تحل في عام 2023 ذكرى مرور 80 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وروسيا. ويجمع القاهرة وموسكو تاريخ من التعاون بلغ حد التحالف العسكري خلال الخمسينيات حتى الانتصار المصري في حرب عام 1973. ودعم الاتحاد السوفيتي الجيش المصري في أكثر لحظاته التاريخية خطورة عام 1967، بعدما وجهت إليه إسرائيل ضربة خاطفة أفقدته سلاح طيرانه، وأدت الأخطاء السياسية والعسكرية إلى احتلال شبه جزيرة سيناء، وقد وجد قرار الرئيس جمال عبد الناصر، ومن بعده محمد أنور السادات، إعادة بناء الجيش وتحرير الأرض، داعمًا قويًّا في السوفيت، وحليفًا موثوقًا به؛ لذا تهدف هذه الورقة إلى عرض وسائل الدعم العسكري السوفيتي للجيش المصري خلال الإطار الزمني (1967- 1973) لتوضيح عدة نقاط، يُمكن تلخيصها على النحو التالي:
في غضون الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على الأراضي المصرية، انتشرت في وسائل الإعلام السوفيتية مقارنة بين الهجوم الإسرائيلي والهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي. ولم تكن هذه مجرد دعاية للسياسيين والجنرالات الذين كانوا قادة أو مفوضين خلال “الحرب الوطنية العظمى- الحرب العالمية الثانية”، والضباط من الرتب المتوسطة الذين كانوا جنودًا صغارًا، فقد كان تأثير التعثر العسكري المصري مثيرًا للذكريات والعاطفة. وعكست هذه المقارنة ردة فعل سوفيتية غريزية تقريبًا على إعادة تنظيم وتسليح القوات المصرية والهجوم المضاد.
عندما بدأ الهجوم الإسرائيلي في 5 يونيو (حزيران)، استُدعِيَ نائب وزير الخارجية فلاديمير سيمينوف إلى اجتماع المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، وسجل في مذكراته أن الإشارات القادمة من القاهرة كانت “مأساوية”، كأن الأيام الأولى للحرب في الاتحاد السوفيتي عام 1941 تعيد نفسها، في حين كتب الجنرال في القوات الجوية السوفيتية ألكسندر فيبورنوف، الذي كان في مصر قبل الحرب، وشهد الهجوم الإسرائيلي على مدرجات الطيران المصرية: “تذكرت موسكو عام 1941”.[1]
تجربة الحرب العظمى والظروف العَقَدَية المسبقة، بالتزامن مع تداعيات الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة، دفعت القيادات السوفيتية إلى توقع أن إسرائيل ستعظم انتصارها من خلال استئناف الهجمات الجوية والتقدم البري، أو كليهما، عبر قناة السويس. وقد فرض هذا استجابة فورية لمنع وقوع كارثة أسوأ؛ لذا بدأ أول مظهر من مظاهر العزم السوفيتي على دعم مصر من خلال جسر نقل جوي للعتاد العسكري.
