أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2021، علق الكرملين مُحذرًا من تفاقم الصراع في أوكرانيا بعدما بثت قيادة الأركان العامة الأوكرانية لقطات مصورة تُظهر لأول مرة استخدام الطائرات المُسيرة التركية الصنع بيرقدار (Bayraktar) خلال العمليات العسكرية في الدونباس جنوب شرق البلاد. وأكد ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، في تصريح صحفي: “روسيا لديها علاقات خاصة وطيبة مع تركيا، لكن هذه القضية تؤكد مخاوف موسكو من أن تسليم هذه الأسلحة لأوكرانيا سيزعزع استقرار المنطقة”.
تركيا- من جانبها- لم تُعلن أي تغيير في موقفها منذ أبريل (نيسان) 2021 بأنها لا تنحاز إلى أي طرف في الصراع الروسي- الأوكراني، وأنها تدعم الحلول الدبلوماسية للخلافات. وقد صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو آنذاك: “موقفنا متوازن وبناء، ونحن بصفتنا عضوًا في حلف شمال الأطلسي حريصون على علاقات جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، ونوجه الدعوة نفسها إلى كلا البلدين لحل الخلافات سلميًّا”.
بعيدًا عن التصريحات الدبلوماسية التقليدية، شهدت العلاقات التركية- الروسية- الأوكرانية كثيرًا من التقلبات. في البداية، لم تكن كييف أولوية لأنقرة، رغم عدم تأييد الأخيرة ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، لكنها لم تُعلن رفضها صراحة، ولم تشترك في حملة العقوبات الغربية على موسكو، ولم تنخرط في أي دعم عسكري مقدم لأوكرانيا.
عام 2016، وفي أعقاب الانقلاب الفاشل في تركيا، اقتربت أنقرة من موسكو، لا سيما أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان من أوائل المُتصلين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان إبان الانقلاب، مُتمنيًا عودة الاستقرار والأمن، في حين التزم حلفاء أردوغان الأطلسيون الصمت؛ ما دفع القادة الأتراك إلى اتهام واشنطن بدعمها لمحاولة الانقلاب من خلال استضافتها للمُتهم الأول فيه عبدالله غولن.
استثمرت روسيا برود العلاقات التركية- الأمريكية، ووافقت على بيع منظومتها للدفاع الجوي (S-400) لأنقرة؛ لتفرض واشنطن عقوبات تستهدف الصناعة العسكرية التركية، وتُقصي أنقرة من مشروع تطوير طائرات (F-35)؛ لتندفع تركيا- بدورها- في تحركات أحادية الجانب ضد القوى الأطلسية، خاصة في منطقة شرق المتوسط؛ ما زاد التوترات بين الدول الأعضاء في حلف الناتو، لكن تركيا تعيش وضعًا داخليًّا مُتأزمًا؛ فالمعارضة التركية تستغل تراجع الاقتصاد، والانخراط العسكري التركي الواسع في سوريا، وليبيا، والعراق، وأذربيجان، وسوء العلاقات الدولية لأنقرة مع عدد من بلدان الشرق الأوسط وأوروبا (مصر، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة، واليونان، وقبرص، وفرنسا… إلخ) لانتقاد النظام، والأخير بدوره لم يجد مخرجًا إلا بإعادة تطبيع العلاقات مع القوى الأطلسية، خاصةً مع واشنطن.
الآن تعود كييف أولويةً في السياسة التركية، خاصةً في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، المؤيد لأوكرانيا سياسيًّا، وعندما كان يشغل منصب نائب الرئيس في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما زار بايدن كييف عدة مرات، وتربط أسرته علاقات مصالح تصل إلى حد الاتهامات بالتورط في قضايا فساد مع النخبة الأوكرانية الحاكمة، ومع انخراط بايدن إبان حُكمه في حرب كلامية عنيفة ضد روسيا سيكون من المفيد أن تظهر تركيا كمؤيد لأوكرانيا، وتروج لنفسها كعضو لا غنى عنه في الناتو، ومقاوم لموسكو في أوروبا الشرقية، ولعل هذا يلقى قبول واشنطن، ويحد من تدهور العلاقات.
مؤخرًا، وفي ظل حشد موسكو غير المسبوق لقواتها العسكرية بالقرب من حدود كييف، كانت تركيا واضحة في موقفها على غير العادة؛ فقد استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأعلن أردوغان دعم أنقرة لانضمام أوكرانيا إلى الناتو، كما تعهدت تركيا بمواصلة تعاونها العسكري مع أوكرانيا.
وأصدر الرئيس أردوغان بيانًا مشتركًا مع نظيره الأوكراني زيلينسكي يؤكد التزام تركيا تجاه كييف بدعم جهودها لاستعادة السيطرة الأوكرانية على شبه جزيرة القرم والدونباس. ومع أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يدعو إلى حل سياسي من خلال الحوار مع روسيا فإنه يستمر في تعزيز نهج الرئيس السابق بيترو بوروشينكو، الذي شهد حُكمه مفاوضات للتعاون العسكري بين أنقرة وكييف، لتبدأ الأخيرة منذ عام 2018 بتسلُّم ست طائرات بدون طيار، وثلاث محطات رادار، و200 صاروخ موجه بموجب عقد قيمته 69 مليون دولار.
وشهد عاما 2019 و2020 تكثيفًا للتعاون العسكري بين البلدين من خلال مجموعة جديدة من الاتفاقيات التي بموجبها حصلت كييف على خمس طائرات بدون طيار من طراز بيرقدار (Bayraktar)، كما حصلت على 12 محركًا توربينيًّا للطائرات بدون طيار التركية (Akinci). هذا بالإضافة إلى عقد اتفاق أوكراني مع شركة (Baykar Makina) التركية المصنعة للطائرات بدون طيار (Bayraktar) للبدء في مشروع إنتاج مشترك يسمح لكييف بتصنيع ما يصل إلى 48 طائرة بدون طيار قتالية من طراز (Bayraktar TB2) محليًّا، بالإضافة إلى مشروع آخر يتعلق بتصنيع الطرادات البحرية والتوربينات، وطائرات النقل العسكري، وتوطين التكنولوجيا العسكرية.
تأتي العلاقات المتزايدة بين أنقرة وكييف، وخاصةً العسكرية منها، في إطار سياسة تتماشى مع أهداف حلف شمال الأطلسي (الناتو) في البحر الأسود، حيث يشتد التنافس الجيوسياسي بين تركيا وروسيا، فالعلاقة التركية- الأوكرانية مفيدة لكلا الطرفين؛ فأوكرانيا تحتاج إلى تركيا كحليف عسكري يملك ثاني أقوى جيش في حِلف الناتو، وستستفيد كييف من تلك الشراكة الدفاعية، وبالمثل ستستفيد أنقرة من بيع إنتاجها العسكري لاستعراضه في الدونباس، وهي ساحة قتال جديدة لاختبار مدى فاعلية السلاح التركي بعد التجارب في سوريا، وليبيا، وناغورني قره باغ في جنوب القوقاز، وفي الوقت نفسه ستكسر تركيا العقوبات الغربية عليها فيما يتعلق بصناعتها العسكرية، وستسفيد من الصناعة الأوكرانية المتقدمة، خاصةً في المُحركات، بل أكثر من ذلك، ستؤدي كييف دورًا دبلوماسيًّا في تقريب وجهات النظر التركية مع القوى الأطلسية.
تعني التطورات الأخيرة في الدونباس بدء انخراط تركيا أكثر في الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وقد يُلقي هذا بظلاله على العلاقات التركية- الروسية. داخليًّا، تواجه تركيا تحديًا يتعلق بتاريخ شبه جزيرة القرم التي كانت ذات يوم جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، وامتدادًا تجاريًّا لإسطنبول، وسكانها الأصليون من تتر القرم ما زالوا يتحدثون التركية، وتركت حرب القرم (1853-1856) ذكريات أليمة في المُخيلة الشعبية التركية. كما تضم تركيا أكبر جالية من مواطني تتر القرم، ولديهم لوبي واضح في أنقرة منذ نهاية الحرب الباردة، وهناك زيادة في أنشطة المجتمع المدني التي ينظمها تتر القرم، حيث اكتسب نشاطهم زخمًا خاصًا بعد ضم روسيا لشبه الجزيرة، مُشكلين ضغطًا على الحكومة التركية لكي تكون أكثر حدة وصراحة في إعلان رفضها الضم الروسي والانخراط في الحملة الغربية على موسكو.
ومن المرجح أن الخلاف بشأن قضية واحدة مثل الدونباس لن يدمر العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا، حيث يشتركان بمصالح كثيرة ومُعقدة في سوريا، وليبيا، وجنوب القوقاز، لكن بالنظر إلى أن المصالح الاقتصادية هي المحرك الرئيسي لسياسة أنقرة تجاه روسيا، يمكن لتوترات السياسية نتيجة التقارب العسكري مع كييف، أو بضغط المجتمع التتري في أنقرة، أن تضر بالاقتصاد التركي الذي يستورد (60%) من احتياجاته في مجال الطاقة من روسيا، بالإضافة إلى أن قطاع السياحة التركي يعتمد على ملايين السياح الروس الذين يشكلون ثاني أكثر جنسية تزور البلاد بعد السياح الألمان.
على صعيد آخر، تحذر الصحافة الروسية من هجوم أوكراني محتمل في الدونباس على غرار الحرب الأرمنية- الأذربيجانية، التي استُخدمت فيها الطائرات التركية المُسيرة بكثافة، بالإضافة إلى إرسال المرتزقة السوريين إلى ساحات القتال لجانب القوات الآذرية، لكن هذا من المستبعد، حيث كانت أذربيجان تحظى بدعم تركيا المباشر، وهو ما تفتقده أوكرانيا التي تعتمد على الدعم غير المباشر من تركيا، أو الولايات المتحدة، وتتجاهل هذه السيناريوهات الوجود العسكري الروسي المكثف على طول الحدود مع الدونباس، وهذا لم يكن متوافرًا في ناغورني قره باغ.
أخيرًا، تكتفي موسكو حتى الآن بالتحذير من اندلاع أي عمل عسكري في الدونباس من جراء التسليح التركي لأوكرانيا بالمُسيرات، ومن المرجح أنها لن تذهب أبعد من هذا، فهي قد ترى في التقارب التركي- الأوكراني عزلة لحلف شمال الأطلسي الذي فشل في إيجاد إستراتيجية مناسبة للتعامل مع أوكرانيا من خلال الهيكل الأمني الأوروبي؛ ما يخدم فكرة روسيا عن التعددية القطبية في العالم، وعدم الدوران في الفلك الأطلسي. كما تعتمد موسكو لتأكيد فكرتها على ألمانيا أيضًا، أقوى دول الاتحاد التي لا تتمتع بعلاقات ودية مع تركيا حاليًا، لتثبيت صيغة مينسك الثانية التي تؤكد وجود موسكو كشريك للحل في الدونباس، وهذه الحالة تقلل من احتمالات صدام روسي- أمريكي مباشر، وتبقي على أنقرة وسيطًا مرنًا بين القوى الكبرى.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير