يوافق السادس والعشرون من أغسطس (آب) 2023 الذكرى الثمانين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين روسيا ومصر، التي مرت بعدة مراحل مختلفة، ويمكن ذكر الكثير منها. ومع ذلك، مثّلت هذه العلاقة بداية حلقة مهمة لم تحدد- إلى حد كبير- التعاون بين البلدين فحسب؛ بل حددت أيضًا سياسة موسكو في إفريقيا، والعالم العربي بشكل عام، وأعني هنا أزمة السويس عام 1956، وهي مرحلة مفصلية في عملية تصفية الاستعمار.
كانت القارة الإفريقية بعيدة- فترة طويلة- عن بؤرة اهتمام القوى الاستعمارية: قسَّم المستعمرون- بحماسة- مساحات شاسعة من أمريكا الجنوبية والشمالية، وآسيا وأستراليا، وأوقيانوسيا، في حين كانت إفريقيا في الظل. لكن في المرحلة الأخيرة من الانقسام الاستعماري للعالم، جاء دورها. ظهر في هذه المرحلة المصطلح الشهير “التدافع على إفريقيا”، الذي حدّد- على مدى عقود- مصير الدول الإفريقية، بما في ذلك مصر.
بحلول الثمانينيات من القرن التاسع عشر، تمتعت مصر بحكم ذاتي كبير داخل الإمبراطورية العثمانية بعدما انتزعته بالقوة من خلال مواجهتين حربيتين ناجحتين؛ الأولى في (1831-1833)، والثانية في (1839-1841)، لكن سرعان ما استُبدل الاستعمار البريطاني بالسيطرة العثمانية الضعيفة. في عام 1882، احتلت بريطانيا العظمى مصر، ووضعتها تحت سيطرة إدارتها، مع أنها ظلت رسميًّا تحت حكم السلطان التركي حتى عام 1914.
كان احتلال مصر بداية لتقدم عميق للبريطانيين في إفريقيا، بدأ في وقتٍ واحد من الشمال إلى الجنوب (من مصر إلى السودان)، ومن الجنوب إلى الشمال (من أراضي مستعمرة كيب “رأس الرجاء الصالح” إلى روديسيا “زيمبابوي وزامبيا”). أصبح توسع بريطانيا العظمى إشارة للقوى الأخرى لاستعمار القارة الإفريقية، وبحلول بداية القرن العشرين، لم تكن هناك دولة واحدة مستقلة عمليًّا على أراضيها.
ومع ذلك، بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى، أصبح من الصعب على القوى الاستعمارية الحفاظ على مستعمراتها. لم تكن بريطانيا العظمى استثناءً؛ لذلك اضطرت إلى منح الاستقلال لمصر في عام 1922، مع أن القوات البريطانية كانت لا تزال على أراضيها في قاعدتها بجوهرة البلاد الاقتصادية (قناة السويس) المملوكة لشركة بريطانية- فرنسية. في الوقت نفسه، تطورت شروط إنهاء الممارسات الاستعمارية تدريجيًّا في السياسة العالمية، وبحلول نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كان الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة.
كانت الخطوة الحاسمة نحو إنهاء التبعية الاستعمارية لمصر هي ثورة 23 يوليو عام 1952؛ ونتيجة لذلك استُبدِل نظام حكم جمهوري بالنظام الملكي. كانت إحدى أولى خطوات الرئيس جمال عبد الناصر تطوير التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي، وتأميم شركة قناة السويس، التي حُرمت مصر عقودًا طويلة من استغلال أرباحها. في الوقت نفسه، لم تقبل بريطانيا العظمى وفرنسا خسارة مصدر الدخل هذا، فضلًا عن فقدان التأثير في مصر، ووفق الأسلوب الاستعماري القديم، حاولوا استعادة مواقعهم.
في أكتوبر (تشرين الأول) 1956، بدأت إسرائيل، من خلال اتفاق مسبق مع لندن وباريس، الأعمال العدائية ضد مصر. أصبح هذا الهجوم حجة للمستعمرين البريطانيين والفرنسيين للإعلان بنفاق عن الحاجة إلى إدخال قواتهم إلى منطقة قناة السويس من أجل حمايتها. بعد أن رفضت مصر الموافقة على ذلك، لجأت بريطانيا وفرنسا إلى التدخل، وهاجمت مواقع القوات المصرية.
في الوقت نفسه، كان الزمن قد تغير، وأصبح من المستحيل على هذه القوى الاستعمارية التصرف في عام 1956 كما كانت تفعل في عام 1882. أدانت حكومة الاتحاد السوفيتي- بشدة- تصرفات بريطانيا العظمى وفرنسا، وقدمت دعمًا كبيرًا لمصر. سمح الاتحاد السوفيتي للمتطوعين المستعدين لمحاربة العدوان البريطاني والفرنسي بالسفر إلى مصر للقتال بجانب جيشها وشعبها، وأشار وزير خارجية الاتحاد السوفيتي دميتري شبيلوف، في صفحات صحيفة برافدا، إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية ضد الدول التي تشن عدوانها على مصر.
نتيجة لذلك، اضطر المستعمرون إلى الاعتراف بالهزيمة، وسحبوا قواتهم من منطقة قناة السويس. أصبحت أحداث عام 1956 مرحلة فارقة، وإعلانًا واضحًا لا رجعة فيه لهزيمة للاستعمار. الأثر الذي خلفته أزمة السويس كان له تأثير “الدومينو”، وأصبحت حافزًا للدول الإفريقية الأخرى للمطالبة بالتحرر من التبعية الاستعمارية. بعد وقت قصير من أزمة السويس، جاء عام 1960، الذي أعلنت فيه الأمم المتحدة وثيقة “إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة”، ويعود الفضل في ذلك- إلى حد كبير- إلى التعاون السوفيتي المصري، الذي نجح في صد محاولات استعادة الماضي الاستعماري.
أصبحت أحداث عام 1956 مثالًا حيًّا على التعاون السوفيتي المصري، الذي لا يزال يتطور حتى يومنا هذا. يسعى “الاتحاد الروسي”- خليفة الاتحاد السوفيتي- إلى تطوير علاقات متساوية ومفيدة للطرفين مع مصر. حاليًا، تتفاعل موسكو والقاهرة- بشكل فعال- على الساحة الدولية، وتطوران عددًا من المشروعات الاقتصادية المشتركة الواعدة. تتطور التجارة المتبادلة بشكل نشط، فضلًا عن التعاون الثقافي، والاتصالات في المجالين الإنساني والتعليمي.
أما مواطنو روسيا، فمصر ليست دولة بعيدة عنهم؛ فمنذ التسعينيات من القرن الماضي يستمتع ملايين الروس بالاستجمام في المنتجعات المصرية، وكثير منهم لديه شغف وتواصل مع مصر وعظمة تاريخها وثقافتها، وزيارة القاهرة والإسكندرية ومعابد الأقصر والكرنك وأبي سمبل. يتيح الجمع بين التعاون المتعدد الاتجاهات بين روسيا ومصر للبلدين النظر بثقة إلى المستقبل، وتبني نهج تدريجي هادئ بشأن التطور الإيجابي للعلاقات الثنائية.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير