في مقابلة أُعدت خصيصًا لبرنامج “المراجعة الدولية“، على قناة “روسيا 24” الفضائية، استضاف فيودور لوكيانوف، محلل الشؤون العسكرية روسلان بوخوف، وطرح عليه عدة أسئلة عما رآه العالم من ضعف لأجهزة المخابرات والجيش الإسرائيلي، وكيف أن دولة إسرائيل لا تستطيع حماية مواطنيها، وأسباب فشل المخابرات الإسرائيلية، وعدم استعداد الجيوش الحديثة لهجمات مفاجئة، ولماذا يخسر الإسرائيليون هذه الحرب من الناحية الأخلاقية والمعنوية.
إن الأزمة في الشرق الأوسط ليس لها بعد سياسي فحسب؛ بل عسكري أيضًا. كيف يمكن أن نفهم الفشل في الكشف عن عملية أُعِدَ لها جيدًا تحت أنظار الإسرائيليين؟
على الرغم من الطبيعة المثيرة لهذا الفشل في مجال المخابرات، فإن هناك أمثلة كثيرة في التاريخ. والحقيقة هي أن النشاط الاستخباراتي لا يقتصر فقط على جمع المعلومات، الذي كانت الاستخبارات العسكرية الأمريكية والسوفيتية قوية دائمًا فيه؛ ولكن أيضًا تفسير هذه المعلومات وتسليمها إلى القيادة السياسية العليا، وهنا تنشأ المشكلات غالبًا، سواء على مستوى التصور من جانب القيادة السياسية العليا (يمكننا أن نتذكر ستالين في عام 1941، الذي رفض بيانات استخباراتية لم تعجبه)، أو على مستوى كيفية تقديم قيادة الاستخبارات هذه البيانات للقيادة السياسية العليا.
في كتاب أستاذ العلوم السياسية الأمريكي الشهير روبرت جيرفيس “لماذا تفشل الاستخبارات؟ دروس من الثورة الإيرانية وحرب العراق”، كتب هذه الكلمات: “دقة المعلومات الاستخباراتية تقود صناع السياسات إلى البحث عن تقييمات تعزز مواقفهم، وتمنحهم الثقة، وكذلك فإن المعلومات الاستخبارية الخاطئة تسمح لهم- في كثير من الأحيان- برفض التقارير المزعجة، أو تجاهلها”، أي إنه يمكنك النظر إلى هذه المعلومات بالطريقة التي تريدها.
الإسرائيليون يركزون بشدة على حزب الله، والضفة الغربية، وإيران، وبدا لهم أن حماس هي الحلقة الضعيفة، وأنهم يعرفون كل شيء في غزة. من المؤكد أن غزة كانت ملأى بعملائهم؛ لذلك كانوا متأكدين تمامًا من أنهم لا ينبغي أن يتوقعوا هجومًا من هناك.
هل كان هناك أي شيء آخر غير المفاجأة؟ ربما نوع من الابتكار من حماس؟
إن ما أثار الدهشة لم يكن أن حماس تصرفت بأي طريقة إبداعية، مع أن المرء لا يستطيع أن ينكر قدرًا معينًا من البراعة، وسعة الحيلة؛ بل كان مدى الضعف الذي أصبح عليه الإسرائيليون. ومن الواضح أن حماس، ومن يقدمون لها المشورة، كانوا يدرسون أوجه القصور النظامية في دفاعات إسرائيل منذ أشهر، إن لم يكن سنوات. لو كان الإسرائيليون مثل الصخرة، لما مسها أحد، لكن الماء سيجد لنفسه مخارج، ومن هذه الشقوق تدفقت المياه، وحُطِّمَت ما تسمى “الصخرة”؛ ولذلك دهش الجميع من ضعف الإسرائيليين، مع أن أولى بوادر ضعفهم بدت في عام 2006، في حربهم مع حزب الله في لبنان، على غير السيناريو الذي رُسم في تل أبيب.
الضعف هنا ليس تكنولوجيًّا، وليس من حيث المعدات؛ وإنما هو بشري في التفكير، على ما يبدو؟
أعتقد أن نقطة الضعف الرئيسة هي التقليل من أن العرب الذين هزموهم في الفترة من 1948 إلى 1982 ليسوا هم العرب نفسهم الذين يقاتلونهم الآن. لقد تحسن المجتمع العربي تحسنًا كبيرًا، وخاصة العرب الذين يجاورون إسرائيل. وهذه مجتمعات صناعية وما بعد صناعية إلى حد كبير، وليست تلك التجمعات من الفلاحين الذين تم تفريقهم بسهولة على يد الجيش والمخابرات الإسرائيلية الأكثر تنظيمًا. تخيل للحظة أنه خلال عشر سنوات، سيكون لكل ساكن في غزة طائرته الرباعية المراوح، مع قنبلة يدوية. ماذا سيفعل الإسرائيليون حينئذ؟
فيما يتعلق بالطائرة الرباعية المزودة بقنبلة يدوية، والطائرات الشراعية، والدراجات البخارية، وكل ما رأيناه هنا، فأنا لست خبيرًا، ولا أستطيع الحكم، لكن لديّ شعور بأن التطور العسكري والمعدات الباهظة الثمن المستخدمة، والأسلحة، لم تعد تؤدي الدور نفسه الذي كان في الماضي: “تخيل أن لديه سلاحًا سيكلفك عشرات الدولارات، ولكي تحتاج إلى مواجهته، فأنت بحاجة إلى آلاف الدولارات”.
أي جيش، أو أي قوة مسلحة، حتى لو كانت متمردة، بحاجة إلى الأسلحة العالية التقنية، الباهظة الثمن، لكن هذا لا يغير من حقيقة أنه يجب أن يكون لديك أيضًا عدد كبير من الأسلحة المنخفضة التقنية التي يمكنك استخدامها دون التفكير في تكلفة هذه الأسلحة. لو نظرنا هنا من حيث التكلفة الفعلية، ما تكلفة عملية حماس هذه؟ من 20 إلى 25 مليون دولار على ما أعتقد، في حين تصل التكلفة على إسرائيل إلى مئات الملايين من الدولارات. وإذا كانوا يريدون احتلال غزة، التي لم تعد قرية؛ بل مدينة كبيرة، يبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني نسمة، فستكون هذه عملية مكلفة جدًّا من حيث المال، ناهيك بحقيقة أن إصلاحات أجهزة المخابرات والقوات المسلحة التي من المرجح أن يتم العمل عليها بعد هذا الفشل، ستتطلب أيضًا استثمارات كبيرة، وزيادة في الميزانية العسكرية.
لقد أظهر لنا القرن الحادي والعشرون بالفعل عددًا لا بأس به من الحروب. فهل يمكن القول، مع الأخذ في الحسبان ما حدث الآن وسابقًا (أوكرانيا، وسوريا، واليمن، وغيرها)، أن هناك بعض الاتجاهات العامة لتطور الفن العسكري؟
خذ على سبيل المثال الطائرات بدون طيار، بشكل عام، قبل عشر سنوات كانت تُصَنَّع حصريًّا في المصانع العسكرية، وبأمر من وزارات الدفاع، أو وكالات إنفاذ القانون الأخرى. الآن كل شيء مختلف، يمكن الآن لأي أحد أن يمتلكها ويعلق عليها قنبلة يدوية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لقنبلة يدوية تكلف بضع مئات من الدولارات أن تدمر دبابة “ميركافا” تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات؛ لذلك، هناك ثورة معينة.
ومن ناحية أخرى، لا يوجد شيء جديد تحت الشمس، وهذا النجاح غير المتوقع الذي حققته حماس، يشبه- إلى حد كبير، مع بعض الفوارق- الانتفاضة البولندية في وارسو عام 1944، ضد الجيش النازي، التي اندلعت وفقًا للأنماط نفسها تقريبًا. لقد رأينا ذلك مرات كثيرة: “هجوم مفاجئ يهدف إلى إضعاف معنويات العدو”. دعونا نتذكر- على الأقل- الهجوم المسلح على غروزني في أغسطس (آب) 1996، عندما دخلوا- بشكل غير متوقع- المدينة التي كانت تسيطر عليها القوات الحكومية. هذا الهجوم، خاصة إذا رافقته تغطية إعلامية جيدة، يهدف إما إلى كسر معنويات العدو وإسقاطه، وإما إلى إلحاق ضرر لا يمكن إصلاحه بصورته، وهو ما حدث بالفعل مع إسرائيل. لم يرَ العالم كله ضعف أجهزة المخابرات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي فحسب؛ بل رأى أيضًا أن دولة إسرائيل لا تستطيع حماية مواطنيها. أعتقد أن مأساة السبت هذه ستقسم تاريخ إسرائيل إلى ما قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وإلى ما بعده.
هناك أيضًا نقطة مفادها أن حجم رد الفعل، والتهور بلا ضوابط أو كوابح، قد يكون أيضًا حافزًا لمزيد من التطور الكارثي إلى حدٍ ما. من المثير للدهشة أن علينا أن نقتبس من كلمات أردوغان، لكنه أشار- بشكل مناسب جدًّا- إلى أنه: “إذا تصرفت إسرائيل كمنظمة عسكرية، فلا يجب عليها أن تنتظر أن تُعامَل كدولة”.
إن الهياكل غير الحكومية، التي لا تطالب- بشكل عام- بأي مطالب كبرى، مثل الدول، يمكنها أن تتحمل شيئًا كهذا، لكن آلة العنف التابعة للدولة، لا يمكنها أن تنحدر إلى هذا المستوى. ويبدو أن الإسرائيليين يخسرون هذه الحرب أخلاقيًّا، ومعنويًّا.
ما ورد في الحوار يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير