنك المركزي في رفع سعر الفائدة القياسي تدريجيًّا؛ لذا بلغت توقعات البنك المركزي للتضخم في نهاية 2023 58 %، وقدرت ذروته بنحو 60 % في الربع الثاني من العام المقبل 2024، ومن المرجح أن تؤدي أسعار الفائدة المرتفعة إلى الحد من الخفض الحاد في قيمة الليرة التركية؛ ومن ثم المساهمة في جهود كبح التضخم.
واستنادًا إلى هذا، رفعت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني النظرة المستقبلية للاقتصاد التركي من سلبية إلى مستقرة، بالتزامن مع تغيير التوجهات الاقتصادية للفريق الاقتصادي الجديد، الذي بدأ بتبني سياسات مختلفة، تسهم في مواجهة التضخم، ودعم قيمة العملة، وزيادة احتياطي العملات الأجنبية لدى البلاد، وتمثلت أبرز ملامح تلك السياسة فيما يلي:
1- إنهاء موجة التيسير النقدي: بدأ الفريق الاقتصادي الجديد برفع سعر الفائدة تدريجيًّا بنسبة 21.5%، لتصل إلى 30% في اجتماعه الأخير المنعقد في سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث قرر رفع أسعار الفائدة الأساسية بمقدار 5%، في خطوة نحو معالجة التضخم، وتراجع قيمة العملة، في ظل رفع توقعات التضخم الصادرة عن البنك المركزي إلى 58% بحلول نهاية عام 2023.
2- برنامج اقتصادي متوسط الأجل: كشفت الحكومة التركية عن برنامج اقتصادي جديد، يغطي السنوات الثلاث المقبلة (2024- 2026)، ويستهدف زيادة إمكانات النمو والإنتاج ذي القيمة المضافة العالية، وخلق وظائف جديدة، وخفض عجز الحساب الجاري، ليُموَّل- بشكل رئيس- من خلال الادخار المحلي، والاستثمار الأجنبي المباشر، على أساس الاستثمارات الإنتاجية، والتوجه التصديرى، إلى جانب زيادة فرص العمل، وتحسين الكفاءة والمهارات في سوق العمل، وزيادة التوظيف من خلال تعزيز الموارد البشرية، وكذلك خفض التضخم بحلول عام 2026.
ومن هذا، تشمل الخطة المتوسطة الأجل الجديدة سبع ركائز؛ هي: النمو والتجارة، والقوى العاملة والتوظيف، واستقرار الأسعار، وأوضاع المالية العامة، وإدارة الكوارث، والتحول الأخضر والرقمي، وتعزيز بيئة الأعمال والاستثمار، حيث تستهدف الخطة زيادة صادرات البلاد البالغة 255 مليار دولار، إلى 302.2 مليار دولار بحلول عام 2026، وكذلك تستهدف زيادة الإيرادات السياحية إلى 71.3 مليار دولار بحلول عام 2026.
3- إيقاف العمل ببرنامج الودائع المحمية: تراجع البنك المركزي التركي عن خطة حماية الودائع بالليرة من تقلبات سعر الصرف، التي تطالب البنوك بتحويل قدر معين من الودائع بالعملات الأجنبية إلى ودائع بالليرة تتمتع بالحماية من تقلبات سعر الصرف، وهو برنامج أُطلق في أواخر عام 2021، يضمن للمودعين الحصول على الفائدة المعلنة، مضافًا إليها الفرق في سعر الدولار بين توقيتي الإيداع والسحب؛ لضمان تحقيق نفس مستوى الأرباح المحتملة للمدخرات بالعملات الأجنبية، من خلال إبقاء الأصول بالليرة التركية، وقد تكبد المصرف المركزي التركي نحو 300 مليار ليرة من أجل تغطية تكاليف هذا البرنامج، بسبب تراجع الليرة التركية بنحو 30% منذ بداية العام الحالي.
4- رفع الضرائب: رفعت تركيا ضريبة القيمة المضافة بمقدار نقطتين مئويتين على السلع والخدمات من 18% إلى 20%، كما رفعت الضريبة على سلع أساسية إلى 10% مقارنة بنحو 8%، فضلًا عن زيادة ضريبة التأمين، والمعاملات المصرفية، التي تنطبق على القروض الشخصية إلى 15%، مقابل 10% سابقًا، كما أعلنت تركيا رفع ضريبة الاستهلاك الخاصة على البنزين وزيت الديزل، في إطار جهود الحكومة لمواجهة التحديات الاقتصادية؛ إذ ارتفع معدل الضريبة على البنزين من 2.52 ليرة تركية للتر الواحد إلى 7.52 ليرة، في حين ارتفعت الضريبة على زيت الديزل من 2.05 ليرة إلى 7.05 ليرة.
ستلزم الأزمة الاقتصادية المحتدمة في البلاد أنقرة بتبني سياسة متوازنة بعد يونيو 2023، حيث شارك خلال الأيام الماضية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في اجتماع وزراء خارجية دول الناتو، واجتماع مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، في إطار السعي إلى أن تظل تركيا جزءًا من النظام الغربي، إلى جانب عزم أنقرة زيادة صادراتها إلى الغرب، ودعم هذا التوجه أنه بعد رفض تركيا- على مدار السنوات الماضية- طلب السويد الانضمام إلى الناتو، بدعوى أنها توفر ملاذًا آمنًا للمعارضين الأكراد، وافق أردوغان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على إحالة طلب السويد عضوية الناتو، إلى البرلمان للتصويت عليه؛ ومن ثم يمكن اعتبار أن إعادة تولي أردوغان ستكون نتيجة مريحة لأوروبا المستمرة في مزاعمها في انتقاد الديمقراطية التركية، فيما تستمر في توثيق علاقاتها مع تركيا التي تجسدت أهميتها في استمرار اتفاق الهجرة عام 2016.
وانطلاقًا من هذا، فإن أردوغان يرى أن علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين أمر بدهي وفق تطلعات أنقرة لتصبح قوة عالمية؛ لذا يمكن توقع أن تقيم تركيا علاقات مع الولايات المتحدة على أساس من التفاهم والثقة المتبادلة، وقد تعود تركيا إلى برنامج الطائرات المقاتلة من طراز (إف- 35)، في إطار غاية أردوغان المحورية في رفع مكانة تركيا الدولية، وترسيخ نموذجها كممثل للعالم الإسلامي الأوسع، وهو ما من شأنه توسيع القيادة الدولية إلى ما هو أبعد من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
وفي مقابل التوجه إلى الغرب، ستحافظ تركيا على علاقاتها مع روسيا، بل ستعززها من خلال الحوار المتوازن بوصفه حجر الزاوية في السياسة الخارجية التركية، فموقف تركيا بشأن الحرب الروسية جلب لأوكرانيا بعض الفوائد أيضًا، مثل صفقة الحبوب، إذ توسطت تركيا في يوليو (تموز) 2022 في اتفاق يسمح بتصدير الحبوب الأوكرانية والروسية، وغيرها من الصادرات الزراعية، عبر البحر الأسود، إضافةً إلى اضطلاع تركيا بدور الوساطة منذ بداية الحرب، في حين ستواصل أنقرة في جنوب القوقاز تعميق حضورها في الوضع الجيوسياسي الجديد في المنطقة، والاضطلاع بدور صانع السلام بين أذربيجان وأرمينيا، بالتعاون مع كل من روسيا وإيران، وهو ما سيساعدها على توفير الظروف المناسبة لإعادة تطبيع علاقاتها مع أرمينيا.
أما فيما يتعلق بالتوجه نحو الشرق الأوسط، فقد فتحت أنقرة فرصًا أمام الاستثمارات الخليجية لإنعاش الاقتصاد التركي، وفق اتفاقات تعاون خلال جولة أردوغان الخليجية الأخيرة في السعودية، وقطر، والإمارات، حيث ستعمل تركيا- خلال العام الجديد- على تعميق شراكتها الإستراتيجية مع الدول الخليجية، من خلال التعاون في السياسات الإقليمية. وفيما يتعلق بالصراع في سوريا، فإن الاتجاه التركي سينصب على التوصل إلى تعاون مع دمشق، وموسكو، وطهران في بعض المسائل الأساسية، مثل مكافحة الإرهاب، وتحقيق العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين، غير أن الحرب الإسرائيلية على غزة ستبقى مصدر ضغط كبير على العلاقات الجديدة بين تركيا وإسرائيل، لكن أنقرة ستعمل على الاستفادة من هذا الوضع المضطرب لتعميق حضورها في القضية الفلسطينية من جهة، وتعزيز علاقاتها الاقتصادية بإسرائيل من جهة أخرى.
محصلة القول هي أن أردوغان سيحاول الاستفادة من الزخم بشأن فوزه بولاية ثالثة في ترسيخ قواعد جديدة لسياسة تركيا الخارجية، قائمة- في الأساس- على تحسين وضع الاقتصاد والتجارة مع الدول الغنية؛ ومن ثم ستعمل أنقرة على حل مخاوف أمنها القومي بالطرق الدبلوماسية، غير أن هذا لا يمنع التحديات التي ستواجه أردوغان خلال ولايته الجديدة فيما يتعلق بخطورة العلاقات المتشابكة مع روسيا والغرب؛ ما يستوجب سياسة أكثر فاعلية في التعامل مع التحديات الجيوسياسية الشرق أوسطية الجديدة، خاصةً تلك التي أفرزتها الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي ضوء هذا، يتوقع أن تسلك الدبلوماسية التركية نهجًا متوازنًا، تظل تركيا فيه عضوًا فاعلًا في حلف الناتو، في حين تزيد هامش استقلالها عن النفوذ الغربي، دون أن تكون في حالة عداء مباشر معه؛ باحتواء الخلافات لتحقيق المصالح التركية، ومواصلة التقدم في ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إذ لم يمنعها هذا التحرك من قبل من الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع روسيا، وخاصة في ظل خطة تركيا الاقتصادية الجديدة، التي تهدف إلى زيادة احتياطي العملات الأجنبية لدى البلاد بحلول عام 2026.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.