تمر المنطقة العربية بلحظة فارقة، بدأت منذ أحداث 2011، وهي تجسّد خللًا تفاقم منذ لحظة غزو صدام حسين الكارثي للكويت، وكلها أخطار أمنيّة في الدرجة الأولى.
في منطقة «المغرب العربي» تتميز المملكة المغربية باستقرار كبير، ولا تزال مشغولة بالقضية المركزية المتمثلة في الصحراء الغربية، ولا تزال موريتانيا تترنح في حالة من عدم الاستقرار السياسي، يطاردها شبح الصراع العرقي، وتمدد الجماعات الإرهابيّة، إلى جانب صراعها التاريخي مع السنغال. أما الجزائر، ومنذ «العشرية السوداء»، فتحاول التعافي في حين أن تونس منقسمة على ذاتها، وأدواتها الإصلاحية مرهونة بصراعٍ أيديولوجي، أما البلد الأكثر تعاسةً فهو ليبيا، التي ودّعت الاستقرار منذ فترة طويلة.
قلب العالم العربي، أو منطقة «وادي النيل»، تمكنت فيها مصر من تجاوز الزلزال السياسي الذي تعرضت له عام 2011 بتكلفة باهظة، والسودان يناضل من أجل تجنب مصير بعض البلدان العربية الأخرى التي باتت تصنف على أنها “فاشلة”، وكلا البلدين أمام تحدٍّ يتمثل في المياه؛ سر وجودهما، وباعث حضارتهما.
عرب «القرن الإفريقي» والساحل الشرقي (الصومال، وجيبوتي، وجزر القمر) تعصف بهم الصراعات العرقية والأطماع الخارجية، تحديدًا من إثيوبيا، والحركات الإسلاموية المتطرفة، والتسابق التركي- الإيراني لاستغلال فراغ السلطة أو ضعفها؛ لخلق نفوذ خاص بهم في المنطقة يمتد إلى كل إفريقيا.
بلدان «المشرق العربي» تعيش تحديات متعددة، إلى جانب التحدي التاريخي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، المتمثل في السلام في المنطقة، وتأخر حلّ الدولتين، الذي ساعد عليه الانقسام الفلسطيني الداخلي.
لبنان، أو سويسرا الشرق كما كان يوصف في الماضي، أصبحت الكهرباء وتوافرها عشر ساعات يوميًّا أقصى طموحات شعبه في ظل كارثة مالية هي الأسوأ عالميًّا منذ 200 عام، وفق البنك الدولي. والأردن يكافح وسط هذه العواصف للحفاظ على بقائه.
أما سوريا والعراق، ومعهما الأردن، فالهزات القوية والجدران العالية، تمنع القيادة السياسية فيها من التعاون لإعادة الاستقرار، ونشأت على الأرض حركات وتيارات اعتادت تجاوز الدولة. وإذا كان العراق يمثل حالة من صراع النفوذ، فإنّ اليمن تفوّق عليه.
دول «مجلس التعاون الخليجي» بقيادة المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، تواجه آثار تلك الفوضى حتى لا تمتد إلي الخليج، وقد نجحت في وأدها في البحرين، وحصارها في اليمن. إلى جانب المواجهة التقليدية للطموحات الإيرانية التوسعية، والأطماع التركية، ومحاولات الابتزاز الغربية التي لم ولا يُعتقد أنها ستتوقف تستهدف القيادات في أشخاصهم، خاصة ذوي الرؤى الشبابية.
يحدث هذا كله في ظل نظام عالمي يشهد نهايةً للحظة الأحادية القطبية، وتشكل أقطاب جديدة ستؤثر- بكل تأكيد- في مستقبل المنطقة، وربما تؤدي إلى ميلاد نظام عالمي جديد يستمر قرنًا من الزمن أو أكثر، ولا يمكن بسهولة تغيير قواعده، فهل يصبح العرب ضحية، أو “كبش فداء” لهذا النظام الجديد؟
حينما جاءت فكرة الدولة، قبل الاستقلال، تمّت مواجهتها بأنماط مختلفة، ولم يكن استيعابها سهلًا. كانت شعبية الأفكار الأممية أو الإقليمية الوحدوية، ممثلة في “الخلافة الإسلامية” أو “القومية العربية”، أمرًا طبيعيًّا بالنظر إلى ظروف تاريخ المنطقة وسياقاته؛ لذا فما إن تحررت الدول العربية، وبلغت مرحلة العافية، وجاءت سلسلة الانقلابات العسكرية المسنودة شعبيًّا في الخمسينيات، حتى رفعت أفكار الوحدة العربية، ثم تراجعت بعدما ثبت بالتجربة فشلها عبر الوحدة المصرية- السورية (1958 – 1960)، حتى إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، أعاد النظر في هذه الفكرة برمتها، وتراجع عن طلب السوريين والعراقيين عقد وحدة ثلاثية، وطرح مفهوم «التضامن العربي» بديلاً عن “الوحدة الاندماجية”.
نتيجة لهذه الأسباب التاريخية، والأخطاء التي تم ارتكابها في فترة الستينيات، وتفكك الاتحاد السوفيتي (1991)، وقيام ثورة في إيران (1979)، وغزو صدام حسين للكويت (1990)، بدأت ولادة نظام هشّ على أنقاض الترابط السياسي الإقليمي العربي، وانتهت بطمعٍ في إعادة رسم الخريطة، فظهرت أحداث 2011، التي تمددت في حالة فراغ أيديولوجي، وفقدت الخريطة العربية أهم بلدين عربيين في منظومة أمنها القومي (سوريا والعراق)، وواجهت لأول مرة منذ تأسيس الدولة العربية الحديثة، تحديات وجودية من كل جانب تقريبًا، فأين المفر؟
التحالف يعني- بطبيعته- التقاء مصالح بين مجموعة من الدول، قد يكون لديها حدود جغرافية واحدة، تخلق منظمة إقليمية للعمل على تعزيز هذا التحالف وتطويره، أو خطر مشترك يتهددها رغم بُعد المسافات فيما بينها، لكن هذه التحديات أو الرغبات رهينة بالقدرة، وقبل ذلك بوجود تنوع في معايير القوة التي تمتلكها أطراف هذا التحالف، وأن تتناسب مع حجم الأخطار والتحديات، أو الآمال والطموحات.
لقد أكد ما يمكن وصفه بـ “تحالف تعزيز الاستقرار ووقف الفوضى” بين مصر، والسعودية، والإمارات- في المقام الأول- قدرته على مواجهة خطر الحركات الإسلاموية، ووأدها في مصر، البلد العربي الأكبر، الذي إن تمكنت هذه الحركات من حكمه لأصبح مصير كل المنطقة اليوم على المحك، فالتقت المصلحة الذاتية لأطراف هذا التحالف مع المصلحة العامة لكل بلدان المنطقة وشعوبها، وأثبت- بحق وجدارة- أنه يمتلك من القدرة والمناورة ما يمكنه من فرض إرادته إذا تظافرت الجهود، وهو ما مكّنه من مواجهة جماعة أممية عملت بدأب منذ عقود، مثل جماعة الإخوان (منظمة إرهابية محظورة في روسيا)، ورعاتها الإقليميين والدوليين، ومنهم أطراف مؤثرة وقوية داخل إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
رغم النجاح الكبير الذي حققه هذا التحالف في مواجهة الإخوان، فإنه لم يحقق نفس النجاح المرجو في مواجهة تحديات أخرى لا تقل خطورة؛ وذلك لأسباب كانت خارجة- في كثير منها- عن إرادة أطرافه الرئيسية، أو لانشغالات داخلية. مصر، على سبيل المثال، دخلت في مواجهة أمنية طويلة ما زالت مستمرة، وإن تراجعت حدتها، ومواجهة أخرى للبناء لخلق قوة للدولة تجنبها تكرار ما حدث في 2011، والسعودية قاد فيها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ثورة منظمة للتغيير، على المستويات كافة.
مستقبل المنطقة بكاملها أصبح الآن مرتبطًا بقدرة الثلاثي المصري السعودي الإماراتي على الانتقال من مرحلة التنسيق لمواجهة الأخطار إلى «تحالف القادرين» المبني على مصالح اقتصادية، وعسكرية، وسياسية، وتقديم مشروع حقيقي لشعوب المنطقة، مع مرونة في صياغة العلاقات مع القوى الإقليمية والعالمية الصاعدة.
يعلمنا التاريخ أن الاتحاد الأوروبي نشأ- بعد عقود طويلة من الحروب والصراعات الأوروبية- عبر تحالف محدود من القادرين بقيادة فرنسا، وألمانيا الغربية، وإيطاليا، وانضمت إليه قوى أخرى أصغر، مثل بلجيكا، وهولندا، ولوكسمبورغ، ووقعت معًا «معاهدة روما» عام 1957، التي بموجبها تأسست المجموعة الأوروبية الاقتصادية الأولى (CEE)، وصولا إلى «معاهدة ماستريخت» عام 1992، وأصبح الاتحاد الأوروبي على ما هو عليه اليوم.
النهج الهجين في إدارة تناقضات النظام الدولي والإقليمي، واستغلال علاقات وقدرات كل طرف من أطراف هذا التحالف لخدمة الهدف النهائي، هو ما سيمكّن في النهاية من التوصل إلى منظومة أمن جماعي موسعة، وقواعد لحدود النفوذ مع الجيران، لتشمل هذه التفاهمات دول جوار النفوذ.
هذا التحالف الذي طال انتظاره، قادر على صنع الكثير، ومما يبشر بإمكانية تحوله إلى حقيقة واقعية تمتع قياداته برؤى غير نمطية، وقدرتهم المختبرة على تجاوز التحديات. ويبقى التحول إلى مشروع ورؤية، وتقديم بديل شامل لشعوب المنطقة، هو المرحلة التالية التي ينتظرها الجميع لكي يتحول الحلم إلى حقيقة، وإلا فلن تنظر واشنطن، أو بكين، أو موسكو، أو بروكسل، إلى العالم العربي بجدية.