لقد حانت أيام الدبلوماسية العظيمة. سافر الرئيس فلاديمير بوتين للقاء رئيس الوزراء ناريندرا مودي، في نيودلهي، وأجرى الرئيس الروسي محادثة مع الرئيس الأمريكي يوم الثلاثاء. يعكس كلا الحدثين عمليات مهمة في تحديد شكل توازن القوى العالمي.
في كل مرة يبحث الممثلون الروس والهنود عن توصيف أكثر رحابة وحيوية لشكل العلاقة بين البلدين، التي يتم توصيفها، على سبيل المثال، على أنها: “شراكة إستراتيجية خاصة مميزة”. هذه التعريفات هي مزيج من تاريخ مشترك طويل وغني، وتفاعل وثيق، وفهم لأهمية العلاقة المتبادلة. لكن لا فائدة من الإنكار؛ فالعلاقات الآن معقدة جدًّا بسبب حقيقة أن الهند والصين تعارض كل منهما الأخرى علانية، وأن العلاقات الروسية مع الصين تتطور تطورًا كبيرًا، وهو ما تنظر إليه الهند بريبة؛ ولذا توسع من علاقاتها مع الولايات المتحدة كدولة أعلنت جمهورية الصين الشعبية منافسًا إستراتيجيًّا لها. موسكو ليست راضية عن هذا الأمر؛ لأن الوضع الروسي- الأمريكي عاد إلى أيام الحرب الباردة، وإلى أكثر فتراتها كآبة.
الإجابة لا؛ لأن كلتا الدولتين مهمة جدًّا بالنسبة إلى آفاق التنمية الروسية، واستقرار العالم.
بالتأكيد، أيضًا لا؛ فكلتا الدولتين مهمة جدًّا للهند.
كانت هذه هي الحال في الحرب الباردة، فليس من قبيل المصادفة أن ظهرت حركة عدم الانحياز في ذلك الوقت باقتراح من الهند، لكن في ذلك الوقت كان الأمر أسهل؛ لأن المواجهة كانت مبنية على مبادئ أيديولوجية، ولم يكن هناك أي أثر لهذا الترابط الاقتصادي كما هي الحال الآن. يحتاج الجميع في الوقت الحالي إلى اعتياد حقيقة أنه لا يوجد تقسيم واضح، والمصالح الاقتصادية تشمل الجميع؛ إلا أنها في المقابل غير قادرة على إطفاء نيران التنافس الجيوسياسي؛ لذا، ولأجل التعامل مع هذه الهندسة المتغيرة باستمرار في شكل العلاقات الدولية، ينبغي معرفة هذه الحقائق؛ لأن العالم- فيما يبدو- سيتقدم فقط في هذا الاتجاه.
على الصعيد الروسي- الأمريكي، بات كل شيء أكثر وضوحًا؛ هناك نسخة جديدة من المواجهة في أوروبا منذ نحو ستين عامًا، لكنها تحولت بقوة فقط إلى الشرق، من ألمانيا الشديدة التنظيم، وإن كانت منقسمة، إلى أوكرانيا الفوضوية، وذات الأحداث المفاجئة بشكلٍ دائم. مع ذلك، النقطة الرئيسية من حيث المبدأ في كل هذه الأوضاع هي عدم وجود شكل واضح ومنظم للمواجهة.
بعد عام 1991، ظهرت فكرة أنه لا يمكن بناء نظام الأمن الجماعي على أساس تعاقدي؛ بل على أساس إلزامي، وهو ما يتعارض مع طبيعة العلاقات الدولية؛ أي نشر هيكل معين، مثل «الناتو»، نفوذه من خلال منح (العضوية) على طول المحيط بكامله، دون تحديد الحدود الممكنة لهذا الحلف. ويستمر هذا التوسع طوال الوقت، على الرغم من ردود فعل اللاعبين الدوليين الآخرين، وهو ما يجعل من وجود معارضة لهذا التوسع أمرًا لا مفر منه. ولكن في حالة المؤسسات الأوروبية الأطلسية، لسببٍ ما، تم التوصل إلى أن هذه القاعدة لا تنطبق بالضرورة. ويمكن ببساطة تجاهل اعتراض اللاعب الخارجي، لأنه مخطئ. والنتيجة واضحة: تفاقم حاد للنزاع، حيث لا توجد أسباب تبرر ذلك بشكلٍ عام، وحيث تكون التنمية المنسقة والمتماسكة في مصلحة جميع القوى والبلدان المعنية دون استثناء.
أصبحت أوروبا، بغض النظر عن مدى غليان المشاعر في الجزء الشرقي منها، المحيط الإستراتيجي الجديد للعالم. آسيا، على العكس من ذلك، سواء أرادت ذلك أم لا، تتقدم إلى الصدارة؛ أي إن آسيا أصبحت تمثل رمز القرن الحادي والعشرين، في حين أصبحت أوروبا تمثل القرن العشرين، من وجهة نظر الأهمية العالمية للأحداث التي تجري هناك. السؤال الرئيسي هو التالي: هل ستُطبق معايير أوروبا للنصف الثاني من القرن الماضي، أو بداية هذا القرن، على آسيا في المستقبل؟ هل سيتوخى اللاعبون الرئيسيون الحذر ويسعون جاهدين إلى تطوير قواعد معينة للعبة، كما فعلوا في أوروبا في ذروة الحرب الباردة؟ أم ستنتقل العادات العبثية التي كانت سائدة خلال الثلاثين عامًا الماضية إلى مياه المحيطين الهندي والهادئ؟ يمكن أن نشهد البناء الأولي الذي نلاحظه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال اتفاقية أوكوس (AUKUS). ومع ذلك، لن يكون من الممكن إعادة إنتاج مخططات الحرب الباردة في شكلها النقي الأولي للسبب المذكور أعلاه: “لا أحد يريد حدوث تقسيم عبر الدم، أو أن يحصر نفسه- عن عمد- في عضوية تحالف واحد ملزم صارم”. ببساطة، لا يمكن الرجوع إلى النظام القديم.
يعقد نادي فالداي مؤتمره الآسيوي المقبل هذا الأسبوع، حيث تُناقَش قضايا التكوينات السياسية والاقتصادية المعقدة وغير الخطية. في الوسط منها- بطبيعة الحال- تكمن السياسة الروسية، ودور روسيا في المنطقة. السؤال مكثف ومعقد؛ لأنه- بصراحة- لا يزال من الصعب تلمس هذا الدور. الميزة الرئيسية لروسيا في جميع هذه المخططات الجديدة هي إمكانات قوتها، ولكن بالتحديد في شرق آسيا، وجنوبها، وجنوب شرقها، لا يوجد مكان لتطبيقها. أما بالنسبة إلى الدبلوماسية الماهرة، التي تعد أيضًا نقطة قوة موسكو، فإن تعقيد العلاقات ودقتها في ذلك الجزء من العالم يمثلان تحديًا خطيرًا حتى لهذه المدرسة الدبلوماسية القوية. حسنًا، الاقتصاد هو كعب أخيل التقليدي، حيث هناك احتياطي لتطوير العلاقات، يكاد يكون غير محدود.
على أي حال، لنعد إلى البداية: “آسيا هي طليعة السياسات العالمية”. أوروبا، وإن كانت تمثل مكانًا مهمًّا وملحوظًا، لكنها تنحسر بهذا المعنى عن أن تكون في صدارة المشهد. لا يبدو أن لدى روسيا أي إمكانية في الوقت الحالي لتصحيح مشكلاتها مع نظام الأمن الأوروبي، وتخليصها من إرث الثلاثين عامًا، لكن يجب ألا ننسى أن العالم لم يتعامل مع المشكلات الأوروبية فترة طويلة[1].
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير