وحدت روسيا، على مدار تاريخها- ولا تزال توحد- كثيرًا من الشعوب التي تقطن سهول أوروبا الشرقية وشمال آسيا. وكان توسع الأراضي الروسية في بعض الأحيان مصحوبًا بحروب وصراعات مع الدول المجاورة. وتجنب هذه النزاعات لم يكن ممكنًا نظرًا للاحتمالية الكبيرة لحدوثها خلال تعايش الشعوب المختلفة في مرحلة ما من تطورها. ومع ذلك فإن الشرط الأساسي للازدهار الثقافي لهذه الشعوب هو الحل السلمي للتناقضات التي تنشأ بينها. وقد اتضح أن أساس هذه التناقضات هو الخلط بين التجربة الفردية والنظرة العامة. كما أثبت التاريخ أن الشعوب، التي في بداية لقائها تُعد غريبة بعضها عن بعض، مع مرور الوقت، تكتشف تقاربًا أخويًّا في الفروقات بينها. وغالبًا ما أدّت التقاليد الدينية دورًا حاسمًا في التغلب على الصراعات، وتحقيق المصالحة التي تجلب المنفعة للفرقاء.
ظهر الإسلام على الأراضي الحالية لروسيا عام 640 م، عندما أصبحت مدينة دربنت، أو باب الأبواب القوقازية، جزءًا من الخلافة الراشدة تحت حكم الخليفة عمر بن الخطاب. بعد ذلك، ظهرت خانيات الخزر ذات الأديان المختلفة، ومملكة البلقار. وقد اعتنق حكام آخر دولة في الجزء الأوسط من منطقة الفولغا الإسلام على يد وفد عربي من الخلافة العباسية عام 922. ومع ذلك، في الروايات التقليدية لتاريخ روسيا غالبًا ما يُنظر إلى المسلمين على أنهم شريك “خارجي” في التعاون، وخصم، أو مجتمع ديني دخيل انضم (عن طريق الغزو) إلى الدولة، ويمتلك بالنسبة إلى “غالبية” السكان الأرثوذكس مكانة التابع من وجهة النظر السياسية، ومكانة الهامش من وجهة النظر الثقافية. في الحقيقة، لا تَذكر هذه الروايات أهم فترة في تشكيل الدولة الروسية. نقصد هنا فترة الدوقيات الروسية في عصر القبيلة الذهبية (الحشد الذهبي)، التي كانت عاصمتها سراي، حيث مُنح الحكام الروس بموجب مرسوم رسمي لقب الحاكم (القيصر)، وكانت الكنيسة الأرثوذكسية تمجد في صلاتها “القيصر التتري” وازدهرت موسكو، التي أصبحت بعد انهيار القبيلة الذهبية عاصمة لدولة قد كانت بالفعل ذات سيادة.
الأساس القوي الذي ينقل الروايات التي تقلل من دور الشعوب الإسلامية في تاريخ روسيا، بشكل عام، لم يبنَ إلا في النصف الأول من القرن العشرين في كتابات المؤرخين الأوراسيين. غير أن الأورواسيين الكلاسيكيين و”ورثتهم الأيديولوجيين” في البيئة الأكاديمية، أظهروا- بشكل مقنع- أنه تم تشكيل مجتمع متعدد الأديان في القبيلة الذهبية مبني على أساس مزيج من الثقافات والجماعات العرقية، بالإضافة إلى إنشاء تحالف وثيق بين المسيحيين والمسلمين، وبين الروس والتتار. وبفضل الجهود التي يبذلها الأوراسيون يتم التغلب تدريجيًّا على النقل الخامل لوجهات النظر الضيقة بشأن التاريخ الروسي، وبدأت مناهج البحث الجديدة الأكثر شمولاً تأخذ مكانها الصحيح أخيرًا. ففي عدد من الأعمال خاصة في سلسلة كتب “الإسلام الروسي”- قدم مؤلف هذا المقال أيضًا مساهمة فعالة في إبراز دور الشعوب الإسلامية في تطوير الثقافة السياسية، والعقلية الروسية بشكل عام.
يجب التأكيد هنا أن التقاليد الدينية والثقافية، والسياسة الإدارية للقبيلة الذهبية، وليس فقط مجرد حقيقة وجود المسلمين ضمن سكان روسيا، هي التي كانت- في كثير من المجالات- الأساس الذي نشأت عليه الحضارة الروسية الأوراسية بكل تسامحها الديني و”ازدهارها المعقد”. أصبحت دوقية موسكو، وبعدها الإمبراطورية الروسية، وريثة “النزعة المُوَّحِدة” التي تميزت بها تلك الدولة المتعددة الأديان، وهي القبيلة الذهبية. الجدير بالملاحظة أنه بدون ظهور روسيا في منطق النزعة الثقافية والسياسية المذكورة، المتجذرة في تاريخ القبيلة الذهبية، فإن مصير الفضاء الحضاري المشترك في أوراسيا اليوم من الممكن أن يكون تطوره بشكل مختلف تمامًا.
بغض النظر عمن يُقيّم فترة مئتي عام من التاريخ الروسي كجزء من القبيلة الذهبية، لا يمكن لأحد أن يتجاهل أو “يخفي” الحقيقة الواضحة التي تفيد بأن في هذه الفترة تَشَكَّلَ المجتمع التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي الجديد، الذي ورثته دوقية موسكو، والإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفيتي، والاتحاد الروسي. ونحن هنا- بالطبع- لا نتحدث عن نموذج مبسط آخر للتطور الخطي، فهو ليس أقل من “الخلافة”، مع أنه من الضروري دراسة سلسلة من “الانقطاعات” التي حدثت في المراحل التاريخية المختلفة كل من هذه “الانقطاعات” وضع “بصمته” الخاصة به، وبالتحديد: العوامل الإضافية التي لم تُستنتَج استنتاجًا مباشرًا من منطق “النزعة المُوَّحِدَة” الموروثة من القبيلة الذهبية ومع ذلك، فإن هذا المنطق نفسه لم يتم تجاهله قط، فقد كان مشروطًا (وإلى حد كبير مُحدد مسبقًا) بالتكوين العرقي والثقافي والديني المعقد للمنطقة التي سعت روسيا إلى حكمها.
ولهذا تبين أن المطالبة بتعزيز التسامح الديني لا تنفصل جسديًّا عن الجهود المبذولة للحفاظ على المجتمع المتعدد دينيًّا والمتباين ثقافيًّا المذكور آنفًا، فقد تغيرت على مر التاريخ، بشكل متكرر، النسبة بين مكونات هذا المجتمع من ممثلي المجموعات العرقية والتقاليد الدينية المختلفة. كما تغير الوعي الذاتي لكثير من حاملي الهوية الأوراسية جزئيًّا. ومع ذلك، فإن البنية “الشاملة” والمتعددة المستويات للهوية الأوراسية كانت- ولا تزال- عنصرًا مكونًا للمجتمع التاريخي الروسي، كشرط لحيويته وتميزه الحضاري الفريد وبدونها لن يكون المجتمع كما هو عليه الآن. يمكننا القول إن روسيا ترى وتقبل قدرها التاريخي (وريثة للقبيلة الذهبية) إلى درجة أنها تساهم في إقامة علاقات حسن الجوار بين شعوب منطقة أوراسيا، ونحن هنا نتحدث عن الشعوب في داخل روسيا وخارجها.
بالطبع، يفترض أن لكلا اتجاهي العمل إستراتيجية محددة خاصة به، لكن القيم الروحية والأخلاقية لكل إستراتيجية، قابلة للتنفيذ، تظل كما هي على المستوى الأساسي وبالطبع، ستظل كذلك، شريطة أن تختار روسيا تراثها الحضاري الأوراسي. إحدى القيم الأساسية التي يتألف منها هذا التراث هو التسامح الديني، الذي تشهد عليه الصفحات المجيدة لتاريخ روسيا بعد فترة القبيلة الذهبية- قبل أي صياغة واضحة للفكرة الأوراسية. وخير مثال على ذلك هو التغييرات الإيجابية التي حدثت في السياسة الدينية الروسية في عهد يكاترينا (كاترين الثانية “العظيمة”). ومع ذلك، لن نخوض في تفاصيل الماضي، التي لا يمكن فهمها فهمًا كافيًا إلا بدراسة شاملة ودقيقة. التسامح ليس مجرد شعار وليس مجرد عامل من عوامل السياسة الدينية، أو ميزة ثقافية عرضية، ولكنه قيمة توَّحِد الناس عبر المكان والزمان، فهو ينتمي إلى الأسس الدينية للفضاء الحضاري الأوراسي.
البديل الوحيد “للنزعة المُوَّحِدة”- وفقًا لمنطق الحفاظ على التنوع الثقافي والديني- هو “النزعة المُجَانِسة” المشحونة بالتوترات المتزايدة، والصراعات الداخلية. الوَحْدَة التي تٌطبَّق في إطار “النموذج الأوراسي” لا تهدف إلى محو التنوع الداخلي بين الشعوب التي تعيش في روسيا. نحن مقتنعون بأن روسيا، المُخْلِصَة لإمكاناتها التاريخية، مدعوة إلى مهمة أخرى أكثر صعوبة، ولكنها في الوقت نفسه مهمة، مدعوة إلى ما يمكن أن يسمى التوافق بين المختلفين (المتنوعين).
من المستحيل تحويل العالم كله إلى كيان متجانس تمامًا من الناحية العقلية والثقافية والسياسية (ما لم تُفتَرَض سيناريوهات القوة المروعة بالطبع). مع مرور الوقت، تُصلح تأثيرات التموقع (عكس العولمة) تأثيرات العولمة، وأي محاولات حقيقية لإنشاء نظام عالمي للتعاون يجب أن تأخذ هذا العامل في الحسبان.
الواجب الحضاري لروسيا (أو للتوضيح، فلنقل المهمة الحضارية)، في المنظور الموضح أعلاه، هو إعطاء مثال ناجح لمجتمع مزدهر وقابل للحياة، مبني على أساس التوافق بين المختلفين. المسلمون الروس- بدورهم- يجب أن يقوموا (وهم حاليًّا يقومون، حسب استطاعتهم) بالجزء الأكثر فعاليةً في تنفيذ هذه المهمة. في كثير من النواحي، يعتمد استمرار المجتمع التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي الروسي في تمثيل القيم الحضارية الأوراسية على حسن نيتهم، وثمار إبداعهم الروحي.
إن تاريخ الإمارات العربية المتحدة زاخر بالأحداث المتعلقة بالتعاون بين مختلف الشعوب والجماعات الدينية، فقد قام كثير من التجار القادمين من الهند، وبلاد فارس، وبلاد الرافدين، الذين اجتذبتهم إمكانات التجارة العابرة، واستخراج اللؤلؤ، برحلات منتظمة إلى المنطقة. ومنذ القرن الخامس عشر، أصبحت هذه الفرص نفسها مطمعًا للافتراس من الشركات التجارية البرتغالية، ثم الإنجليزية. وفي سعي تلك الشركات إلى السيطرة الأحادية الجانب على ساحل الخليج، لم تتردد، وبدون خجل، في الاعتماد على استخدام العنف غير المحدود، مستخدمة تفوقها التكنولوجي. وبسبب ضعف الإمبراطورية العثمانية، التي لم يكن لها في فترات معينة سوى قوة اسمية على مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية، اشتد الانقسام السياسي للعالم العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر، واعتمد كثير من الأمراء العرب على حماية الإمبراطوريات الغربية، التي كان الشرق الأوسط بالنسبة إليها رهانًا آخر في خطة “اللعبة الكبيرة”. كمثل كثير من المناطق الثقافية والتاريخية الأخرى في العالم المحتل، كانت أراضي المسلمين في عيون الدول الأوروبية “المستنيرة” ساحات للمعركة والصراع فيما بينها. في هذه الحقبة، لم تنجح أصوات المفكرين الإسلاميين، التي ارتفعت لمطالبة الشعوب بإسقاط النظام الاستعماري، ونيل الاستقلال لأوطانهم، في تجاوز كل العقبات للوصول إلى قلوب عدد كافٍ من المستمعين.
منذ استقلالها، شهدت الامارات العربية المتحدة نموًا اقتصاديًّا غير مسبوق، وأصبحت أيضًا قوةً سياسيةً مستقلةً في الساحة الدولية. من الصعب المبالغة في تقدير أهمية الدول العربية الإسلامية في استمرار الحوار المثمر بين الأديان. وأعظم فائدة للحوار بين الأديان هو التفكير في التجربة التاريخية لتلك البلدان التي نجحت في تعزيز التسامح الديني في واقعها المحلي. في العقود الأخيرة، تعمل الإمارات العربية المتحدة- بجد واجتهاد- من أجل ازدهار المجتمعات الدينية المختلفة، فحكومة الدولة تدعم باستمرار- تشييد المعابد المختلفة، التي لا تنتمي إلى الطائفة الإسلامية السنية المهيمنة فقط؛ بل إلى الطوائف الأخرى. وكان نتيجة ذلك افتتاح الكنيسة الأرثوذكسية الأولى في الشارقة عام 2011، التي بنيت على أرض مهداة من صاحب السمو الشيخ سلطان بن محمد القاسمي. كذلك الكنيسة الأرمنية في أبو ظبي التي بُنيت بدعمٍ مقدمٍ من سلطات الإمارات العربية المتحدة، حيث إن الأرض التي بُنِيَت عليها الكنيسة مُنِحَت من مؤسس الإمارات العربية المتحدة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله رحمة واسعة، فقد خصص الشيخ زايد مبلغًا قدره 100 ألف دولار أمريكي لبناء الكنيسة في المرحلة الأولى. أما بقية الأموال فقد جمعتها الجالية الأرمنية. وكذلك توجد مساجد شيعية في الدولة، أشهرها المسجد الإيراني في منطقة بر دبي، والمسجد الإيراني في منطقة السطوة في دبي.
أحد أكثر المشروعات المعمارية إثارة للاهتمام، الذي يقوم على فكرة التسامح الديني والسلام والحوار الديني، هو “البيت الإبراهيمي” (المخطط افتتاحه في أبو ظبي عام 2022) وهو مجمع للمعابد يحتوي على كنيس (معبد يهودي) وكنيسة ومسجد، أي معابد لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث. هنا يمكننا ملاحظة الفارق الأساسي الأول بين المشروع المعماري في أبو ظبي و”معبد كل الأديان” في قازان (الذي افتُتح عام 1994)، الذي يتبادر إلى الذهن على الفور. تم تصميم وبناء “معبد كل الأديان” في قازان منذ البداية كمتحف، وليس كمجمع للعبادة بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ ومن ثم لا تُقام فيه الصلوات المنتظمة والصلاة الجماعية. بالإضافة إلى ذلك، فإن “التجسيد المادي” لمفهوم المبنى في قازان له طابع انتقائي (عن قصد).
بعبارة أخرى، المجموعة المعمارية، التي تضم حاليًّا كنيسة أرثوذكسية، ومسجدًا، وكنيسًا، ومعبدًا بوذيًا، هي- بالمعنى الدقيق للكلمة- “مبنى واحد” ترتبط فيه أماكن العبادة للأديان المختلفة بعضها ببعض. هذا اختلاف جوهري آخر عن “البيت الإبراهيمي” في أبو ظبي، الذي يغطي مساحة مفتوحة، حيث الكنيس والكنيسة والمسجد متجاورون، لكنهم يشغلون مواقع مستقلة. يبدو لنا أن هذا القرار الفني كان مدفوعًا بالرغبة في إظهار الاختلاف الكبير بين الأديان الإبراهيمية الثلاث، حيث إنه بالنسبة إلى مهندس “معبد كل الأديان” إلدار خانوف (1940-2013) فإن مشروعه هو “رمز معماري لكل الأديان”، وهو- أولاً وقبل كل شيء- رمز للتوحيد الواعي المرجو مستقبلًا، عندما يختلف المؤمنون فقط في العبادات، أما بالنسبة إلى ديفيد أدجاي، مهندس “البيت الإبراهيمي”، فإن المشروع في أبو ظبي هو قصة عن الحاضر، قصة عن ذلك الحاضر، الذي يتعرض دائمًا لخطر الضياع، ولكنه من خلال جهود الأشخاص من أصحاب النيّات الحسنة، يمكن دائمًا إحياؤه مرة أخرى؛ نظرًا إلى أنه يحتوي على “أساس روحي” مشترك بالفعل.
وهكذا، فإن مُخَطَّطَ مجمع “البيت الإبراهيمي” “معماريًّا” يؤكد الأهمية المستقلة لكل من الديانات الإبراهيمية، فليس من قبيل المصادفة أن مُخَطِط المشروع حاول الحفاظ على الوَحْدَة الأسلوبية بين ثلاث طوائف دينية متجاورة مختلفة، ولم يختر الطريقة الانتقائية. في الوقت نفسه، حسب تصور المهندس المعماري “للبيت الإبراهيمي”، عند بناء كنيس وكنيسة ومسجد، ستُراعَى المواد المستخدمة تقليديًّا في عملية بنائها، والصفات الطقوسية (“الليتورجية”) لكل دين؛ مما يضيف “الفروق الدقيقة” التصميمية إلى المظهر النهائي للمبنى. هذه “الفروق الدقيقة”- على سبيل المثال- تشمل اتجاه المسجد نحو مكة، والكنيس نحو القدس، والكنيسة نحو الشرق. في الوقت نفسه، فإن خانوف بتصميمه “معبد كل الأديان”- بشكل رمزي- يؤكد التوتر بين الحاضر والمستقبل، وهو تذكير ثقافي بعدم وجود الوَحْدَة الفعلية بين المؤمنين (ليس فقط أتباع الأديان الإبراهيمية) في عصرنا. من المفترض أن الانتقائية المتعمدة للمبنى تخدم الغرض نفسه؛ لأن القدرة على تحديد “الوَحْدَة الأسلوبية” لمجمع المعبد للتوحيد المستقبلي تنتمي فقط إلى المستقبل نفسه، فلن يحدث المستقبل (بأي شكل مرغوب فيه) بدون تضامن جهودنا في الوقت الحاضر، وبدون الوَحدة الروحية الموجودة بالفعل (إلى حد ما) (التوحيد الحاضري)، التي تذكرنا بوضوح بمشروع “البيت الإبراهيمي” في أبو ظبي.
تستند الجهود المبذولة لتعزيز التسامح الديني في المجتمع الدولي إلى مقومين رئيسيين؛ الأول هو الاحترام المتبادل، الذي يسمح بإقامة حوار حقيقي، تحظى فيه جميع أطرافه بحقوق متساوية، بين المجتمعات الدينية المختلفة التي تعيش في دول مختلفة. فقد منعت السيطرة الاستعمارية تنظيم هذا الحوار؛ لأنها كتمت أصوات الشعوب المسيطرة عليها في جميع أنحاء العالم، وأثارت الصراعات بين السكان والسلطات المحلية. واليوم، تتصدر الجماعات الإرهابية للتحدث نيابة عن الأمة الإسلامية بكاملها، دون أدنى مرجعية وتعمل على عرقلة الحوار المفتوح القائم على الاحترام بين المجتمعات الدينية المختلفة؛ مما يشكل أجواءً من الخوف وانعدام الثقة المتبادلة في المجتمع.
المقوّم الثاني الضروري للتعاون الدولي بروح التسامح الديني هو سياسة التسامح الديني الحقيقية، وليست الصورية، داخل الدول ذات القوميات المتعددة، لا ينبغي أن تقتصر هذه السياسة على الرغبة في تقديم التنازلات للمجتمعات الدينية القليلة عدديًّا التي تعيش داخل حدود الدولة، فالحوار بين الأديان ليس مجموعة من الإيماءات والتصريحات الدبلوماسية المهذبة من أجل إخفاء أعمال الغطرسة والابتزاز. بالإضافة إلى ذلك، تبين أن المنظور “السلبي” البحت ضيق جدًّا من أجل إقامة حوار شامل، فهو يؤدي- عاجلا أو آجلا- إلى طريق مسدود. وقد نص القرآن الكريم على كيفية التعامل مع أتباع الديانات الأخرى، مما يحقق التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين المدعوين إلى التنافس في الأعمال الصالحة. قال تعالى:
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (سورة المائدة، الآية 48).
إذا كان المجتمع غير قادر على توفير الظروف من أجل المسابقة في عمل الخير، فسوف يُدمّر من خلال المنافسة في عمل السوء. بعبارة أخرى، بالإضافة إلى “التسامح” البسيط، يحتاج المجتمع السليم والمزدهر إلى تناغم روحي وأخلاقي بين أتباع الديانات المختلفة، بحيث لا يتطلب إلغاء الاختلاف الناشئ بينهما. إن العمل الأخلاقي الحقيقي لا يكمن في قمع الشعور بتفرد المجتمع باسم فكرة نبيلة مجردة، ولكنه فعل نبيل ملموس للحفاظ على هذا التفرد، الذي يتزامن مع الاعتراف بحق مماثل لممثلي الآخر. شمول بدون تعميم، توافق المختلفين، ووحدة المتنوعين، هذه هي المبادئ التوجيهية لحوار حقيقي بين الأديان، لا يُستبدَل به مونولوج (حوار أحادي الأطراف) مخفي وراء ديكور (زينة) الاختلافات الخارجية. غالبًا ما يكون هذا التآلف “الظاهر” الكامل نتيجة التوحيد، الذي يُحقّق من خلال نبذ ساخر للقضايا الأساسية التي تُترك كفدية لأولئك الذين لا يميلون عمومًا إلى أي حوار. إذا لم يناقش المشاركون في الحوار- بصدق- الأمور التي تفرق بينهم، فإنهم بذلك لا يقضون على الفُرقة، فهم ببساطة لا ينخرطون في حوار حقيقي.
ومن ثم، فإن الغرض من الحوار بين الأديان، الذي يؤخذ على محمل الجد من المشاركين فيه، هو زرع التناغم في قلوب الناس، وإعدادهم للاهتمام الإيجابي والصادق بخبرات التجارب المختلفة، ومساعدتهم على الشعور بالتوافق الحقيقي العميق، وليس الذي يُستبدَل به أي اتفاق مصطنع. هذه هي الطريقة التي يُطرح بها التسامح الديني الراسخ بعيدًا عن الظروف الحالية، الذي يسمح لجميع الأشخاص أصحاب النيّات الحسنة بالمشاركة في قضية مشتركة، ليس على حساب التخلي عن هويتهم الدينية، والمساومة على ضمائرهم. هذه هي الطريقة التي يدرك بها الناس أن مصالحهم المشتركة هي بالفعل مشتركة، حيث يتم تحديد المصالح المشتركة من خلال المحتوى البشري الكلي في التراث الروحي للتقاليد الدينية المختلفة، الذي يتجلى في عملية المقارنة، ويتجسد من خلال تعاون أتباعه. إن الفهم الواضح لما يمكننا، كمشاركين في الحوار بين الأديان، أن نرفضه وما لا يمكننا أن نرفضه، يتيح لنا أيضًا فهم ما يمكن أن نأمله في النهاية.
تتطلب المشكلات العالمية الحديثة- الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية، وغيرها- لحلها ليس فقط تعاونًا “تقنيًّا” حقيقيًّا، حيث إنه لا يمكن حلها دون دراسة التجربة الفريدة لمختلف البلدان، وفهمها في إطار التقاليد الدينية المختلفة. في قضية مشتركة، من المستحيل المضي قدمًا في تجانس نظري وعملي للاختلافات بين مختلف الشعوب من خلال تجربتهم التاريخية. ينزلق هذا التجانس إلى عالمية زائفة متأصلة في بعض إصدارات “التعددية الثقافية”، حيث لا يستطيع الناس أن يُثروا اختلافهم المتأصل بشكل متبادل. ومع ذلك، من المهم التأكيد أن هذا الاختلاف في ذاته يفقد هدفه الإيجابي ومعناه الحقيقي خارج الوحدة التي ينتمي إليها. إن عدم النظر الى توافق المختلفين الذي يقوم على هذه الوحدة، يؤدي- حتمًا- إلى مواجهة تجعل كل الناس متماثلين في شرهم، وغضبهم، وشكهم.
التسامح الديني لا يعني اللامبالاة الدينية؛ وإنما هو صبر ديني، يعطي القوة لانتظار توضيح المعنى الأخير لتنوع الأديان من صاحبها الذي أنشأها (أي الله). سيكون من السذاجة الاعتقاد أن التسامح الديني يمكن تقويته تلقائيًّا فور الإشارة إلى الجذور التاريخية المشتركة لديانات معينة. فهو ينضوي تحت العمل الجاد على الذات، وإعادة التفكير في التجربة “الشخصية”، والفهم النقدي لتجربة “الآخر”. يجب ألا ننسى أن التقاليد الإسلامية تثريها المساهمة المشتركة للمجتمعات المسلمة في جميع أنحاء العالم، التي تختلف في تجربتها في التعايش بين الأديان. لا يمكننا إهمال الفرص التي يقدمها لنا هذا الاختلاف. وبالمثل، تنتصر قضية السلام العالمية عندما يسعى ممثلو المجتمعات المختلفة إلى التعاون على أساس تجربة مشتركة غير مصطنعة، بل مكتسبة كخبرات مختلفة من خلال التعايش.
ومن الأمثلة البارزة على الجهود المبذولة في سبيل الحوار بين الأديان اجتماع أبو ظبي عام 2019 بين فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب ورئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس. هذا الاجتماع الذي أثمر عن توقيع “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك” التي تعد بيانًا يهدف إلى تأكيد قيم الحرية والتسامح والمساواة، وتحقيق رفاهية الناس في عالم مبتلى بالكوارث والأزمات، هذا الاجتماع ألهم البابا فرنسيس لكتابة الرسالة البابوية “جميعنا إخوة” (Fratelli tutti) المكرسة للأخوة العالمية، وتعزيز السلام، وحسن الجوار. والجدير بالذكر أن هذه الأعمال التي يقوم بها القادة الدينيون يمكن أن تقابل غالبًا بالتشكيك، وهو أمر محتمل احتمالا كبيرًا؛ نظرًا إلى المشكلات الصعبة جدًّا التي واجهتها جماهير الناس في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر ونُذَكِّر أنه مع أن الناس لا يستطيعون صنع المعجزات، فإنهم يستطيعون بالجهود المشتركة الحفاظ على تلك المعجزة التي وهبنا الله إياها، وهي الحياة البشرية. ويعد نشر التسامح الديني أهم خطوة في هذا الاتجاه.
نرحب بالإجراءات التي اتخذها ولي عهد أبو ظبي، صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ووزارة التسامح الإماراتية؛ من أجل تعزيز التسامح الديني. نأمل أن تستمر هذه السياسة التي تثريها التجارب التاريخية الإيجابية لدول أخرى، من بينها روسيا، وتكون قادرة على أن تصبح مثالًا للكثيرين.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.