مواجهة النظام أمر صعب جدًّا؛ وهنا عليك أن تتخيل جيدًا أنك إذا بدأت بمقاومة النظام، فعليك أولاً فهم العواقب. على سبيل المثال، عندما جرّوني من رقبتي للانضمام إلى الحزب الشيوعي السوفيتي، كنت أعلم أنني أفعل هذا من أجل اللاشيء، ليس لأسباب سياسية؛ ولكن لأسباب شكلية جمالية. لم أكن أرغب في أن أركض مندفعًا خلف الحشود مثل القطيع، لكنني أيضًا كنت أعرف أنني أعمل في إحدى كليات جامعة موسكو الحكومية، وأن رفض هذا الطلب عَلَنًا يعني ترك الجامعة، واستحالة، أو على أقل تقدير صعوبة الحصول على وظيفة من جديد. ومع ذلك، كنت قد وصلت بالفعل إلى النقطة التي يستحيل معها التراجع والتعايش مع الواقع، وأدركت حينئذٍ أن هذا هو الخيار الوحيد الذي يمكنني القيام به (الرفض وترك العمل). يعني هذا الخيار أن أول شيء يجب فهمه جيدًا لأي شخص قرر معارضة النظام أنه قد اختار طريقًا خطيرًا جدًا، وطويلًا، وشديد الصعوبة نفسيًّا.
عندما أتحدث هنا عن النظام، أعنى الفكرة التي يتم تسويقها في إطار «الأممية»، وافتراض صلاحيتها لكل زمان ومكان، والسعي إلى فرضها على جميع البشر. تفكك الاتحاد السوفيتي، ومعه أيديولوجيته الأممية التي لم تعمّ البشرية كما كان منظروها يتخيلون، وأصبحنا اليوم أسرى لأيديولوجية تستخدم أساليب الترهيب والضغط النفسي والمجتمعي، بشكل أشد قوة مما كانت تفعله أجهزة الأمن السوفيتية بطرائق بدائية، فالليبرالية الغربية تراهن على خلق قطيع حول العالم مؤمن بأفكارها، وتعمل على صناعة جيل جديد يرى في هذه القيم الأصل، وغيرها هي الشواذ الخارجة عن القاعدة، يساعدها على ذلك تقدم تقني وتكنولوجي يسوّق لأفكارها بكل الطرق، ولتحقيق النجاح في هذه المهمة، لا بد من فصل الأبناء عن آبائهم، وهو ما يستدعي التكتل لمعارضة هذا النظام.
من الصعب جدًّا على الطفل أن يسلك هذا الطريق. في هذه الحالة، من الضروري تقليل الضغط عليه قدر الإمكان حتى لا يؤدي إلى الانهيار. أولاً: يجب على الطفل أن يشعر ويفهم أن والديه إلى جانبه، وأنهما سيكونان دائمًا داعمين له، وسيحاولان دائمًا الدفاع عنه ضد هذه الأشياء التي يعتقدان أنها خطأ. ثانيًا: يحتاج الطفل إلى شرح لماذا هذا خطأ؟ لماذا هذا الفعل يعد تدخلًا في الخصوصية؟ لأنهم عندما يسألونني على سبيل المثال: ما الذي يجب على الآباء فعله فيما يتعلق بأطفالهم؟ أقول: “أولا وقبل كل شيء، ضمان رعايتهم الصحية، وثانيًا: أن تغرس فيهم نظرة متكاملة للعالم؛ حتى يفهموا ما الخير، وما الشر؟ وهو ما يحتاجون إلى معرفته للعمل بمقتضاه. كما يحتاج الأطفال إلى الشرح المتكرر، حتى يشعروا بأن ما يؤمنون به يمثل الحق. فقط في هذه الحالة يمكنهم مواجهة أقرانهم الذين لا يفهمون هذه القيم.
النقطة الثانية، ومع أنني “متشكك في أن ما كتبه أومبرتو إكو (Umberto Eco) يمكن اعتباره عملًا صحفيًّا”؛ لأن ما كتبه عن “المقارنة بين الشيوعية والفاشية هو- ببساطة- محض هراء”، لكن هذا لا يمنعني من القول إن لديه كتابًا رائعًا تُرجِمَ إلى الروسية، يسمى «اسم الوردة»، أما أعماله الأخرى فهي ضعيفة من وجهة نظري. كما أن لديه رسالة رائعة كتبها لحفيده، يشرح له فيها سبب حاجته إلى قراءة الكتب، وبوجه عام لماذا يحتاج إلى أن يكون شخصًا مثقفًا. يكتب له في إحدى رسائله: “إذا كنت لا تريد أن تعيش حياة واحدة؛ بل حيوات كثيرة، مثل حياة دارتانيان، وحياة شرلوك هولمز، وحياة أبطال روايات جيمس فينيمور كوب؛ فعليك بقراءة الكتب”. وهذا يعني “إنشاء شرنقة ثقافية من حولك”. بالإضافة إلى كونها قيمة في ذاتها، فإن الثقافة هي بالتأكيد درع وسيف إضافي لأي شخص يعارض أي نظام شمولي يسعى إلى فرض ثقافته وقيمه على البشر؛ لأن الثقافة تخلق لدى الإنسان طبيعة جديدة، فلا تجعله أسيرًا لطبيعة واحدة؛ وبهذه الطريقة، وعبر العمل بكلتا يديه، يسهل عليه مقاومة الضغط.
إذا كانوا يريدون جعل حياتك الخاصة موضوعًا للتملك، فيجب عليك مقاومة ذلك، عندما يخبرونك بما يجب عليك شراؤه، وما الأهداف التي يجب أن تكون لديك. من المهم جدًّا أن تشرح للطفل كيف يقاوم فرض الآخرين قيمهم وما يخدم مصالحهم عليه. بالتأكيد، يمثل هذا الوضع حيرة وألمًا في آنٍ واحد لقلوب الأبوين، فمن ناحية، كيف لهما أن يدفعا ولدًا أو بنتًا في سن صغيرة، لم يبلغ بعد من العمر 12 عامًا… إلى معارضة النظام؟ ومن ناحية أخرى، فإنهما يريدان أن يقاتل أبناؤهما لأجل حريتهم، مع ما قد يؤدي إليه ذلك من تعرض نفسيتهم للتوتر. على سبيل المثال، قال بعضهم لي: “كل الأطفال في الفصل يقرؤون كتب هاري بوتر، لكن حفيدي لا يقرأ تلك الكتب، ويشعر بأنه منبوذ”؛ هنا يمكن أن يصبح الطفل منبوذًا بسهولة؛ لذلك فإن تعاون الوالدين مهم جدًّا؛ لأنه بحاجة إلى مجتمع يشعر فيه بأنه يدعمه.
الحقيقة هي أن كل هذه الأشياء العنيفة، مثل التدخل في الخصوصية، ما هي إلا محاولة لخلق جحيم اجتماعي. كتب المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل (Fernand Braudel) عن القرنين الخامس عشر والسابع عشر، أنه في ذلك الوقت كان هناك “جحيم اجتماعي” في أوروبا، وعندما طُرح عليه سؤال: هل من الممكن الخروج من هذا الجحيم الاجتماعي؟ فأجاب: “يمكنك ذلك، لكن ليس بمفردك”. نحن بحاجة إلى مساعدة اجتماعية متبادلة. بالمناسبة، أي نظام فور مواجهته عملًا منسقًا (يمكن أن يكون هذا الإجراء سلبيًّا، وليس بالضرورة نشطًا)– بمعنى، يكفي أن نقول معًا: “لا!”، فإن هذا الإجراء يعمل بشكل فعال جدًّا؛ لأن القوة في جميع الدول تقريبًا… هي الناس، على الرغم من صمت هذه القوة وخنوعها في كثير من الأحيان (علينا أن نتذكر أيضًا أن القوة في موضع ما تكون “جبانة”).
أكرر، يجب أن يتأكد الطفل من أنك دائمًا في صفه. لقد قرأت ذات مرة منذ سنوات كثيرة، نصًّا مترجمًا إلى الإنجليزية عن مثل هذا التطور النفسي، صادرًا عن جهاز الخدمة الخاصة في ألمانيا الشرقية، حيث كتب: “إذا كان الطفل حتى سن السابعة يعيش في جو من الحب الكامل لوالديه؛ فعندئذٍ عندما يكبر، سيكون من الصعب التلاعب به”. هذا ما نحتاج إليه في التعامل مع أطفالنا- الحب! على سبيل المثال، عندما كبرت وبدأت أدرك الأمور بشكل أفضل، عرفت أن والدي كان خلفي مثل جدار صخري. كان لدي شيء أعتمد عليه، بما في ذلك عند نزاعاتي مع المعلمين. إضافة إلى ذلك، لم أكن على حق دائمًا، أوضح لي والداي ذلك لاحقًا. لكن في حالة دخولي في نزاع ما، علمت أنهما كانا دائمًا في جانبي. بشكل عام، انطلق والدي من فرضية مفادها أن الأسرة يجب أن تكون أقوى من المدرسة والشارع.
بالمناسبة، في روسيا تحالفات أبوية نشطة جدًّا، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بعضها ببعض. وهذه بالتأكيد قوة عندما يبدأ الناس بتنظيم أنفسهم؛ لأن الضغط والتوبيخ والمضايقة لشخص بالغ، لا يمكن مقارنة أثرها إذا حدثت على الأطفال. في روسيا ما قبل الثورة في القرن التاسع عشر، لا سمح الله، لو فقط قررت السلطات فعل أي شيء يتدخل في خصوصيات العلاقة بين الأطفال وعائلاتهم، أو حتى فعل أي شيء قد يضايقهم، كان يمكن للناس رفعها على الشاعوب. في النهاية، القول أسهل من الفعل، لكن لا انتصارات بدون قتال[1].
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير