كتبت المؤرخة الأمريكية ماري إليز ساروت (Mary Elise Sarotte)، المتخصصة في شؤون ما بعد الحرب الباردة، دراسة لصحيفة الأمن الدولي (International Security)، وهي صحيفة أكاديمية شهيرة، مهتمة بعرض آراء المختصين في شؤون الأمن الدولي والوطني الأمريكي ووجهات نظرهم، أُسست عام 1976، ويحررها مركز بلفر للعلوم والشؤون الدولية (The Belfer Center for Science and International Affairs) الذي يقع داخل مدرسة جون كينيدي للإدارة الحكومية (John F. Kennedy School of Government)، وتصدر أربع مرات في السنة، بواقع عدد كل ثلاثة أشهر، وتُطبَع في مطبعة معهد ماساتشوستس للتقنية (Massachusetts Institute of Technology).
صدرت الدراسة في صيف (2019) في العدد الأول، مجلد رقم (44). وتتميز البروفيسور ماري إليز ساروت في دراساتها لحقبة ما بعد الحرب الباردة، بالاعتماد على الوثائق المُفرج عنها التي تناولت تلك الحقبة الزمنية المهمة في تاريخ العالم، ومحاولة تقديم تفسيرات مبنية على أساسها لحقيقة الصراعات بين القوى الكبرى، وتأثيرها في مجرى السياسة العالمية والبلدان المحيطة بها.
في هذا البحث، على وجه التحديد، نناقش إحدى أهم القضايا التي لا يكاد المنظّرون السياسيون الأمريكيون والروس يختلفون فيها؛ وهي أسباب تراجع العلاقات الأمريكية الروسية بعدما شهدت في النصف الأول من التسعينيات، ما يوصف أمريكيًّا بـ “ربيع واشنطن- موسكو”، في حين يشير إليه النقاد الروس بعصر “حكم الانتداب الأمريكي لروسيا”.
منذ بدء عملية توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 12 مارس (آذار) 1999، وذلك عبر ضم (التشيك، والمجر، وبولندا)، مع وجود رمزية كبيرة للأخيرة، حيث كانت في السابق مقر حلف وارسو، وهو الحلف العسكري الرئيسي للكتلة الشرقية بقيادة موسكو، بدأت تلك النظرة “المتفائلة” للعلاقة بين البلدين تتراجع. ومع التوسيع الثاني، في 29 مارس (آذار) 2004، الذي أدى إلى ضم (بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا)، عادت أجواء الشك والريبة من جديد تجاه الغرب في روسيا، مع تصاعد الأصوات التي كانت قد خفتت من قبل، التي ادعت أن “العداء” الأمريكي لروسيا عَقَدي؛ لكون روسيا هي روسيا في ذاتها، وغير مرتبط بسياساتها أو أيديولوجيتها التي تتبناها كما ادعى الليبراليون الروس، خاصة أنها ترافقت مع ما تسمى روسيًّا موجة “الثورات الملونة” التي طالت بلدانًا سوفيتية سابقة على حدودها.
في الفترة من أبريل (نيسان) 2009 حتى الخامس من يونيو (حزيران) 2017، حدث التوسيع الثالث للناتو بعد نهاية الحرب الباردة، وذلك بضم (ألبانيا، وكرواتيا، والجبل الأسود)، وقد تخللتها أحدات أوكرانيا، وضم/ عودة شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وتأزم العلاقات بين البلدين، وصولا إلى شبه انهيارها.
يعتقد كثير من المؤرخين والمنظرين السياسيين الأمريكيين، ومن بينهم البروفيسور ساروت، أن «عودة الاستبداد» إلى روسيا، ونهاية «الحلم الليبرالي» الروسي، وقدرة بوتين على تكريس سلطته ليحكم مدى الحياة، وتفاقم الأزمات في المنطقة الأوراسية، أو بلدان ما بعد الاتحاد السوفيتي، ساهمت في صنعها السياسات «المتهورة» للولايات المتحدة الأمريكية، التي حفزت روسيا والأصوات القومية المتشددة على تصدر المشهد من جديد. ويتفق مع هذا الرأي مهندس الحرب الباردة جورج كينان، الذي وصف المرحلة الأولى من توسيع الناتو عام 2004، بأنها «أسوأ قرار قامت به الولايات المتحدة في تاريخها»، ويشاطره في ذلك الدبلوماسي الأمريكي السابق ومدير وكالة المخابرات المركزية (CIA) الحالي وليام بيرنز، الذي انتقد هذا التوسيع؛ بل حذر من ضم أوكرانيا إلى الحلف، في كتابه القناة الخلفية (Back Channel)، الصادر عام 2019، وغيرهم كثير.
في ظل الأجواء المتوترة بين موسكو وكييف وتبليسي من ناحية، وحلفائهم الغربيين من ناحية أخرى، وبعد عقد قمة «الخطوط الحمراء» بين بايدن- بوتين، رأت وحدة الدراسات ما بعد السوفيتية، في مركز الدراسات العربية الأوراسية، بالتعاون مع وحدة الرصد والترجمة، أن تقدم ترجمة لهذه الدراسة، يعقبها شرح تحليلي؛ لما فيها من فائدة لصناع القرار والقراء، ودروس مستفادة في كيفية عقد الاتفاقات والتفاهمات مع الغرب، ونتمنى أن يحوز هذا العمل رضاكم، وأن تكون فيه فائدة.
من الجدير بالذكر أن البروفيسور ساروت، سيصدر لها كتاب في فبراير (شباط) 2022، سيتناول هذه المسائل بالتفصيل تحت عنوان (Not One Inch – America, Russia, and the Making of Post-Cold War Stalemate).
وحدة الدراسات ما بعد السوفيتية – مركز الدراسات العربية الأوراسية
كيفية توسيع الناتو النقاشات الداخلية لإدارة كلينتون في الفترة من 1993 إلى 1995
ما ورد في البحث يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير