مرة أخرى، تصدرت أوكرانيا واجهة الأنباء العالمية، كالعادة منذ أحداث «الميدان الأوروبي» في الفترة من 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 إلى 22 فبراير (شباط) 2014، التي أدت إلى الانقلاب على الرئيس “الشرعي” المنتخب فيكتور يانوكوفيتش، وفق الرواية الروسية، أو “الثورة” الشعبية، بحسب رؤية الغرب والقوميين الأوكرانيين. ومن جديد، كانت الحشود الروسية على حدود أوكرانيا الشرقية، والحديث المتكرر عن قرب اجتياح الجيش الروسي لأراضيها، وضمها على غرار شبه جزيرة القرم عام 2014، السبب خلف هذا التوتر. قبل الدخول في تقييم الأحداث الحالية، المتوقع تكرارها، ولبناء تقدير موقف يمكّن المهتمين والباحثين من فهم ما يحدث، لا بد من شرح الخلفية التاريخية الحاضرة في صراع «الإخوة الأعداء» الذين فرقتهم الخيارات السياسية رغم كونهم ينتمون، في غالبيتهم، إلى عرقية، وثقافة، ودين، وتاريخ واحد مشترك.
لا يفهم كثيرون، ليس في العالم العربي وحسب؛ بل ربما في الغرب أيضًا، سر التمسك الروسي بأوكرانيا، وعدم احترامها وفق هذا الاعتقاد لسيادتها، في ظل امتلاك روسيا أراضي تقدر مساحتها بنحو (17,130,000) كم²، وموارد طبيعية هي الأكبر في العالم مقارنة بأوكرانيا الفقيرة الموارد، والبالغة مساحتها (603,550) كم²؛ لذا يُطرح دومًا سؤال: هل تستحق أوكرانيا إشعال حروب بسببها، وتحمل الشعب الروسي ضغوطًا اقتصادية نتيجة العقوبات الغربية لأجلها؟
يبدو السؤال للوهلة الأولى منطقيًّا: لِمَ كل هذه الاندفاعة الروسية نحو هذا البلد المسالم والصغير؟ حتى إن بعض التحليلات الغربية ترى أن الأمر مرتبط بما يسمى “جنون العظمة” لدى الرئيس الروسي بوتين، وتسامح الغرب معه بعد “ضم” شبه جزيرة القرم، وهو ما قد يخلق منه “هتلر” جديدًا.
لكن ما غاب عن هذه التحليلات، مركزية أوكرانيا التي تعني “الحافة”، أو باللغة العربية العسكرية القديمة “الثغر” الغربي للحدود الروسية، وأن الأدبيات الروسية لا يمكنها ذكر كييف، دون المقولة الشهيرة “كييف مات غرادوف روسكيخ”، التي تعني بالعربية: «كييف أم المدن الروسية».
عندما توافقت النخبة “السلافية الشرقية”، أسلاف “الروس، والأوكرانيين، والبيلاروسيين”، على بناء دولة ذات سلطة مركزية، ولجأوا كحل وسط إلى روريك (862- 879)، أحد قادة الفايكنغ العسكريين، الذي اختار مدينة نوفغورود في شمال غرب روسيا حاليًا، لتكون عاصمة الدولة الروسية الأولى، وعلى مدار 17 عامًا من حكمه (في الفترة من عام 862 إلى عام 879)، توسعت هذه الدولة لتضم جميع الأراضي التي يسكنها السلاف الشرقيون، حتى قرر خليفته الأمير أوليغ فيشي «العراف»، الذي حكم في الفترة من عام 879 إلى عام 912، نقل العاصمة إلى مدينة كييف، لتتحول من مدينة صغيرة مهملة بلا قيمة، إلى إحدى أكبر مدن أوروبا، وأكثرها اكتظاظًا بالسكان حتى استيلاء المغول عليها، عام 1240، وقد شهدت كييف أهم القرارات المصيرية التي شكلت هوية الشعب الروسي وبقية السلاف الشرقيين- في وثقافتهم وتاريخهم. في كييف بدأ تاريخ الروس الديني بعد «معمودية كيفانس» عام 867، التي أدت إلى اعتناقهم المسيحية الشرقية.
من كييف خرجت الحملات العسكرية باتجاه بيزنطة والممالك المجاورة لتعترف جميعها بوجود شعب «روس» ومصالحه، كما كان يُسمى السلاف الشرقيون، وفي كييف تطورت اللغة الروسية وبدأت أولى عمليات تدوين الليتورجيا الدينية، والأدب، والشعر، ومدونة القوانين التي تسمى «روسكايا برافدا»، وصولًا إلى شعراء عصر النهضة الروسية وأدبائه، الذين لا تخلو أشعارهم ورواياتهم من ذكر كييف، والمرور بها في الطريق من موسكو وسانت بطرسبرغ أو إليهما. كما كانت كييف المدينة الرئيسية التي يجلس فيها الأمير الأقوى من عائلة «روريك» الحاكمة، ويلقب بـ “الأمير المعظم”؛ ولهذا كله، ولغيره، اكتسبت تلك التسمية «أم المدن الروسية». الأمر- إذن- يتخطى تمامًا بوتين، ومن كانوا قبله، أو أي رئيس آخر، مهما كانت خلفيته، سيأتي من بعده. أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا جزء من قصتها التاريخية التي ترويها لأبنائها وللعالم. دون أوكرانيا، أو بحذفها من تاريخ روسيا، فإنها تفقد- بلا مبالغة- 70 في المئة من هويتها وذاتيها، فضلًا عن الأهمية الجيوسياسية التي سيتم التطرق إليها لاحقًا؛ ولهذا فإن أوكرانيا قصة روسية بامتياز، حتى في تأسيسها وتكوينها الحديث بحدودها الحالية، وغياب هذا البُعد عن أي تحليل للوضع السياسي والعسكري المتأزم بين موسكو وكييف، يجعل من أي تحليل لأسباب الصراع ومآلاته مبتورًا وغير ملم بالصورة من أبعادها كافة.
في يوم 21 يناير (كانون الثاني) 2016، وفي أثناء اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعمداء الجامعات والمعاهد العلمية في «مجلس العلوم والتعليم الروسي»، وردًا على استشهاد عميد معهد كورتشاتوف البحثي بأقوال زعيم الثورة البلشفية لينين عن التحكم في الأفكار، علق بوتين بالقول إن أفكار لينين “أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، وفعليًّا زرع هو ورفاقه قنبلة ذرية تحت مبنى يسمى روسيا، ثم فُجِّرَت فيما بعد بسبب هذه الأفكار، ومنها حق تقرير المصير”[1].
أثار هذا التصريح غضب الشيوعيين الروس، وأعاد من جديد الجدل بشأن الإشكاليات الكثيرة التي خلفتها أفكار البلاشفة، وتدفع روسيا ثمنها اليوم، وبالتحديد أفكار الثنائي (لينين- تروتسكي)، حيث تبنى كلا القائدين فكرة «الثورة العالمية»، وحق تقرير المصير لجميع الشعوب المنضوية تحت مظلة الاتحاد السوفيتي، في حين كان يوسف ستالين، ورفاقه ممن يتسمون بـ «البلاشفة القوميين»، يعارضون هذه الأفكار، ويعتقدون أن الاتحاد السوفيتي لا بد أن يبقى امتدادًا طبيعيًّا في حدوده ومركزية السلطة فيه للإمبراطورية الروسية.
بدأت قصة أوكرانيا مع الاجتياح المغولي لأراضي مملكة «كييفسكايا روس» عام 1240، التي تضم الآن (روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروس)، وبعض أجزاء فنلندا. خضعت الأراضي الجنوبية والشرقية لأوكرانيا الحالية بعد تراجع الحكم المغولي لسلطة خانية تتر القرم والعثمانيين (1449- 1783)، في حين خضعت الأراضي الغربية، على مراحل تاريخية مختلفة، لكل من: الكومنولث البولندي الليتواني (1569- 1795)، والإمبراطورية النمساوية المجرية (1867- 1918)، والجمهورية البولندية الثانية (1918- 1939)، ومملكة رومانيا (1881- 1939)، وجمهورية تشيكوسلوفاكيا (1918- 1939)، ومملكة المجر (1920– 1939).
نتيجة تحول الأراضي الشرقية والجنوبية لأوكرانيا الحالية إلى ساحة معارك مستمرة بين تتر القرم والعثمانيين من ناحية، وقياصرة روسيا منذ زمن إيفان الرابع (1547- 1584) من ناحية أخرى، فقد هجرها السلاف، وكانت براري وسهوبًا فارغة، حتى تمكنت الإمبراطورية الروسية من استعادتها، وبدأت عملية إعمارها وإسكان الروس فيها، وسُميت هذه المنطقة الجديدة الواقعة على الضفة اليسرى من نهر دنيبر باسم “نوفوروسيا”، التي تعني بالعربية «روسيا الجديدة»، أو “ماليا روس”، أي «روسيا الصغيرة».
بعد قيام «الإمبراطورية الروسية» كان قوامها يتشكل من ثلاثة أجزاء رئيسية: «روسيا الكبرى» التي تضم أراضي الاتحاد الروسي الحالي، و«روسيا الصغرى» التي تضم أراضي جنوب وشرق أوكرانيا الحالية على الضفة اليسرى من نهر دنيبر حتى العاصمة كييف، و«روسيا البيضاء»، وهي جمهورية بيلاروس الحالية، التي اتخذت هذا الاسم وفق أكثر الفرضيات ترجيحًا لأنها كانت الأراضي السلافية الشرقية الوحيدة التي لم تخضع لسلطة المغول[2].
عندما وقع البلاشفة «معاهدة بريست للسلام» في الثالث من مارس (آذار) 1918، التي تنازلوا بموجبها عن بلدان البلطيق، وبولندا، وفنلندا، والأراضي التي اكتسبوها في أثناء الحرب العالمية الأولى، في جنوب القوقاز وغرب أوكرانيا الحالية، شكلت هذه الاتفاقية صدمة لدى النخب الروسية، حيث لم تكتفِ بالتنازل عن الأراضي التي اكتسبتها روسيا في الحرب العالمية الأولى رغم كل تضحياتها، ولا التنازل عن الوعود التي تم الاتفاق عليها مع فرنسا وبريطانيا في معاهدة «سايكس-بيكو-سازونوف» فحسب؛ بل تم التخلي عن أراضٍ كانت تاريخيًّا جزءًا من الإمبراطورية الروسية، إلى جانب دفع تعويضات مالية باهظة إلى ألمانيا، وكانت الاتفاقية تتماشى مع إعلان لينين الشهير “الأرض والخبز والسلام”، الذي وعد فيه بإنهاء الحرب، واصفًا إياها بالحرب البرجوازية القومية “التي لا تراعي مصالح العمال، وتعمل على نقل الصراع الطبقي إلى صراعات قومية غير مجدية”، وهو ما أدى إلى اشتداد الحرب الأهلية الروسية (7 نوفمبر/تشرين الثاني 1917– 25 أكتوبر/تشرين الأول 1922)، وانضمام قطاعات عريضة من الروس إلى القتال في صفوف البيض أنصار الإمبراطورية ضد الحُمر البلاشفة، وهنا رفع لينين شعارًا آخر لاجتذاب الشعوب إلى الأيديولوجية الشيوعية والسلطة السوفيتية، وهو شعار “حق الأمم في تقرير مصيرها”، الذي فسره لينين بوضوح بالقول: “حقّ تقرير المصير يعني حقّ الانفصال، وتأسيس كيان سياسيّ منفصل”.
في هذه الأثناء تشكل «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية»، الذي بات يعرف فيما بعد باسم «الاتحاد السوفيتي» عبر معاهدة رسمية تم التوقيع عليها في 30 ديسمبر (كانون الأول) 1922، وكانت الأطراف الموقعة عليها كل من: (جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، وجمهورية بيلاروس الاشتراكية السوفيتية، وجمهورية ما وراء القوقاز الاشتراكية السوفيتية)، وكانت المعضلة التي واجهت البلاشفة بعد التنازل عن أراضي غرب أوكرانيا، المكتسبة في أثناء الحرب العالمية الثانية، أن جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، في غالبيتها تضم الأراضي الزراعية التي يملكها الـ «كولاك»، وهم “فئة الفلاحين الأغنياء”، أو “البرجوازية الزراعية الجديدة” حسب الوصف البلشفي لهم، وأن هؤلاء لن يكونوا مؤيدين للأيديولوجية الشيوعية، وربما يصبحون أعداء للسلطة السوفيتية في ظل ضعف مجتمع «البروليتاريا»؛ وهنا اقترح تروتسكي، ووافقه على ذلك لينين، ضم أجزاء من أراضي جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، الوليدة، وهي مناطق صناعية وتعدينية، وتحتوي على أهم ميناء بحري لروسيا، وهو ميناء «أوديسا»، لتصبح «البروليتاريا» هي الأغلبية، ومن ثم يُضمَن ولاء هذه الجمهورية للسلطة السوفيتية، وبالفعل اقتُطِعت هذه الأراضي لصالح جمهورية أوكرانيا الوليدة، التي كان سكانها في المجمل من الروس، وفي عام 1954 اقتطع نيكيتا خرشوف شبه جزيرة القرم من روسيا، وضمها إلى جمهورية أوكرانيا؛ للتسهيل على سكانها فيما يخص شؤونهم الإدارية؛ لأن كييف أقرب إليهم من موسكو. ووفق هذه السياسات التي عارضها بشدة يوسف ستالين، ولكنه لم يكن يملك تغييرها؛ بل التخفيف فيما بعد من وطأتها، وُضِعَ الأساس المنطقي للصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا، ووُضِعَت “قنبلة ذرية موقوتة تحت مبنى يسمى روسيا”، حسب وصف بوتين.
بناءً على التسلسل التاريخي السابق، يمكن فهم موقف بوتين السلبي من البلاشفة، وتحديدًا من الثنائي (لينين- تروتسكي)، وكذلك المحافظون والقوميون الروس، وموقف هؤلاء الذي يبدو إيجابيًّا تجاه يوسف ستالين، ومن المهم هنا فهم هذا الموقف الذي يفسر من البعض تفسيرًا خطأً على أنه تعلق بسياسات ستالين، في حين أنه تقدير لموقف ستالين الذي راعى المصالح الجيوسياسية لروسيا، وقدمها على الأيديولوجية، عكس لينين وتروتسكي.
أدت سياسة لينين- تروتسكي إلى وضع الأساس الذي عليه تأسس الاتحاد السوفيتي، وكذلك أدت إلى انهياره لاحقًا؛ حيث لم تُوضَع أي قواعد واضحة لمبدأ “حق تقرير المصير”، وربما لم تضع الأفكار الأيديولوجية الرومانسية لهما في حساباتها أي احتمالية لأن يقرر شعب ما الانفصال والخروج من “الجنة” الشيوعية.
سبب آخر يعتقد ناقدو البلاشفة أنه تسبب في إضعاف روسيا، وهو تنمية الشعور القومي على حساب الإمبراطورية الثقافية الروسية، حيث كانت هذه الشعوب تتحدث الروسية، وهي لغة العلم والثقافة والأدب، وكانت اللغات المحلية محصورة في أوساط محدودة من العامة في القرى، وكانت هجينًا يحتوي على كثير من العبارات الروسية، وكان يتوقع مع مرور الوقت أن تموت، في حين أن لينين في سعيه إلى اجتذاب هذه الشعوب إلى الأيديولوجية الشيوعية، دعم تدريس اللغات القومية في المدارس إلى جانب الروسية، ورسخ من مكانتها عبر تحولها من لغة محكية بدائية إلى لغة حية دُوِّنَت بها العلوم والأدب والتاريخ، وغيرها من الكتابات، وهو ما خلق شعورًا قوميًّا عاليًا فيما بعد لدى هذه الشعوب لم يكن من الممكن إدراكه لولا هذه السياسة، وفق منتقدي سياسات لينين، الذي دعم الفكر القومي من حيث أراد أن يقضي عليه، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى إضعاف اللغة الروسية داخل هذه المجتمعات، وإمكانية التحول فيما بعد إلى اللغات القومية بسهولة.
”جورج، عليك أن تفهم هذا الأمر جيدًا – أوكرانيا لا يمكن وصفها حتى بأنها دولة – ما هي أوكرانيا؟ جزء من أراضيها يقع في أوروبا الشرقية، ولكن الجزء الأكبر منها هدية منا“– [3] الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حديث مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، في أثناء قمة الناتو في العاصمة الرومانية بوخارست، أبريل (نيسان) 2008.
ربما يبدو لبعضنا أيضًا، نتيجة غياب الخلفية التاريخية عن العلاقة الروسية- الأوكرانية، ومراحل تأسيس الكيان الأوكراني الحالي، أن بوتين يبالغ في حديثه هذا، ومرة أخرى لا بد من عودة، ولو سريعة، إلى مراحل تأسيس الدولة الأوكرانية؛ لفهم هذه القضية من جوانبها كافة.
بعد سقوط مملكة «كييفسكايا روس» كما سلف، التي كانت دولة لكل الروس والأوكرانيين والبيلاروسيين، المحدثين الآن، وعاصمتها كييف، وتقسيم أراضي ما تعرف الآن بأوكرانيا بين عدة ممالك مختلفة، تمكن القياصرة الروس من “استعادة” الأراضي الشرقية والجنوبية من العثمانيين وتتر القرم، واقتطع لينين أوديسا، ودونيتسك، ودنيبر، وخاركوف، وغيرها من الأراضي لصالح أوكرانيا عام 1922، وأضاف إليها خرشوف عام 1954 شبه جزيرة القرم، وفي عام 1939، وبموجب اتفاقية «مولوتوف- ريبنتروب»، ضم ستالين الأراضي الغربية إلى أوكرانيا لتتشكل بشكلها الحالي لأول مرة عبر التاريخ. أما مدنها الكبرى فهي:
يطول الحديث عن باقي المدن الأوكرانية، وأساس نهضتها الصناعية، التي إما “حررها” الروس بدمائهم، وإما بنوها من العدم، وإما أضافوها إلى أراضي أوكرانيا الحديثة من خلال اقتطاعها من أراضيهم أو أراضي الآخرين، ولا فضل في تأسيسها وتكوينها الحالي للأوكرانيين؛ لذا لا يبدو حديث بوتين منطويًا على أي مبالغة إذا نُظِر إليه وفق هذا التاريخ الذي يقيم من خلاله الروس مراحل تكوين الدولة الأوكرانية وعلاقتهم التاريخية معها، الممتدة منذ أكثر من 1200 عام، وارتباطها السياسي المباشر منذ ما يزيد على ستة قرون.
تشكلت الدولة الأوكرانية بشكلها الحالي عام 1939، ولم يختَر سكانها تبعية كثير من أجزائها لها، ولكنهم في الوقت نفسه لم يعترضوا على عملية توسعها التي قام بها الزعماء السوفيت؛ لأنهم في النهاية كانوا ينتمون جميعًا إلى دولة واحدة، تسمى «الاتحاد السوفيتي». بدأت الأزمة التي دفع فيها الأبناء خطايا الآباء، بعد تفكك هذه الاتحاد، وسعي الدول التي تشكلت حديثًا، بعد عام 1991، إلى تشكيل هوية قومية قسرية بشكل مركزي تفرضها على جميع سكانها، وكانت اللغة هي البداية. قلة من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، من نجحت وخلقت نموذجًا سمح للسكان بثنائية اللغة، ولكن الغالبية سعت إلى فرض لغة ونموذج واحد، أدى فيما بعد إلى نشوء عدة نزاعات ما زالت قائمة حتى اليوم، وأوكرانيا واحدة منها، وإن كانت الأشد وطأة؛ نظرًا إلى أهمية موقعها الجغرافي ومركزيتها في التاريخ الروسي.
بدأت المشكلة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، عندما طالب سكان شبه جزيرة القرم، عام 1994، بالانفصال عن أوكرانيا، بعد استفتاء شعبي صوت فيه الغالبية بالانفصال والانضمام إلى روسيا، التي لم تأبه لهم آنذاك؛ بسبب انشغال قادتها في قتال شوارع تطور إلى ضرب «البيت الأبيض الروسي»، مقر البرلمان، بالدبابات في أكتوبر (تشرين الأول) 1993، كما كانت روسيا تأمل أن تجد صيغة جديدة للتكامل والوحدة مع أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
بعد أحداث الثورة البرتقالية نهاية عام 2004، وصعود الموالين للغرب إلى السلطة، بدأت معالم المواجهة بين كييف وموسكو تتشكل، وصولًا إلى أحداث «الميدان الأوروبي»، وحظر استخدام اللغة الروسية عام 2014، الذي مكن موسكو من استنهاض المتحدثين بها في شرق أوكرانيا وجنوبها، وضم أو استعادة شبه جزيرة القرم، وبَدْء تمرد عسكري مسلح في لوغانسك ودونيتسك، وإعلان انفصالهما من جانب واحد، وردًا على ذلك أقرت موسكو قانونًا يسمح لسكان المناطق الناطقة بالروسية في أوكرانيا بالحصول على الجنسية الروسية بشروط ميسرة خلال ثلاثة أشهر، وفي المقابل أصدرت أوكرانيا قانون “الشعوب الأصلية” الذي استثنى الناطقين بالروسية من حقوقهم القومية في استخدام اللغة الروسية، وظل الصراع متفجرًا حاصدًا أرواح الآلاف، بالإضافة إلى مئات الآلاف من المهجّرين، وتدمير مدن الشرق الأوكراني المحاذية للحدود مع روسيا، وحشود عسكرية متبادلة بين البلدين، ودعوات أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ورفض روسيا وتحذيرها للغرب من قبول هذه الدعوات، ومرة أخرى يدفع الأبناء خطايا الآباء.
استغل بوتين جيدًا حالة هياج القوميين الأوكرانيين بعد أحداث الميدان الأوروبي، وتوفيرهم جميع المبررات التي كان بحاجة إليها أمام شعبه وسكان شرق أوكرانيا من الناطقين بالروسية، وتحرك سريعًا لضم أو “استعادة” شبه جزيرة القرم، ودعم التمرد المسلح في الشرق، ولم يكن في عجلة من أمره للتوصل إلى حل، وقع اتفاقية مينسك في 5 سبتمبر (أيلول) 2014، وحضر رباعية النورماندي، ولكنه كان يدرك أن أي رئيس أوكراني لا يمتلك الشجاعة على مواجهة القوميين، والمضي قدمًا في تنفيذ بنودها التي تنسف مركزية السلطة التي يدعمها القوميون بقوة.
مقابل حالة الفوضى الداخلية في أوكرانيا، رسخ بوتين ارتباط شبه جزيرة القرم بروسيا عبر ربطها بريًّا، وبدء عدة مشروعات لمعالجة مظالم سكانها، وقدم الدعم للتمرد في لوغانسك ودونيتسك، واحتفظ في “درج” مكتبه بطلب كلتا الجمهوريتين المعلنتين من جانب واحد، بالانضمام إلى روسيا على غرار القرم، كورقة يلوح بها في وجه الغرب، وتمنحه شرعية التدخل العسكري المباشر إذا ما قررت أوكرانيا إعادة توحيد المنطقتين معها بالقوة. كما تمكن من إتمام مشروع «نورد ستريم 2» مع ألمانيا بعد تعثره، دون المرور من أراضي أوكرانيا، حارمًا إياها من رسوم الترانزيت وإمدادات الغاز الروسي الميسرة التي كانت تقدمها لها في الماضي، وتعامل- كما سلف- مع الحل بأعصاب باردة، وبلا عجلة؛ بل رأى أنه من الأفضل الحصول على صفقة مربحة لموسكو، أو ترك الدولة الأوكرانية تتعفن وتتحل ذاتيًّا، كما صرح بذلك عدة محللين روس.
السؤال: ما الذي تغير ودفع بوتين إلى التصعيد هذه المرة، مع أن الطرف الأوكراني نفسه يسعى إلى التهدئة، وليس من مصلحته تفجر الصراع، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية؟
وضعت موسكو خطوطًا حمراء واضحة بشأن أوكرانيا؛ الأول: دخولها حلف الناتو، وقد تشكل إدراك لدى السلطة الأوكرانية أن انضمامها إلى الحلف يكاد يكون مستحيلا، وأن الغرب نفسه غير مستعد للدخول في مواجهة مع روسيا من أجلها. الخط الأحمر الثاني: محاولة توحيد المناطق المتمردة في الشرق بالقوة، وتدرك كييف أيضًا أن الغرب لن يدعم هذه الخطوة إذا بادرت بها، وسيكون مصيرها شبيهًا بمصير جورجيا في حرب أوسيتيا الجنوبية عام 2008، ولكن ما أزعج موسكو هذه المرة، هو تحول الصراع من حالة الجمود الإيجابي لصالحها، إلى نهج جديد يتبعه الغرب، وللمفارقة بدأه ترمب، الذي اتهمه الديمقراطيون بمحاباة بوتين، رغم تطبيقه عقوبات قاسية على روسيا، وغلق قنصلياتها في أمريكا، وتقديم أسلحة فتاكة كانت قد طلبتها من سلفه الرئيس أوباما ورفض تسليمها إياها، وجاء بايدن، وعلى نهج ترمب مضى في هذه الخطوات الجديدة القائمة على دعم قدرات الجيش الأوكراني، وتحويل عقيدته العسكرية تدريجيًّا نحو الغرب، وتحديث أسلحته وتكتيكاته عبر عمليات تدريب ومناورات مشتركة مع جيوش الناتو، بجانب احتضان تركيا لما يسمى “مجلس شعب تتر القرم”، وازدياد نشاطهم التحريضي على موسكو، ووصفها بأنها سلطة احتلال، وتصعيدهم بالذهاب إلى الأمم المتحدة؛ لإثارة قضيتهم، ثم قرار أنقرة الأخير منح كييف طائرات «بيرقدار» المسيرة، وبَدْء استخدامها في منطقة الشرق، وهي كلها إجراءات تسعى تركيا من خلالها إلى استرضاء الجانب الأمريكي، وإعادة تعويم دورها كطرف مفيد لواشنطن والغرب في مواجهة روسيا، إلى جانب دعم اقتصادي سخي أوروبي لأوكرانيا؛ لإعادة هيكلة أجهزتها الأمنية والاستخباراتية على يد الخبراء الأمريكيين.
يشير النهج السابق إلى أن الغرب يعتمد مقاربة جديدة تهدف إلى ضم أوكرانيا إلى الناتو، دون أن تكون عضوًا فيه، مع استفادتها مما توفره لها العضوية دون معاهدة الدفاع المشترك، وهو نهج إذا استمر سيخلق تغييرًا في عقيدة الجيش والأجهزة الأمنية، يصعب فيما بعد تغييره، ويجعل من مهمة موسكو في تطويع هذه الدولة أمرًا شديد الصعوبة، وعلى هذا الأساس اتخذت موسكو ما يمكن تسميته بنهج “الدعوة إلى الحلول الدبلوماسية عبر الحشود العسكرية”، أي رفع مستوى التوتر إلى أعلى نقطة، ووضع الغرب وسلطة كييف في مأزق، إما الدخول في مواجهة محسومة سلفًا لصالح موسكو، وإفشال المخطط “الناعم” والتدريجي الحالي لتحويل أوكرانيا بالكامل إلى المعسكر الغربي، وإما إجبارهم على دخول مفاوضات تؤدي إلى حل سياسي، تعتقد موسكو أنه سيكون في صالحها؛ نتيجة الظروف الحالة المواتية؛ إذ إن الولايات المتحدة خرجت لتوها مما سمّاها بوتين هزيمة مدوية في أفغانستان، ولا وجود لأي رغبة شعبية، أو لدى الإدارة، في خوض أي حروب خارجية، وأوروبا تعاني أزمات داخلية عاصفة، مع فراغ في السلطة في ألمانيا، الطرف الأقوى اقتصاديًّا في الاتحاد الأوروبي، وصعوبة تشكيل حكومة ائتلافية لتحل محل حكومة ميركل المنتهية ولايتها، وفرنسا الطرف الأقوى عسكريًّا، يترنح رئيسها قبيل الانتخابات الرئاسية وسط تدني شعبيته، وليس من مصلحته بدء أي تصعيد مع روسيا، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مل الشعب الأوكراني منه ومن وعوده التي لم يحقق شيئًا منها، والمعارضة ضده تتوسع يومًا بعد الآخر. على هذا الأساس يمكن فهم دوافع التصعيد الروسي الأخير.
بوضوح شديد، أعلنت روسيا أكثر من مرة، وكما صرح بوتين نفسه، أن روسيا قد منحت أوكرانيا، وبعض بلدان الاتحاد السوفيتي السابق “هدية”؛ وعليه إما أن تكون هذه البلدان مع روسيا، وإما أن تسترد الأخيرة هداياها منهم، ويعني بذلك بعض الأراضي التي باتت اليوم بحوزتهم.
تريد روسيا، أوكرانيا حليفة لها في المقام الأول، وتحسم خيارها بالانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EACU)؛ لضمان تحويل هذا الاتحاد إلى قوة اقتصادية حقيقية، تؤهله ليصبح قوة عسكرية وجيوسياسية في مواجهة الاتحاد الأوروبي وأمريكا من ناحية، والصين من ناحية أخرى، كما أن أوكرانيا هي البلد المماثل لروسيا عرقيًّا وثقافيًّا ودينيًّا، إلى جانب بيلاروس، ووجودها في هذا الاتحاد مع عدد سكانها البالغ أكثر من (40) مليونًا، سيخلق توازنًا أمام باقي البلدان الأعضاء التي تنتمي في غالبيتها إلى العرق التركي، وتدين بالإسلام.
وجود أوكرانيا في حالة تكامل اقتصادي وسياسي وعسكري مع روسيا، يخلق منها بحق قوة عالمية، ويسمح لها بالوجود في الموانئ الدافئة العميقة، ويؤمّن حدودها مع الغرب، ويمكنها من الحديث بقدر كبير من المساواة مع أوروبا والولايات المتحدة والصين، كما سيؤدي هذا التكامل إلى تشجيع بلدان أخرى على حذو حذوها (مولدوفا وجورجيا، على سبيل المثال)، وسد الفجوة السكانية التي يمكن أن تشكل أزمة ديمغرافية كبيرة لروسيا في المستقبل القريب.
كذلك، تمثل أوكرانيا بوابة روسيا نحو أوروبا، والبحار الدافئة، وشبه جزيرة البلقان، وكل أوروبا الشرقية، وامتدادًا لذاكرتها التاريخية، وروحها الثقافية التي تسعى إلى استعادتها عبر تدعيمها بسيادة القومية السلافية والأرثوذكسية المتراجعة. وكل الضغوط السابقة والحالية تهدف إلى إقناع أوكرانيا بأنه لا مستقبل لها إلا مع موسكو حصرًا.
يستنتج مما سبق أن الهدف الروسي من الحشود العسكرية المتكررة في الآونة الأخيرة، هو الضغط على أوكرانيا وحلفائها الغربيين، في لحظة ترى فيها روسيا أن الظروف تعمل لصالحها؛ للتوصل إلى حل دبلوماسي شامل، لا يخص فقط الأزمة الأوكرانية؛ ولكن ينهي المخاوف الروسية التي بدأت منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، بالتوسع المتكرر لحلف الناتو، واقترابه من حدودها اقترابًا شديدًا؛ من خلال التوصل إلى اتفاقية مُلزمة بعدم توسع الحلف أكثر مما وصل إليه، وهو الوعد الذي حصلت عليه روسيا شفهيًّا من الولايات المتحدة، ولم تلتزم الأخيرة به نتيجة عدم توثيقه في شكل اتفاقية أو معاهدة. ويمكن لمن يرغب في التوسع في هذا الموضوع، الرجوع إلى دراسة البروفيسور ماري إليز ساروت (Mary Elise Sarotte) بعنوان «كيفية توسيع الناتو.. النقاشات الداخلية لإدارة كلينتون» التي ترجمتها وحدة الدراسات ما بعد السوفيتية في مركز الدراسات العربية الأوراسية.
تعتقد موسكو كذلك أن شد الأعصاب الحالي عبر الحشود العسكرية، يمكن أن يسهم في مزيد من المرونة لدى الطرف الأمريكي، ويمهد طريق المفاوضات قبل الاجتماع المرتقب بين بايدن وبوتين، الذي يمكن أن يحدث خلال شهر كما صرح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف. وقد شدد على الأمر نفسه، مستخدمًا شبح احتمالية عودة الحرب إلى أوروبا من جديد، وزير الخارجية الروسي لافروف، في أثناء لقاء نظيره الأمريكي أنتوني بلينكين، على هامش مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
فيما يخص أوكرانيا، لدى موسكو سيناريوهات أربعة، لا تخفيها، وسبق أن أعلنتها عدة مرات، عبر تلميحات مسؤولين رسميين، أو محللين مقربين من الكرملين، ويمكن إجمالها في التالي:
السيناريو الأول: وهو المفضل لدى موسكو، أن تنصاع أوكرانيا لحكم التاريخ والجغرافيا؛ بالتحالف مع موسكو، وفي هذه الحالة ستحافظ الأخيرة على وحدتها الداخلية، وتدفع حلفاءها إلى العودة إلى أحضان السلطة المركزية في كييف، مع وعود روسية بتقديم هبات ومساعدات مالية ضخمة، وفتح أسواق العمل والتجارة والسياحة أمام الأوكرانيين، ومرور خطوط إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر أراضيها، مع تمتعها بأسعار تفضيلية، وشروط سداد ميسرة.
السيناريو الثاني: تطبيق نظام كونفدرالي، بما يضمن لموسكو أن تتمتع الأقاليم الجنوبية والشرقية بحريتها في اختيار لغتها القومية، وتفضيلاتها السياسية والاقتصادية، التي ستكون في صالح روسيا؛ ومن ثم خلق منطقة عازلة بين أوكرانيا “الروسية”، أو “روسيا الجديدة”، أو “الصغرى” تاريخيًّا، وباقي مناطق أوكرانيا الغربية، الموالية تاريخيًّا للغرب.
السيناريو الثالث: تطبيق نظام فيدرالي لا مركزي، على غرار النظام الروسي، يحافظ على اللغة الروسية كلغة أولى في الأقاليم الشرقية والجنوبية، وتبعية سكان المنطقة لبطريركية موسكو وعموم روسيا الأرثوذكسية، وحق الفيتو، بما يضمن عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو، أو أي مشاريع غربية معادية لروسيا.
السيناريو الرابع: فشل التوصل إلى أي حلول دبلوماسية، واستغلال أي استفزاز أو حماقة تقدم عليها السلطة في كييف؛ لتتدخل عسكريًّا في شرق أوكرانيا، بحجة شرعية هذا التدخل عبر وجود استفتاء شعبي طالب فيه سكان المنطقة بالانفصال عن أوكرانيا، والتزامًا ببنود تعديلات الدستور الروسي الجديد، الذي يلزم الدولة بالحفاظ على مصالح الناطقين بالروسية في كل مكان في محيطها القريب، واعتبار سكان المنطقة روسًا عبر اكتساب قطاع عريض منهم للجنسية الروسية، وتحفيز باقي المناطق الأخرى على الانفصال؛ للحصول على أوكرانيا “المفيدة” ذات الثقل السكاني والتاريخي، والموارد الاقتصادية، والمحاذية لحدود روسيا، والمرتبطة تاريخيًّا معها، وترك أوكرانيا الزراعية غير المنتجة في الغرب والوسط، وغير المتجانسة دينيًّا ولغويًّا؛ إذ يعيش فيها أرثوذكس، وكاثوليك، وبروتستانت، ويتحدث السكان بالأوكرانية، والبولندية، والرومانية، والتشيكية، والسلوفاكية، والمجرية، لتصبح عبئًا على الغرب، بلا فائدة.
السيناريو الخامس: انتظار حالة ضعف غربي، ترى السلطة الروسية أنه حتمي، مع دعم الكرملين للحكام القوميين في أوروبا الشرقية، والتوصل معهم في لحظة الضعف الغربية هذه إلى اتفاقية شبيهة باتفاقية «مولوتوف- ريبنتروب»، لإعادة توزيع أراضي أوكرانيا، كما كانت قبل عام 1939؛ لتحصل على أوكرانيا التاريخية المرتبطة بروسيا، ويتم تقاسم باقي الأراضي الأخرى بين دول الجوار، مع حصر الدولة الأوكرانية “الجديدة” بمناطق الوسط الحبيسة، كما كانت في ظل حكم هتمانات القوزاق (1648-1764).[4] من الجدير بالذكر أن الدولة المجرية تمنح الجنسية لسكان بيريهوفي في زاكارباتيا، في غرب أوكرانيا، وهم من الناطقين بالمجرية، وولاؤهم للمجر، وبعد تسريب فيديو لمنح القنصل المجري العام الجنسية لهم عام 2018، قررت أوكرانيا طرده من البلاد[5]، وهو ما يشير إلى أن لهذا السيناريو أساسًا قويًّا.
هناك السيناريو الأخير، الذي يراهن الغرب عليه أيضًا، وهو روسيا ما بعد بوتين، وتحللها ودخولها في صراعات داخلية؛ مما يمكن الغرب من استغلال استثماره الحالي في أوكرانيا، بضمها بشكل كامل لمعسكره في هذه اللحظة الفوضوية المتوقع حدوثها في روسيا، وحتى إذا عادت الأخيرة إلى الاستقرار من جديد، سيكون قد قضي الأمر، أو كما يقال في المثل العربي الشهير «سبق السيف العذل».
أيًّا ما كان السيناريو الذي سيحدث، فإن المؤشرات كافةً توضح أنه لا مجال لنشوب حرب بين البلدين، وأنه لا رغبة لدى أي طرف في قيامها. بكل تأكيد، هناك من يرغب في هذه الحرب من أصحاب الرؤوس الساخنة في موسكو، وكييف، وواشنطن، وبروكسل، ولندن، ولكن في العموم، مَن لديهم سلطة القرار، لا يبدو أنهم راغبون في هذا السيناريو الذي إذا حدث، سيكون بشكل مفاجئ، ونتيجة استفزاز أو خطأ غير مقصود، ويتوقع أن يتم تداركه سريعًا لكيلا يصل إلى حرب شاملة.