أنهى إنعاش العلاقات السوفيتية/ الروسية- السعودية في سبتمبر (أيلول) 1990، حقبة من المواجهة بين القوتين، وهو ما دعمه البيان المشترك، الذي أكد رغبة الطرفين في تطوير “علاقات ودية لصالح الشعبين”، لكن هذه العلاقات دخلت عام 1994 فترة ركود بسبب الأزمة الشيشانية (وكذلك نتيجة تفكك يوغوسلافيا). وكان من الشائع في الرأي العام الروسي الادعاء بأن الرياض (التي “أسهمت” في انخفاض أسعار النفط العالمية في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين) هي السبب في انهيار الاتحاد السوفيتي، وذلك بالإضافة إلى التفسير الخاطئ للمساعدات السعودية للأقليات المسلمة على أنها “زرع للوهابية”.
أدّى تولي فلاديمير بوتين الرئاسة عام 2000 إلى تغيير الوضع، وهو ما تجلى في استئناف الاتصالات بشأن البحث عن سبل لتهدئة الوضع في شمال القوقاز. وكانت زيارة ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز إلى موسكو في أوائل سبتمبر (أيلول) عام 2003، مؤشرًا على اعتراف الرياض بـ “قضية الشيشان كشأن داخلي لروسيا”. بدأت موسكو والرياض التعاون في مواجهة خطر الإرهاب، موضحتين أهمية إعطاء “زخم إيجابي” للعلاقات التجارية، والاقتصادية، والبرلمانية، والثقافية.
كانت إحدى نتائج زيارة الملك المستقبلي إلى العاصمة الروسية هي مبادرة روسيا المدعومة من الجانب السعودي بالانضمام إلى منظمة التعاون الإسلامي، التي اعتبرتها موسكو أداة للحد من تأثير المتطرفين الإسلامويين في المجتمع الإسلامي في روسيا. في أبريل (نيسان) عام 2003، أعلن بوتين أن هناك “ملايين من المسلمين” يعيشون في روسيا؛ مما يسمح لها بأن تكون “جزءًا من العالم الإسلامي”، وفي يونيو (حزيران) عام 2005، انضمت روسيا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة مراقب.
في فبراير (شباط) عام 2007، قام بوتين بأول زيارة رسمية له إلى الرياض. بحلول وقت تلك الزيارة، كانت موسكو قد بادرت بسياسة خارجية جديدة ترفض نظام العلاقات الدولية “الأحادية القطب” المبنية على “الهيمنة الغربية”.
وتحدث بوتين خلال لقائه القادة السعوديين عن روسيا بوصفها “وطنًا مشتركًا” يعيش فيه “المسيحيون والمسلمون وممثلو الطوائف الأخرى” في وئام وحسن جوار. جرى الحديث عن تجربة روسيا “الفريدة” في “إثراء الشعوب والثقافات”، وهو ما ارتبط بفكرة السعودية في “حوار الأديان والحضارات”. وأشار الرئيس الروسي إلى أن هذه الفكرة بنّاءة مصرحًا بأن “حوار الحضارات” هو “السبيل إلى إقامة نظام عالمي عادل”، واقترحت موسكو أن تكون المعارضة المشتركة “لـلأحادية القطبية” أساسًا للتعاون الثنائي.
أشار بوتين في أثناء زيارته للرياض إلى “الأهمية الاقتصادية” للسعودية بالنسبة إلى روسيا. فسر مجلس الأعمال السعودي الروسي توسيع العلاقات الثنائية الاقتصادية والعسكرية الفنية على أنه “اختراق لمجال الهيمنة الاقتصادية الأمريكية”. من خلال دعم إنشاء مجموعة الرؤية الإستراتيجية “روسيا- العالم الإسلامي” (التي عُقد اجتماعها الأول في جدة، أكتوبر/ تشرين الأول عام 2008)، أعلنت القيادة الروسية أن “التعاون مع العالم الإسلامي” هو السبيل إلى إنشاء “نظام عادل للعلاقات الدولية”. وكان من شأن المبادرة، التي طرحها وزير الخارجية (آنذاك) إيغور إيفانوف في أثناء زيارته إلى طهران، بإقامة “منطقة أمنية” في الخليج بمشاركة إيران، أن تكون شكلًا من أشكال هذا النظام.
لم يكن من المستبعد أن تشهد تلك الاتصالات الثنائية، التي بدت إيجابية، اندلاعًا جديدًا للخلافات، حيث شددت موسكو على الحاجة إلى إنشاء “تعليم إسلامي روسي محلي” وهو ما عمل على تقليص التفاعل مع الجانب السعودي في الشؤون الدينية لمسلمي روسيا إلى أدنى حد. كما عرّف الخطاب الروسي الرسمي والعام ما يسمى “الربيع العربي” بأنه حلقة من “الثورات الملونة” التي دعمها الغرب، وثارت شكوك قوية داخل روسيا بشأن الموقف السعودي بسبب الخطاب الديني الذي دعم هذه “الثورات”، تحديدًا في سوريا.
نتيجة لذلك، تحدث بوتين خلال اجتماعه في أوفا، عاصمة جمهورية باشكورستان الفيدرالية الروسية، ذات الأغلبية المسلمة، عام 2013، مع رؤساء الإدارات الروحية الإسلامية الرسمية، عن “التيارات المتطرفة” التي “تضعف” الدولة، وتخلق “صراعات خاضعة للسيطرة من الخارج”. إلى جانب ذلك، أحيت أزمة النفط عام 2014، المزاعم عن قيام السعودية بأعمال “معادية لروسيا” في سوق النفط العالمية، حيث تناول بوتين مرتين فكرة أن “المملكة العربية السعودية هي الدولة الوحيدة التي بإمكانها خفض أسعار النفط العالمية على نحو خطير”، معتبرًا أن هذه الإجراءات قد تكون “ثمرة اتفاقها” مع واشنطن.
ظهر انفراج في العلاقات الثنائية في عام 2015؛ حيث إنه في ظل نظام العقوبات، كانت روسيا بحاجة إلى إيجاد شركاء خارج دائرة الدول الغربية، وكانت المملكة العربية السعودية، حيث اعتلى الملك سلمان بن عبد العزيز العرش، واتخذ مسار تنويع العلاقات السياسية والاقتصادية الخارجية، من بين هؤلاء الشركاء. كما جاء التطلع الروسي إلى تسوية العلاقات مع الرياض على خلفية اعتبار “الحياد” السعودي فيما يتعلق بالمواجهة الروسية الأوكرانية (بما في ذلك قضية القرم) مظهرًا من مظاهر “التناقضات” السعودية الأمريكية.
أكد استئناف مجلس الأعمال السعودي الروسي، الذي نظم “جولة ترويجية للمناطق والشركات الروسية” في جدة، مايو (أيار) 2015، التوجه نحو ديناميكية إيجابية في العلاقات الثنائية. وناقش وفد المجلس الاتصالات الاقتصادية، بما في ذلك تلك الموجودة في الزراعة، وإنتاج النفط وتكريره، وإمكانية إدخال الصيرفة الإسلامية في المناطق الروسية “الإسلامية” بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. كما دُعيت قيادات منظمة التعاون الإسلامي (وكذلك البنك الإسلامي للتنمية) لحضور القمة الاقتصادية الدولية بين روسيا ومنظمة التعاون الإسلامي التي عقدت في قازان، عاصمة جمهورية تتارستان الفيدرالية الروسية، ذات الأغلبية المسلمة، في يونيو (حزيران) عام 2015.
في أوائل صيف 2015، زار الأمير محمد بن سلمان، روسيا، والتقى بوتين على هامش منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي. شدد رئيس الدولة الروسية خلال استقباله الأمير على أن الدولتين تتمتعان “بعلاقات جيدة” تعتز بها روسيا. كما أشار الرئيس إلى أهمية تلك الزيارة على الصعيد الاقتصادي، متحدثًا عن “نمو حجم التبادل التجاري”، الذي رغم تمتعه بـ “ديناميكية جيدة” ما زال “متواضعًا في القيمة المطلقة”. وإدراكًا منه لارتباط التعاون الاقتصادي بمستوى الاتصالات السياسية، لم يكتفِ بتأكيد دعوة الملك سلمان عبد العزيز إلى زيارة روسيا، بل وافق أيضًا على زيارة الرياض مجددًا.
كانت نتائج زيارة الأمير محمد بن سلمان مثيرة للإعجاب؛ حيث تم التوصل إلى اتفاق بين صندوق الاستثمار المباشر الروسي وصندوق الاستثمارات العامة السعودي بشأن الاستثمار في الاقتصاد الروسي، ووقعت الوزارات والإدارات المعنية في البلدين اتفاقيات ومذكرات تعاون في مجال الطاقة النووية، ومذكرات إعلان نيّات مشتركة في مجال الفضاء والبناء والتعاون العسكري والتقني والطاقة. أثبت برنامج إقامة الأمير محمد بن سلمان، في “العاصمة الشمالية” (سانت بطرسبرغ)، أن الجانب الروسي يرى في المناطق “المسلمة” (الشيشان وتتارستان) منطقة نشاط اقتصادي سعودي مستقبلي (يشمل الجانب الاستثماري).
في إشارة من الصحافة الروسية إلى “النجاح الباهر” لسياسة موسكو الإقليمية، قالت إن “الانفراج الذي تحقق في العلاقات مع السعودية” جاء نتيجة “تراجع” قيمة “العنصر الأمريكي” بالنسبة إلى الرياض، التي أصيبت بخيبة أمل من تصرفات إدارة أوباما. لكن في سبتمبر (أيلول) عام 2015، أدّى التدخل العسكري الروسي في سوريا (عندما اتهم بعض العلماء السعوديين موسكو بالإسلاموفوبيا، ودعوا إلى إعلان الجهاد ضد روسيا) إلى إعادة تأزم العلاقات بين البلدين. لم تغير زيارة الأمير محمد بن سلمان لسوتشي في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، ولقاؤه بوتين، من هذا الاتجاه، فلم يقبل الجانب السعودي الاقتراح الروسي بشأن تشكيل “تحالف دولي واسع” ضد ما تسمى “الدولة الإسلامية” (منظمة إرهابية محظورة في روسيا) يشمل نظام بشار الأسد وإيران.
ظلت الاتفاقات التي تم التوصل إليها في سانت بطرسبرغ مجرد “خطابات نيّات”. وأخذت تظهر مبررات غير متوقعة لمرحلة جديدة من الركود في المجال الاقتصادي؛ نتيجة هبوط أسعار النفط.
في الوقت نفسه، استمرت موسكو (وكذلك الرياض) في اعتقاد أن الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية (وحتى تعزيزها)، والحفاظ على الاتصالات السياسية غير المرتبطة بالصراع الداخلي السوري، يخدم المصلحة المشتركة لكلا البلدين.
وصل الملك سلمان بن عبد العزيز إلى موسكو في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017. وفي العاصمة الروسية، تم تأكيد “الدور الرائد” للسعودية في العالم العربي، كما وصفت زيارته بأنها “تاريخية” و”فاصلة”. كما أشار بوتين في حديثه مع العاهل السعودي: “هذه هي الزيارة الأولى لملك المملكة العربية السعودية إلى روسيا في تاريخ علاقاتنا وهذا حدث تاريخي في ذاته”، فقد رأت موسكو في زيارة الملك تأكيدًا لمكانتها في الشرق الأوسط.
جرت زيارة الملك في ظل علاقات اقتصادية ثنائية محدودة: “بلغت حصة المملكة العربية السعودية في حجم التجارة الخارجية لروسيا عام 2016 (0.105٪) (المرتبة الـ 75) واحتلت البلاد المرتبة الـ 70 في الصادرات الروسية (0.12٪ عام 2016) والمرتبة الـ 75 في الواردات (0.077٪ عام 2016)”. تضمنت حزمة الوثائق المشتركة التي تم التوقيع عليها خلال الزيارة مذكرات تفاهم وبرامج تعاون، تطلب تنفيذ محتواها المعلن حوارًا ثنائيًّا طويلًا ودقيقًا. تعلق ذلك بالتعاون بين شركة أرامكو السعودية، وشركتي روسنفت وغازبروم وشركة روساتوم، ومدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة، وكذلك صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والصندوق السيادي للمملكة العربية السعودية.
أسهمت رغبة الرياض في تنويع علاقاتها العسكرية والتقنية، تلك السياسة التي تبناها ولي العهد منذ إعلانه رؤية (2030)، في توقيع عقد بين شركة روس أوبورون إكسبورت والشركة السعودية للصناعات العسكرية للإنتاج المرخص لبنادق كلاشينكوف الهجومية (AK-103)، وتوريد أنظمة صواريخ (S-400 Triumf) للدفاع الجوي إلى الرياض. كما هي الحال في مجالات التعاون الأخرى، تطلب هذا العقد دراسة مفصلة للقضايا المتعلقة بطرق توريد المنتجات العسكرية الروسية، وأكثر من ذلك، موقع إنتاجها.
كان الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين أوبك وروسيا في خريف 2016 بشأن التخفيض المتبادل لإنتاج النفط من أجل الحفاظ على أسعار مقبولة في السوق العالمية مؤشرًا على التحرك المتبادل نحو استعادة الثقة؛ ما أسهم- إسهامًا كبيرًا- في اتخاذ الجانب السعودي قرارًا بزيارة الملك العاصمة الروسية. وقال الملك خلال لقائه بوتين ورئيس الوزراء آنذاك ديمتري ميدفيديف، وكذلك في حديثه خلال اجتماع خاص لمجلس الأعمال السعودي الروسي، إن الرياض “تأمل في الحفاظ على التعاون” في سوق النفط. كما أعرب الملك عن أمله في مساهمة روسية في تنفيذ مشروع (رؤية 2030)؛ مما يثبت أن الاتصالات الاقتصادية مع روسيا تصب في مصلحة السعودية.
استطاعت هذه الاتصالات أن تتطور على الرغم من استمرار الخلافات الكبيرة في مواقف الأطراف بشأن القضايا الإقليمية. وشدد جلالة الملك في لقائه بوتين، على أن الاستقرار في الشرق الأوسط ومنطقة الخليج يتطلب إنهاء تدخل طهران في شؤون دول المنطقة.
لم تؤمن القيادة السعودية بإمكانية تجاوز الخلافات مع موسكو بشأن قضية إيران في المستقبل المنظور. ظل الوجود العسكري الروسي في سوريا، المتعلق بصورة شبه أساسية بـ “الخصم الإستراتيجي” للرياض وحلفائه الإقليميين، مصدر إزعاج في مجال العلاقات الروسية السعودية. لكن العملية العسكرية الروسية في سوريا، التي أصبحت أساسًا لنفوذ موسكو الإقليمي المتنامي، أثارت اهتمام المملكة العربية السعودية بروسيا، وكان هدف القيادة السعودية من وراء عرضها على موسكو تطوير الاتصالات الاقتصادية، هو تقييد التفاعل الروسي الإيراني في النزاعات الإقليمية.
ساعدت زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز على استقرار العلاقات الثنائية. كما عززت زيارة بوتين الثانية إلى الرياض في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019، التي ركزت على تعميق العلاقات الاقتصادية، نوعية جديدة من العلاقات الروسية السعودية. وقال الرئيس في حديثه في العاصمة السعودية أمام المشاركين في اجتماع مجلس الأعمال السعودي الروسي، إن قطاع الأعمال الروسي “يعلق آمالًا كبيرة على تنفيذ برنامج (رؤية 2030) للتحول الاجتماعي والاقتصادي”، وخلص إلى أن “المملكة العربية السعودية احتلت موقع الشريك الاقتصادي الرائد لروسيا في العالم العربي”.
هل خلقت زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز مقدمات للتحرك نحو الشراكة الإستراتيجية الروسية السعودية؟ ينشأ هذا السؤال لا محالة على خلفية وضع العلاقات الثنائية، حيث لا يسعى الطرفان إلى تأكيد الخلافات التي تفرق بينهما.
كانت نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين علامة فارقة في تطور العلاقات الروسية السعودية، فقد أخرجت موسكو والرياض هذه العلاقات من حالتها المضطربة من خلال التركيز على مهام التفاعل الاقتصادي.
وقد ساعد على ذلك العلاقات القائمة بالفعل بين قادة البلدين. تعود اتصالات بوتين الشخصية مع الملك سلمان بن عبد العزيز إلى زيارته الأولى للرياض، وقد استمرت على هامش قمة مجموعة العشرين عام 2015 في أنطاليا، وتعززت خلال الزيارات الثنائية في عامي 2017 و2019. ولا يقل عن ذلك أهمية تلك الاتصالات الشخصية بين الرئيس الروسي وولى العهد السعودي، التي بدأت خلال زيارتي الأمير محمد بن سلمان إلى سانت بطرسبرغ وسوتشي. خلال الفترة 2020-2021، كان هناك تبادل مستمر لوجهات النظر بينهما بشأن القضايا ذات الأهمية الأساسية لكلتا القوتين: وباء كوفيد- 19 (بما في ذلك إمكانية توريد اللقاح الروسي Sputnik V)، والطاقة الخضراء، واتفاقية أوبك +.
ومع أن وسائل الإعلام الروسية اعتمدت في تغطيتها لقضية جمال خاشقجي على معلومات مستقاة من الصحافة الغربية “الصفراء”، فإن موقف موسكو الرسمي كان مختلفًا وتعليقًا على التحيات الحارة بين بوتين ومحمد بن سلمان في قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2018 في بوينس آيرس، أكد المتحدث باسم الرئيس الروسي أن “الجانب الروسي له علاقاته الخاصة مع السعودية”. وأفاد دميتري بيسكوف أن “الرئيس بوتين أجرى محادثة غنية بالمضمون مع ولي العهد السعودي على هامش القمة في العاصمة الأرجنتينية”، قائلًا: “لذلك، وبالتحديد انطلاقًا من الاهتمام بمزيد من تطوير العلاقات الثنائية، تجرى الاتصالات على أعلى مستوى”. في مارس (آذار) عام 2021، أصبح لافروف بزيارته للرياض أول دبلوماسي أجنبي رفيع المستوى يلتقي ولي العهد مباشرة بعد إعلان واشنطن “تغيير المسار” تجاه المملكة العربية السعودية وصفت موسكو المحادثات بين لافروف ومحمد بن سلمان التي ركزت على مجموعة كبيرة من المشكلات السياسية في المنطقة، وكذلك التعاون في إطار أوبك +، بأنها “تنفيذ لأجندتها الخاصة”.
تضمنت “أجندة روسيا الخاصة” تقارب وجهات النظر بشأن تسوية الصراع في الشرق الأوسط، التي تفترض الاعتماد على القرارات الأساسية لمجلس الأمن الدولي و”مبادرة السلام العربية”، وكذلك حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس مبدأ “حل الدولتين”. ويرى كلا البلدين أن بيان جنيف الأول الصادر في يونيو (حزيران) عام 2012 هو أساس لتسوية الأزمة السورية. وقد ساعد قرار موسكو الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على القرار رقم (2216) بشأن اليمن، على تعزيز التقارب الروسي السعودي. تتفق كل من موسكو والرياض في موقفهما تجاه مسألة تحقيق الاستقرار في لبنان، والعراق، وليبيا.
في فبراير (شباط) عام 2005، دعمت موسكو المبادرة السعودية لإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت رعاية الأمم المتحدة. وفي عام 2011، وفقًا لتلك المبادرة، أُنشئ مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب الذي ينفذ الإستراتيجية العالمية لمكافحة الإرهاب بمشاركة روسية.
رفضت الرياض مقترح روسيا إدراج إيران في النظام الأمني في منطقة الخليج العربي، معتقدة أن المبادرة ستنعم بأساس سليم إذا التزمت طهران بحسن الجوار وعدم التدخل لكن ما دامت المملكة العربية السعودية ترى إيران خصمًا إستراتيجيًّا لها، فإنها سترفض فكرة وجود نظام أمني شامل في الخليج العربي.
في الوقت نفسه، لا يزال التفاعل الاقتصادي بين البلدين منخفضًا. في عام 2021، بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 1.5 مليار دولار (أقل من مليار دولار عام 2018)، مع أن موسكو تتوقع أن يصل إلى 5 مليارات دولار عام 2024. يمثل القمح والمنتجات الزراعية الأخرى حصة كبيرة من الصادرات الروسية إلى المملكة (بحلول عام 2024، تتوقع وزارة الزراعة الروسية أن تبلغ القيمة الإجمالية للتوريدات ملياري دولار). وجاء قرار فتح مكتب تمثيل تجاري في الرياض، الذي اتُّخِذَ في ربيع عام 2021، ليؤكد اهتمام روسيا بتطوير العلاقات التجارية والاقتصادية.
حتى عام 2019، كانت شركة “لوك أويل” الروسية موجودة في السوق السعودية، وكانت قد أبرمت عقدًا للتنقيب عن النفط وتطوير الحقول في إطار مشروع (LUKSAR) المشترك مع (Saudi Arabia Energy Ltd). ولا يعني انسحاب هذه الشركة من المشروع أن (LUKOIL) توقفت عن التعاون مع شركة أرامكو السعودية في الأسواق الناشئة كما أنشأت شركة “ستروي ترانس غاز” الروسية تحالفًا مع شركة “سعودي أوجيه”، وشاركت في إنشاء نظام نقل مائي للمحافظات الجنوبية الغربية من المملكة.
يعد التعاون البرلماني من أحد مجالات الاتصالات الروسية السعودية. يضم مجلس الدوما الروسي مجموعة برلمانية معنية بالعلاقات مع برلماني المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين. تعمل لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الروسي على تطوير العلاقات مع لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشورى السعودي.
في سياق العلاقات الثنائية، أصبح دور الإسلام متناقضًا بسبب أن الطبيعة العابرة للحدود لهذا الدين غالبًا ما يُنظر إليها في روسيا على أنها قناة لنشر الآراء والممارسات “المتطرفة”. ضاقت إمكانات الاتصالات الخارجية للإدارات الروحية المسلمة الروسية أكثر بعد أحداث الربيع العربي. لم تكن الثقافة والتعليم والتواصل بين الجامعات من بين أولويات التعاون المتبادل. وعلى الرغم من الحراك التعليمي العالي للطلاب السعوديين، فإن عددهم في روسيا ضئيل جدًّا. كما أن التعاون في مجال الإعلام ما زال في مهده حيث تم التوصل إلى اتفاق يسمح بفتح مكاتب لـ “ريا نوفوستي”، و”روسيا اليوم” في نسختها العربية بالرياض، خلال زيارة بوتين عام 2019. كما لا توجد أي مراكز بحثية أو خدمة صحفية سعودية تقدم معلوماتها بالروسية بشكل فاعل، وهو ما يجعل غالبية الأخبار عن السعودية في روسيا، من مصادر غربية “متحيزة”، وقد كشفت قضية خاشقجي ذلك الأمر بوضوح، حيث تبنى الإعلام الروسي الرواية الغربية في ظل عدم وجود رواية سعودية بديلة قادرة على التواصل والتفاعل مع الجانب الروسي إعلاميًّا.
يمكن لـ (رؤية 2030) أن تغير الوضع الراهن. كذلك فتح مجال التعاون والتبادل في المجال الثقافي بين البلدين، فقد قدم الموسيقيون الروس بالفعل عروضهم في الظهران. كما أقيم أسبوع الثقافة الروسية في الرياض بمناسبة زيارة بوتين عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، قد تصبح السياحة الروسية حقيقة واقعة في سياق (رؤية 2030)، حيث سُمح ببدء إصدار التأشيرات السياحية الإلكترونية في سبتمبر (أيلول) عام 2019 لعدد قليل- حتى الآن – من المواطنين الروس لزيارة المملكة العربية السعودية.
كل هذا يعني أن التفاعل بين الدولتين لا يزال بعيدًا عن كونه شراكة إستراتيجية، لكن العمل على تقريب المسافات بين الطرفين من شأنه أن يُسهم في ظهور المقدمات لنشأتها.
تعكس العلاقات الثنائية بين روسيا والسعودية اعتمادها على صفات بعض الشخصيات القائمة على رأس المؤسسة السياسية، سواء في موسكو أو في الرياض. إن الحد من هذا الاعتماد (الذي لا يعني التخلي عن العلاقات الودية)؛ ومن ثم تجنب العودة إلى اضطراب العلاقات، هو المهمة الأكثر أهمية لكلا البلدين، التي تتطلب بناء علاقات واسعة النطاق على أساس التفاهم السياسي، وقاعدة اقتصادية متينة، وتبادلات ثقافية مثمرة.
تتطلب إقامة علاقات ذات منفعة متبادلة الحد من الخلافات السياسية. وهذا ينطبق على الصراع السوري الداخلي، الذي يتطلب من روسيا التنسيق مع الرياض، وإعادة الاتصالات مع الجماعات “المعتدلة” من المعارضة السورية. كما يجب على روسيا في إطار سعيها إلى الحفاظ على كيان الدولة السورية مراعاة المصالح السعودية، والتركيز على تقارب المواقف (يدرك الطرفان أهمية تحقيق المصالحة الوطنية، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية)، وتهيئة الظروف للعبور السياسي من الدكتاتورية إلى نظام أكثر انفتاحًا.
يجب أن تنظر موسكو إلى العلاقات مع إيران على أنها عامل يضمن استقرار الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، لكن ذلك الهدف لا يمكن تحقيقه في ظل موقف موسكو الراهن لذلك يجب عليها إدانة الأعمال التي تهدف إلى إثارة قيام الأقليات الطائفية بأنشطة مناهضة للدولة، وكذلك إدانة تدخل الحرس الثوري الإيراني والميليشيات ذات الصلة، وهو ما سيقلل من مخاوف السعودية بشأن مزاعم “الدعم الروسي” لإيران. لكن مرة أخرى، تحتاج الرياض إلى صوت لها داخل روسيا، لينقل- بوضوح- مخاوفها المشروعة إلى الباحثين السياسيين المهتمين بشؤون المنطقة.
لا يستند التفاعل الروسي مع الجانب السعودي إلا إلى أساس فهم الطابع المستقل للسعودية بوصفها طرفًا في العلاقات الدولية، مستبعدًا النظر إليه من خلال الـ “منظور” الأمريكي. إن استغلال التناقضات بين الرياض وشريكها الإستراتيجي الرائد ليس هو السبيل لتحقيق مصالح موسكو الإقليمية.
يعد المجتمع الإسلامي الروسي هو العامل الأهم في تعميق الاتصالات الثنائية. تتمثل مهمة القيادة الروسية في رسم خط فاصل بين مكافحة التطرف، من ناحية، ودعم العلاقات الشاملة بين المسلمين الروس وإخوانهم في الدين من ناحية أخرى. ويعد طمس هذا الخط ذريعة لاتهام روسيا بالإسلاموفوبيا.
إن تنويع العلاقات الاقتصادية الخارجية للمملكة العربية السعودية وتحريرها سيساعدان على نقل العلاقات الثنائية إلى مستوى أعلى. ستحتاج روسيا، للحصول على موطئ قدم لها في السوق السعودية، إلى المهارة والقدرة على تقديم سلع وخدمات تنافسية في مجموعة متنوعة من المجالات، مثل “الفضاء، والطاقة النووية، والزراعة، والطب” ويفترض تقديم الخدمات في بناء صناعة الدفاع السعودية التعاون مع الأطراف الأخرى. يجب أن توحد جهود الأطراف فقط استنادًا إلى الشروط المنصوص عليها في الاتفاقات والعقود، ويجب أن ينطبق هذا أيضًا على مجال الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، حيث تتركز إمكانات الشركات الناشئة المبتكرة، وعلى تطوير العلاقات في مجالات الثقافة، والتعليم، والرياضة، والسياحة.