لا ينسى الإسرائيليون أن تركيا هي أول دولة إسلامية اعترفت بقيام إسرائيل في 28 مارس (آذار) عام 1949، أي قبل مرور عام واحد على قيام دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1945، وأول بعثة دبلوماسية تركية وصلت إلى إسرائيل كانت في السابع من يناير (كانون الثاني) 1950، وقدمت أوراقها للرئيس الإسرائيلي حاييم وايزمان، ومنذ ذلك التاريخ تعمقت العلاقات التركية الإسرائيلية في جميع المجالات، وإن تعرضت في بعض الأحيان لسقطات أو عثرات، لكن تظل العلاقات العسكرية والأمنية والاستخباراتية خارج دائرة أي خلافات سياسية، أو سجال دبلوماسي.
ورغم تقييم البعض لرد الفعل التركي على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بأنه كان أقل بكثير من رد الفعل التركي في أثناء اعتداءات إسرائيلية سابقة على قطاع غزة، في ظل تداول أخبار- نفتها أنقرة- عن طرد تركيا لقادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ، رغم كل ذلك عادت الملاسنات الكلامية بين تركيا وإسرائيل عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام متظاهرين في مدينة إسطنبول، نهاية الشهر الماضي، أن “تركيا تقوم بالتحضيرات اللازمة من أجل إعلان إسرائيل مجرمة حرب أمام العالم، وأن إسرائيل ليست سوى بيدق في المنطقة سيتم التضحية به عندما يحين الوقت، وأن حركة حماس ليست إرهابية”.
هذا التصريحات دفعت حكومة تل أبيب إلى سحب الدبلوماسيين الإسرائيليين من أنقرة، ولم ترد تركيا بإجراء مماثل؛ مما جعل الكثيرين يتساءلون هل تواصل تركيا هذه الخطوات التي أغضب إعلانها حكومة إسرائيل؟ أم أن ما جرى سوف يكون مجرد ملاسنات دبلوماسية تتجاوزها لغة المصالح العسكرية والاقتصادية التي تجمع البلدين منذ اليوم الأول لقيام إسرائيل؟
عند كل اعتداء إسرائيلي على غزة منذ عام 2008، كان الرئيس التركي يتفاعل بقوة مع الجانب الفلسطيني، لكن أنقرة وتل أبيب كانتا تتجاوزان هذه الحالة العاطفية بفضل المصالح الكبيرة التي تجمع القطاعات العسكرية، والاستخباراتية، والاقتصادية بين البلدين منذ الاتفاق الكبير الذي وقعه رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون ونظيره التركي آنذاك عدنان مندريس، باسم “ترايدنت”، أو ما سُمِّي بعد ذلك “ميثاق الشبح”، وهو الاتفاق الذي رسم “خريطة طريق” للتعاون الإسرائيلي التركي في المجالات الأمنية، والدفاعية، والاستخباراتية. ومنذ اتفاق الشبح، بدأت العلاقات بين إسرائيل وتركيا تتعمق، ودعمها في ذلك توقيع اتفاقيتي تعاون دفاعي في فبراير (شباط) وأغسطس (آب) 1996 في عهد حكومة نجم الدين أربكان ذات الطابع الإسلامي، وكان من مكاسب هذه الاتفاقيات الأمنية أن ساعدت إسرائيل على القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان عام 1999 في مطار نيروبي بكينيا، واعتمدت تركيا طويلًا على اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة لمنع إقرار واشنطن بالإبادة الجماعية للأرمن على يد الأتراك عام 1915، وحتى عندما كانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في ذروتها، وقعت تركيا مع إسرائيل عام 2002 اتفاقية لتحديث 170 دبابة تركية بمليار دولار، وأبقى حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2002 على كل الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع إسرائيل منذ اليوم الأول لحكم الرئيس أردوغان، لكن العلاقات بين البلدين تعرضت لملاسنات إعلامية ودبلوماسية عام 2008 على وقع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، لكنها لم تتضرر كثيرًا إلا عندما سقط قتلى أتراك في عام 2010 بعد الهجوم الإسرائيلي على السفينة “مرمرة”، وهذا التوتر لم يؤثر في التعاون العسكري والاقتصادي، فمشروعات التصنيع العسكري المشترك ما زالت قائمة، ووصل معدل التجارة بين البلدين عام 2022 إلى نحو 8 مليارات دولار، وزار أكثر من 800 ألف سائح إسرائيلي المنتجعات التركية.
هذه المصالح تجعل أي خلاف تركي إسرائيلي عابرًا مثل سحابات الصيف، خاصة في ظل مجموعة من العوامل التي تصب كلها في اتجاه الإبقاء على التعاون بين البلدين؛ فتركيا في حاجة شديدة إلى التعاون الاقتصادي والعسكري مع إسرائيل، وخير شاهد على هذا الأمر أنه منذ بداية الحرب الحالية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) أكتوبر الماضي لا يوجد أي تقييد لحركة التجارة أو السياحة بين البلدين، كما تأمل تركيا أن تؤدي دورًا محوريًّا في إطلاق سراح الرهائن الغربيين لدى حماس؛ بما يعزز مكانتها لدى الولايات المتحدة والغرب. كما عادت العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيت أكثر قوة في أغسطس (آب) 2022، ويتوقع لها أن تكون أكثر تعاونًا وقوة في أقرب وقت في ظل وجود وزير الخارجية التركي هاكان فيدان على رأس الدبلوماسية التركية، وهو المهندس الحقيقي لعودة العلاقات الإسرائيلية التركية عندما كان رئيسًا للمخابرات التركية.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.