في 20 يونيو (حزيران)، خلال الجلسة الأولى للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي بعد الحرب، صرح الأمين العام للحزب آنذاك ليونيد إيلييتش بريجنيف: “سنقدم مساعدة للجمهورية العربية المتحدة (مصر) لتجديد قواتها المسلحة”، لكن الوثائق تكشف أن القاهرة طلبت تعويض خسائرها العسكرية من الحرب، وجاءت الموافقة السوفيتة فورًا عليها في وقت مبكر من اليوم الخامس، أي في غضون ساعات من الضربة الإسرائيلية. وفي اليوم نفسه، سعى أليكسي نيكولايفيتش كوسيغين، رئيس حكومة الاتحاد السوفيتي، إلى تسيير أولى الرحلات الجوية، وحصل على إذن بالتحليق فوق يوغوسلافيا.[2]
بين 8 و9 يونيو (حزيران)، بدأ الجسر الجوي على قدم وساق، وكان تعويض مصر عن خسائر سلاح الطيران أولوية قصوى؛ لذا سُحبت طائرات سوفيتية من بحر البلطيق وجورجيا وتوجهت إلى القاهرة، وبسبب نقص حاملات الطائرات السوفيتية في البحر الأبيض المتوسط، أو خيارات التزود بالوقود الأخرى، كان نقل المعدات والمستشارين من قواعد في أوروبا الشرقية إلى مصر غير عملي. بدلًا من ذلك، استُخدمت تشكيلات من طراز (An-12) (الشكل السوفيتي الشبيه بالطائرة C-130 Hercules) لحمل طائرات (MiG) مفككة، وبهذا يمكن حمل طائرتين من طراز (MiG-21) على الأكثر بواسطة كل طائرة نقل، وبالفعل نُفِّذَت (544) طلعة جوية من طراز (An-12) من بودابست إلى القاهرة، وسُلِّمَت (336) طائرة مُقاتلة من طرازات مُختلفة.[3]
صحب طائرات (MiG) أطقم ميكانيكية سوفيتية لتجميعها، ولم تكن موجهة إلى قواعد التدريب؛ بل ذهبت مباشرة إلى الوحدات المصرية القتالية الباقية. وفرض هذا الاستعجال الاعتماد على ضباط سوفيت من النخبة لتُرافق المُعدات. وقد قرر بريجنيف أن يعمل الضباط السوفيت على المستوى الميداني، وليس فقط في المقر الرئيسي، أو مرافق التدريب، وهذا بهدف رفع الروح المعنوية والقدرة القتالية للمصريين في مواجهة العدو الإسرائيلي على الضفة الشرقية لقناة السويس.
في صيف عام 1967، كانت موسكو حازمة في صد أي تطور لهجمات إسرائيل على مصر، وظلت الصواريخ السوفيتية الباليستية العابرة للقارات، التي تسلحت برؤوس حربية بقوة نصف ميجا طن، في حالة تأهب شهرين، كما يشهد بذلك ضابط سابق في قوات الصواريخ الإستراتيجية في الشرق الأقصى. وفي أكتوبر، اعترف وزير الخارجية أبا إيبان “إلى أنه في يوليو، تلقت إسرائيل رسالة من السوفيت، عبر السويديين، مفادها أنه إذا عبر الإسرائيليون القناة، لن تكون هذه الحرب مجرد مسألة عربية- إسرائيلية”.[4]
كانت موسكو صادقة؛ إذ هبط سرب من قاذفات (Tu-16) الإستراتيجية في غرب القاهرة، لقد مكثوا مدة وجيزة فقط، لكنهم شكلوا سابقة لمثل هذا الوجود العلني للقوات السوفيتية، وبالتزامن، وصل رئيس الأركان المارشال ماتفي زخاروف إلى القاهرة مع وفد يضم عشرات الضباط، وبإيجاز واضح نقل قول بريجنيف: “بعد تحليل دروس الحرب، أطلقنا إعادة تسليح الجيش المصري”.
نصت الاتفاقية المصرية- السوفيتية، الموقعة في أكتوبر (تشرين الأول) 1967، رسميًّا على إرسال آلاف من المستشارين السوفيت (بإجمالي يقدر بـ 2500 بحلول نهاية العام، وكان من بينهم أسماء بارزة، مثل الكولونيل بافيل أفاناسيف، بطل الاتحاد السوفيتي) على النحو الذي اقتضته عمليات تسليم الأسلحة، وكذلك المتطلبات العملياتية. على سبيل المثال، في سبتمبر، نُقلت ست طائرات من طراز (Tu-16T) إلى قاعدة غرب القاهرة تحت إشراف المدربين السوفيت، وبدأت الطواقم المصرية بالتدرب عليها. وبحلول بداية حرب(1973 كانت أطقم (Tu-16) المصرية جاهزة بالفعل بشكل كافٍ للمهام القتالية.
تم تعميم مصطلح “حرب الاستنزاف” لأول مرة على الصراع المصري الإسرائيلي في تقرير صادر عن موسكو بعد أيام قليلة من اشتباك “رأس العش” في يوليو (تموز) 1967، إلا أن حرب الاستنزاف مؤرخة عادة على أنها بدأت في 9 مارس (آذار) 1969. ومع ذلك، اقتُرحَت عدة تواريخ سابقة، بعضها من أطراف معنية بشكل وثيق، مثل نائب الرئيس آنذاك محمد أنور السادات؛ إذ أشار إلى تطوير مرحلي تم تنسيقه مع موسكو، ومع مستشاريها على الأرض خلال صيف عام 1968. وبحلول الذكرى السنوية لحرب 1967، كان التقدير السوفيتي أن الجيش المصري قد استعاد قدرته على القتال.
في هذه الأثناء نفذت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية أول غارة من نوعها في العمق المصري في مدينة نجع حمادي، وأكد المستشارون السوفيت أنها لم تكن فقط غارة جوية إسرائيلية؛ بل عملية كوماندوز “مخططة ومنفذة جيدًا” أصابت جسورًا على النيل، ومنشأة كهربائية في منتصف الطريق بين القاهرة وأسوان، وهذا يعد تهديدًا خطيرًا للقيادة المصرية؛ لذا أطلق الجيش السوفيتي عملية عسكرية تحت الاسم الرمزي “قوقاز – قفقاس”، وسُمِّيت بأمر من وزير دفاع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية المارشال أ. جريتشكو، وكان جوهر العملية هو إنشاء نظام دفاع جوي في مصر يعتمد على الوحدات النظامية للجيش السوفيتي. وتتمثل الإجراءات الأولية في تشكيل قسم خاص للدفاع الجوي من الوحدات النشطة السوفيتية، والإرسال اللاحق إلى مصر. وقد قام المارشال بافيل باتيتسكي، القائد العام للدفاع الجوي، شخصيًّا بتعيين المهام للاجتماع العملياتي الخاص في مصر.
صدر في 13 يناير (كانون الثاني) 1970 أمر سوفيتي بتكوين 18 لواء دفاع جوي مضاد للطائرات، وقاد اللواء أ. جي سميرنوف 24 فرقة صواريخ مضادة للطائرات، و4 فرق فنية، وبطاريتين تقنيتين، و24 فصيلة دفاع جوي، و3 فرق دعم، وفريق صيانة وأعمال ضبط وإصلاح.
في 5 يوليو (تموز) 1970، وفي الساعة الثالثة عصرًا هاجمت مجموعة من طائرات الفانتوم الإسرائيلية مواقع عسكرية مصرية، كان السرب الإسرائيلي مقسمًا إلى مجموعتين، وصدّ المقدم إس. كيه. زافينتسكي الهجوم، وسقطت إحدى القاذفات الإسرائيلية، فيما فتحت طائرة مصرية النار، مُسقطة طائرة مُعادية أخرى. وهكذا، كانت نتيجة الغارة الأولى خسارة الإسرائيليين طائرتين من طراز “فانتوم”. وفي تمام الساعة (16) بدأت إسرائيل غارة انتقامية ثانية بمجموعة من 10 طائرات. هذه المرة، لم تعمل قاذفات الصواريخ السوفيتية فحسب؛ بل عملت أيضًا المدفعية المضادة للطائرات، وخسرت تل أبيب طائرة فانتوم أخرى. بعد هذه الغارة، أدرك الإسرائليون أن سماء مصر لم تعد مُتاحة لهم، وأن عليم الحذر من مواجهة الأسلحة السوفيتية الجديدة.
وقد تسلم الجيش المصري أنظمة صواريخ (غراد -2)، التي ستساعد قاذفاتها المتعددة والمتنقلة التي حُدِّثَت على تحقيق التوازن ضد الآليات الإسرائيلية، بالإضافة إلى صواريخ مضادة للدبابات والدروع والطائرات تطلق من على الكتف من نوع: (Malyutka)، و(Sagger)، و(Strela-2)، و(SAM-7). وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1970، دمر صاروخ (Sagger) دبابة إسرائيلية لأول مرة، لتحدث صدمة مضادة ضد الدروع الإسرائيلية حتى حرب أكتوبر 1973. بعد مرور عقود على نهاية الحرب، لا تزال الأدبيات الإسرائيلية تستشهد بهذا الحدث كمثال على المفاجأة الناجمة عن سلاح شكل تهديدًا غير معروف، ولم يُقَيَّم تقييمًا صحيحًا.
خلال عام 1970، عندما بدأت طائرات فانتوم لتل أبيب باختراق العمق المصري، طار الرئيس ناصر إلى موسكو ليحصل على موافقة المكتب السياسي من خلال إصدار قرار لإرسال صواريخه الأكثر تقدمًا من طراز (SAM-3)، ومقاتلات (MiG-21)، جنبًا إلى جنب مع القوى العاملة لتشغيلها حتى يتم تدريب الأفراد المصريين. وبالتزامن مع الزيارة، أطلق رئيس الوزراء كوسيجين تحذيرًا للقوى الغربية من أنه إذا لم يتوقف العدوان الإسرائيلي فإن موسكو ستوفر للعرب الوسائل للدفاع عن أنفسهم، لكن الغارات الجوية الإسرائيلية استمرت، وصدق السوفيت في تنفيذ تهديدهم. بحلول أواخر مارس، ظهرت الصواريخ والطائرات التي يقودها السوفيت في منطقة القتال. كان هذا التدخل المباشر لقوة عظمى في صراع إقليمي نتيجةً مُباشرة لتصعيد إسرائيلي دموي لا مبرر له، وبشكل غير مباشر لتزويد الولايات المتحدة لها بالأسلحة.
19 يوليو (تموز) 1972، ذكر تقرير لوكالة تاس أن “عددًا من الأفراد العسكريين السوفيت سيعودون قريبًا إلى الاتحاد السوفيتي بعد الانتهاء من مهمتهم المؤقتة لتدريب القوات المصرية على الأسلحة السوفيتية”. ولم يُعطَ أي رقم رسمي لعدد الخبراء السوفيت الذين غادروا مصر آنذاك، أو تفاصيل مهمتهم.
كان الانسحاب الروسي بناءً على طلب من الرئيس محمد أنور السادات، الراغب- فيما يبدو آنذاك- في تأكيد استقلال مصر عن نفوذ القوة العظمى، وبالرغم من توتر العلاقات بين الرئاسة المصرية والمكتب السياسي السوفيتي في موسكو، فإن القاهرة تلقت شحنة ثانية من دبابات (T-62)، وكانت شحنة الدبابات “المتقدمة” هي الأولى التي تُسلَّم خارج حلف وارسو.
وعلى الرغم من خروج غالبية المستشارين الروس في يونيو (حزيران) 1972، فإن الاتحاد السوفيتي لم يقطع إمداده العسكري للجيش المصري، بل زاد من تدفق المعدات العسكرية إلى مصر. وبعد الحرب، أكد الصحفي المصري البارز محمد حسنين هيكل أنه لم تكن هناك فجوة كبيرة في إمدادات الأسلحة السوفيتية، وإنما وُفِّرَت بعض الأنظمة الهجومية الإضافية والمميزة، بل استمر توريد كميات من الأسلحة خلال النصف الثاني من عام 1973.
وتؤكد الوثائق البلغارية دعم موسكو لتكثيف الاستعدادات للحرب على الرغم من الخلافات في الفترة من أغسطس (آب) 1972 حتى يوليو (تموز) 1973، لكن استمر تسليم طلبات المُشير أحمد إسماعيل على قدم وساق. وعشية حرب أكتوبر، زود الاتحاد السوفيتي مصر (من بين أسلحة أخرى) بـ(100) مقاتلة من طراز (MiG-21)، وعشر قاذفات من طراز (Tu-16)، و(150) دبابة (T-54/55)، و(90) دبابة من أحدث طراز لدبابات (T-62)، و(60) قاذفة صواريخ (SAM-6).[5]
استمر الوجود السوفيتي أيضًا، أو استؤنف مع قاذفات مِن طراز (Tu-16s) في صعيد مصر. وبحلول يونيو (حزيران) 1972، أكملت عشرة أطقم مصرية دوراتها التعليمية، وفي يوليو “صدر أمر بإنهاء مهمة المستشارين الروس”، وسُلِّمت الطائرات للمصريين، ولكن عندما احتاجت قيادة القوات المسلحة المصرية إلى مساعدة خبراء مرة أخرى، وصلت إلى مصر، في ديسمبر (كانون الأول) 1972، مجموعة من المدربين من الوحدة نفسها في أسطول البلطيق، ومنهم خبراء صواريخ، وكان لديهم عقد مهمة مدته ستة أشهر، لكن خبراء الدفاع الصاروخي بقوا حتى أكتوبر 1973، وشهدوا عندما دكت هذه الطائرات أهدافًا إسرائيلية مع انطلاق الحرب.
الآن، وبعد عقود من سقوط الاتحاد السوفيتي، ووراثة روسيا لتُراثه في الشرق الأوسط، أصبح من الصحيح سياسيًّا، وصف الهجوم المفاجئ في أكتوبر 1973 بأنه “إحدى أكثر العمليات ذكاءً التي تصورها المستشارون العسكريون السوفيت وأصدقاؤهم المصريون”. وتأكيد أجوبة أسئلة مثل: هل علم السوفيت أن حرب أكتوبر كانت مقبلة؟ بالطبع نعم. هل ساعدوا في تخطيطها؟ يجب أن تكون الإجابة أيضًا نعم، إلى درجة أن متطلبات الأسلحة المصرية وُضِعَت مع خبراء سوفيت على أساس خطط عسكرية محددة؛ لذا ما يجب أن يخضع للتأويلات التاريخية هو قضايا التواطؤ العملي في التحضير للحرب من خلال التحركات العسكرية، وجهود الخداع والمشاركة المباشرة في إدارتها، وليس هل انقطعت العلاقات المصرية- السوفيتية آنذاك.
في منتصف يوليو (تموز) 1973، طورت موسكو قدرة مصر الهجومية، حيث تم بالفعل الموافقة على توريد صواريخ سكود، مع المعدات اللازمة لنشر لواء تكتيكي مصري، ووصلت مجموعة من المتخصصين في الصواريخ السوفيتية إلى القاهرة تحت قيادة العقيد سالنيكوف.[6] كانت الصواريخ من نوع جديد ومتطور، وستخضع لأول اختبار تشغيلي لها في الحرب، واكتشفت المخابرات العسكرية الإسرائيلية وصول الصواريخ لأول مرة في 24 أغسطس (آب) 1973؛ مما أدى إلى تغيير التقدير السابق بأنها لن تُورَّد إلى المصريين قبل عام 1976.
يؤكد التاريخ الرسمي للجيش الإسرائيلي أن صواريخ سكود قد ردعت بالفعل إسرائيل عن مهاجمة العمق المصري خلال الحرب، وتُظهر الأدلة المقدمة إلى لجنة أجرانات، التي كُشِف عنها في سبتمبر 2012، أن تقارير المخابرات التي وصلت إلى جولدا مائير في 23 أغسطس (آب) 1973- وفقًا للمعلومات الواردة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية- أن السوفيت قد نشروا في مصر لواء من صواريخ سكود “التي لديها رؤوس حربية نووية وكيميائية”. وفي الاجتماع، يبدو أنهم أساءوا فهم كلمة ” قادر على حمل رأس نووي”، وفهموها على أنها تعني “مسلحة نوويًّا”، ويبدو أن هذا أدى إلى ارتباك وخوف إسرائيلي من تطوير الهجوم ليصل إلى أي نقطة إستراتيجية مصرية.
كانت حرب أكتوبر نجاحًا للسياسة السوفيتية في الشرق الأوسط: انتهت المواجهة العسكرية العربية الإسرائيلية بتفوق مصري. في ظل الظروف السائدة آنذاك، كان عدم تحقيق نصر إسرائيلي في الواقع هزيمة على يد الجيوش العربية المجهزة بالأسلحة السوفيتية، والمدربة على أيدي مدربين سوفيت، ولكن بعد الحرب مباشرة، بدأت عملية سريعة لإخراج الاتحاد السوفيتي من المواقع النشطة في الشرق الأوسط.
إذا كان “خروج” السوفيت من مصر عام 1972 خدعة في الغالب، فقد أصبح حقيقة واقعة بعد عام 1973، لكن بقيت القاهرة تتمتع بالدعم السياسي السوفيتي، حتى إن العلاقة العسكرية استمرت. وقد بقي الجنرال إي. بوكوفيكوف في مصر حتى عام 1978، واحتفظ بلقب “قائد القوات السوفيتية”، وكان لديه كثير من النشاط للإشراف عليه. على سبيل المثال، شاركت السفن البحرية السوفيتية في إعادة فتح قناة السويس، وضمن السوفيت رعاية مشتركة لأول جهد بعد الحرب للتوصل إلى تسوية، مؤتمر جنيف في ديسمبر 1973.
بالرغم من الضربة القوية والخسارة التي أصابت الجيش المصري عام 1967، فإن الدعم والتسليح السوفيتي مكّنا المصريين سرعيًا من الوصول إلى ميزة (25:1) في الأسلحة الخفيفة، و (13:1) للقوى العسكرية العاملة على طول خط قناة السويس، واستعادت مصر عام 1968 ما يكفي من قدرتها العسكرية لبدء إستراتيجية جمال عبد الناصر- “الردع”، أو “الدفاع النشط”، كما وصفها وزير الدفاع محمد فوزي. وتم الانتهاء من إعادة التسلح بالكامل، بالإضافة إلى تحديث كوادر القيادة بأفراد ذوي جودة وتعليم أفضل، وتم تحسين استعداد المدفعية المصرية نوعيًّا.
كان الجيش المصري يتفوق على الإسرائيليين في جميع المواجهات خلال حرب الاستنزاف، ليس فقط فيما يتعلق بأعداد الأسلحة؛ ولكن من حيث جودة إطلاق النار، وأطلقت مئات المدافع على طول أكثر من 60 كيلومترًا من القناة العنان لإعصار من النيران، على سبيل المثال بعد ظهر يوم 8 سبتمبر (أيلول) 1968، أطلق المصريون أكثر من (10000) قذيفة على مدار ثلاث ساعات ونصف الساعة، وتسبب هذا في أضرار في نظام الدفاع الأمامي للجيش الإسرائيلي، وأثبت أن دفعاتهم على خط القناة واهية.
درب الخبراء السوفيت الوحدات المصرية في الميدان على البناء العملي للجسور العائمة حتى تصل إلى الكفاءة الكافية لعبور قناة السويس في حالة الحرب، وأظهرت القوات المصرية كفاءة مُنقطعة النظير ستُطَبَّق عمليًّا في حرب أكتوبر عام 1973 مُحققين النصر، ومُستعيدين أرض سيناء عبر دمائهم وروحهم المستعدة للتضحية، ومشتبكين بواسطة الأسلحة الروسية التي أثبت كفاءة وقوة ضد أحدث منظومات الأسلحة الأمريكية والفرنسية التي استخدمتها إسرائيل آنذاك.
وبالرغم من التاريخ الكبير بين روسيا ومصر، فإن العلاقات شهدت مرحلة من الركود خلال التسعينيات والألفية، ولكن العلاقات عادت تشهد قوة وتناميًا من جديد عقب عودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية بعدما تخلصت من تبعات انهيار الاتحاد السوفيتي الاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، وبالمثل في مصر، مع انتخاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورغبة الإدارة المصرية في تنويع حلفائها السياسين والاقتصاديين، عادت القاهرة وموسكو إلى التلاقي مُجددًا بشأن قضايا الأمن والسلم الدوليين، ومكافحة الإرهاب، والتعاون الاقتصادي، خصوصًا في مجال الطاقة النووية؛ إذ تُنشئ موسكو مفاعلًا نوويًّا سلميًّا في منطقة الضبعة المصرية لتوليد الكهرباء، وشاركت مصر بقطعها البحرية في المناورات العسكرية الروسية في البحر الأسود، وحضرت- بشكل نشط- القمم الروسية الإفريقية.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير