هل تريد الصين تغيير النظام العالمي لتعزيز مصالحها؟ قد يكون هذا هو السؤال الأكثر أهمية في الجغرافيا السياسية اليوم، ومع ذلك فإن الإجابات التي يثيرها تميل إلى الكشف عن المزيد من التحيزات الحديثة أكثر مما تكشف عن الشكل الذي ستبدو عليه القوة العظمى الصينية في المستقبل أولئك الذين يريدون تبني نهج مواجهة الصين، يرونها حاقدة وتوسعية، ويدللون على صحة موقفهم بالإشارة إلى السياسة العدوانية لبكين اليوم. بينما يسلط أولئك الذين لديهم وجهة نظر أقل رعبًا الضوء على ميزات أكثر ملاءمة في السياسة الصينية أو يعتقدون أن الصين ستواجه الكثير من التحديات التي ستمنعها من إعادة تشكيل العالم حتى لو أرادت ذلك. يرى العديد من المراقبين الغربيين حربًا باردة جديدة تنمو، حيث تمثل الصين نسخة القرن الحادي والعشرين من الاتحاد السوفيتي.
مثل هذه التوقعات والرؤى تبدو جامدة وحادة للغاية بحيث لا يمكنها تقديم وصف دقيق لمدى تعقيد صعود الصين بشكل مفيد، ويُسيطر عليها عدم اليقين المتأصل في أهداف الصين المستقبلية أو عدم الإلمام الجيد بالعناصر الأساسية التي شكَّلت تطلعاتها. القوة الصينية اليوم هي قوة ديناميكية وحيوية تشكلت من ترابط الاستبداد والاستهلاك والطموحات العالمية والتكنولوجيا. يمكن أن نُطلق عليها نموذج (ACGT): مع نفس الأحرف الأولى من النوكليوتيدات في الحمض النووي، تتحد هذه الخيوط من القوة الصينية وتعيد توحيدها لتشكيل الهوية السياسية الحديثة للصين ونهجها مع بقية العالم، حيث يريد الحزب الشيوعي الصيني: «إحكام قبضته على المجتمع الصيني، وتشجيع النزعة الاستهلاكية في الداخل والخارج، وتوسيع نفوذه العالمي، وتطوير وتصدير التكنولوجيا الصينية المتقدمة». لا يمكن فهم مكانة الصين الحالية وآفاقها المستقبلية بدون رؤية كل هذه الأهداف الأربعة معًا.
تُعتبر قيادة الرجل القوي الرئيس الصيني شي جين بينغ، مهمة في فهم الصين اليوم ومسارها المحتمل، كما هو الحال مع استجابة البلاد لوباء كوفيد -19. لكن للقوى الأربع للحكم الذاتي أهمية تتجاوز أي قائد أو أزمة واحدة. إنهم يريدون «أي القادة الصينيين» التأسيس لفكرة بكين ومكانتها في النظام العالمي المعاد تشكيله، حيث ستلعب الصين دورًا بارزًا في آسيا وتصدر نموذجها للاستثمار الاقتصادي، الذي يعتمد على الأفكار المجتمعية للتنمية ولا يبالي بالمعايير الليبرالية، ولإضفاء الشرعية على نهجها، غالبًا ما تلجأ الصين إلى التاريخ، مستشهدة بماضيها القديم. على سبيل المثال، أو إعادة تفسير أحداث الحرب العالمية الثانية. لا يقدم الاتجاه الاستبدادي المتزايد للصين تحت حكم الرئيس شي، سوى مستقبل واحد محتمل للبلاد. لفهم إلى أين يمكن أن تتجه الصين يجب على المراقبين الانتباه إلى العناصر الرئيسية للقوة الصينية والأطر التي من خلالها يتم التعبير عن تلك القوة وتخيلها.
علاقات القوة الصينية
منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008، قدم قادة الصين صراحة نظامهم الاستبدادي للحكم باعتباره غاية في حد ذاته، وليس نقطة انطلاق لدولة ليبرالية. حيث يُصر الحزب الشيوعي الصيني على أنه النظام الأجدر والأنسب للصين: أي أن الفائدة التي يجنيها المجتمع الصيني عبر قيادة الحزب الفاعلة أكثر من نقص المشاركة الشعبية، وعززت أزمة فيروس كورونا المستجد، على المدى القصير على الأقل، من هذه النظرة السلطوية في الداخل. في أوائل عام 2020، روَّجت الصين لتصديها للفيروس باعتباره إحدى وظائف نظام الحكم القمعي من أعلى إلى أسفل، والملاحظ أن الشخصية الواثقة والأكثر عدائية الجديدة للحزب الشيوعي الصيني تمثل خروجًا مهمًّا عن النسخة الأقل استبدادًا التي سبقت رئاسة شي، وعلينا ألا ننسى أن القادة الصينيين حتى وقتٍ قريب، كانوا ينظرون إلى ديمقراطيات مثل سنغافورة، رغم أنها ليست ديمقراطية ليبرالية مكتملة الأركان. إلا أنهم رأوا فيها نموذجًا قابلًا للتطبيق في الصين مع تطور النظام.
الزعيم القومي تشانغ كاي شيك ونظيره الشيوعي، ماو تسي تونغ، كان لكلٍّ منهما رؤيته حول دور دولي رئيسي للصين في الأربعينيات والستينيات على التوالي. مع ذلك، جمعت الصين في عهد شي، بين الطموحات الدولية والقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق انتشار ونفوذ عالمي حقيقي. بجانب تعدد مرافق الموانئ الصينية من أثينا إلى القاعدة البحرية في جيبوتي إلى نشر تقنية (5G) في جميع أنحاء العالم. أعلن شي، في خطاب ألقاه عام 2017، أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب أن الصين، ستقترب دون أن تُخطئ هدفها إلى «مركز الصدارة» في الشؤون العالمية.
لتحقيق هذا الهدف، سعت الصين إلى زيادة استهلاك السلع المادية في الداخل. منذ عام 1978، عمل الحزب الشيوعي الصيني، على معالجة واحدة من أبرز عيوب الاتحاد السوفيتي: الفشل في تلبية احتياجات ورغبات المستهلكين المحليين. أصبحت ثورة الصين ثورة استهلاكية في العقود الأربعة الماضية، مما أدى إلى بناء مجتمع لا يعتمد على النقود بشكلٍ متزايد، وبات يُلهم الشراء عبر الإنترنت الملايين في مناسبات عدة، مثل يوم العزاب الذي ابتكرته منصة التجارة الإلكترونية الصينية علي بابا، وأصبح أكبر حدث استهلاكي في العالم، حيث بلغت قيمة السلع التي تم بيعها داخل الصين عام 2019، حوالي 38 مليار دولار. أدى ارتفاع مستويات المعيشة إلى تعزيز استمرارية الحزب الشيوعي الصيني، والشعور داخليًّا بقدرته على الوفاء بوعوده الاقتصادية؛ حتى بعد الانكماش الشديد للاقتصاد الصيني أوائل عام 2020 في أعقاب الوباء. كما أفاد الازدهار المتزايد في الصين دولًا في الغرب وآسيا، عبر ملايين المشترين الصينيين للسلع الفاخرة والخدمات السياحية والتعليم العالي.
في عالم التكنولوجيا، حيث اتخذت الصين بالفعل اتجاهًا جديدًا في مشاركتها العالمية. أدى الجمع بين النمو الاقتصادي والإنفاق الهائل على الأبحاث في العقدين الماضيين إلى خلق واحدة من أكثر البيئات ابتكارًا على وجه الأرض. عززت التقنيات الصينية الجديدة المطورة جيش الدولة، وإنتاج سلع جديدة للمستهلكين، بينما ساهمت أيضًا في إنشاء دولة مراقبة البيانات الضخمة. تشكل القدرة التكنولوجية المثيرة للإعجاب للصين اليوم الجزء الأكثر قوة وجاذبية في رؤية العالم الخارجي لها.
التقدم الإبداعي
لم تنبثق خيوط القوة الصينية المختلفة عبر ما يمكن تسميتها «قطعة نسيج واحدة»، ولكن عبر مجموعة من الأطر التاريخية التي لا تزال تُلقي بثقلها على جميع عمليات صنع القرار الصينية. حيث يستمد القادة الصينيون من الماضي فهمهم لدور الدولة المتنامي في العالم، إنهم يطالبون الآن بدور مؤسسي في النظام الدولي ما بعد عام 1945، ويتبنون المعايير الصينية التقليدية للحكم، ويسعون إلى قيادة عالمية لجنوب الكرة الأرضية ويستخدمون اللغة والرموز الماركسية اللينينية بشكلٍ واضح.
ظلت الصين على الهامش في معظم فترات الحرب الباردة بعد عام 1960، لا في المعسكر الغربي ولا هي في المعسكر السوفيتي. مع ذلك، في العقدين الماضيين، لم تُظهر الصين نفسها كمشارك عالمي فحسب، بل أيضًا كمؤسس محوري للنظام الدولي الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
في مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2020، ذكّر وزير الخارجية وانغ يي، المستمعين بأن الصين كانت أول من وقَّع على ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945 وهي حقيقة ذكرها القادة الصينيون مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة.
هذه الإشارات هامة ولها دلالات عميقة، حيث إن اعتزاز الصين بتلك الحقبة، وتوقيعها الأولي على ميثاق الأمم المتحدة، كان في ظل سيطرة الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) على الحكم، ورئاسته للوفد الصيني الذي ساعد في تأسيس الأمم المتحدة- في الماضي كان الحزب الشيوعي الصيني يعمل على إعادة صياغة تاريخ القرن العشرين من جديد، بشكل يدعم حقه في حكم الصين. لكن منذ الثمانينيات، اعترف الحزب بأن أعداءه القدامى، أي القوميين وحلفاءهم الغربيين، كانوا شركاء أساسيين في الانتصار بالحرب ضد اليابان بين عامي 1937 و1945. بينما في السابق، كان قادة الحزب الشيوعي الصيني، يعتبرون أنفسهم أصحاب الفضل الوحيد لصد الغزو الياباني للصين. سمح هذا الاعتراف للحزب ببدء عملية جديدة لإعادة تفسير أكبر وأوسع للتاريخ الصيني، يرى أن تأسيس الصين الحديثة سابق للثورة الشيوعية عام 1949، كما كان يروج في السابق ووفق هذا التفسير الجديد فالصين نفسها من ضمن نتائج الحرب العالمية الثانية نفسها.
هذا التحول ليس مجرد مسألة تافهة تاريخيًّا، بل يعكس كيف تتخيل الصين نفسها وتريد من الآخرين أن يفهموها. تضع الصين نفسها الآن بشكل مركزي في قائمة المنتصرين من الحلفاء، وهو ما يؤهلها للمشاركة في إنشاء نظام ما بعد عام 1945. حيث ترى نفسها قد لعبت دورًا حاسمًا في الدفاع عن آسيا والتصدي لأكثر من نصف مليون جندي ياباني حتى وصول الأمريكيين والبريطانيين بعد بيرل هاربور، على حساب حياة 14 مليون صيني. هذه المساهمة الهائلة تكمن وراء إصرار بكين على أن الصين كانت «حاضرة عند إنشاء» عالم ما بعد الحرب، ويعتمد إلى حدٍّ كبير دورها الدولي المُتوسع في القرن الحادي والعشرين على هذه المركزية المفترضة في أحداث القرن العشرين. تحت حكم شي، أصبحت الصين الآن ثاني أكبر مساهم مالي للأمم المتحدة وهي من بين العشرة الأوائل من المساهمين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام. كما عزز تراجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الملحوظ عن التزامات ومعايير النظام الدولي الليبرالي من موقف الصين بأنها الآن الوريث الأكثر جدارة لإرث العام 1945، ولا يزال استحضار تاريخ الحرب العالمية الثانية، يمثل نقطة مركزية في الحياة العامة الصينية. على سبيل المثال، وصف مسؤولو الحزب الشيوعي الصيني انتصار الصين المفترض على فيروس كورونا الجديد في الربيع الماضي بأنه نتيجة «حرب الشعب» مرددًا نفس اللغة التي استخدمها ماو خلال الحرب ضد اليابان.
في المقابل يعزز التاريخ الأقدم إحساس الصين بدورها العالمي. في السنوات الأخيرة، بات يجادل العلماء الصينيون المؤثرون، مثل يان زوي تونغ وباي تونغ دونغ، في ضرورة فهم النظام العالمي بشكل مستنير، وذلك من خلال وجهات النظر الكونفوشيوسية ما قبل الحداثة. غالبًا ما يفسر المراقبون الغربيون سلوك الصين في العلاقات الدولية بأنه سلوك واقعي بحت، لكن استخدامها للخطاب الذي يعتمد على الفكر التقليدي يُشير إلى أن الصين مثل جميع الدول الأخرى- تُفضل أن تُفهم خياراتها على أنها أخلاقية وليست واقعية فقط. عندما يستخدم القادة الصينيون مصطلحات مثل «رن» بالصينية والذي يعني «الإحسان» فإنهم يريدون التأسيس لمصالح الدولة وأفعالها في إطار لغة أخلاقية مثالية. سوف تصبح هذه الدعوات للتقاليد أكثر تكرارًا مع نمو نفوذ الصين، وسيشرح القادة الصينيون شكلًا حديثًا من الكونفوشيوسية يتناسب مع القيم المعولمة، مؤكدين على «الأخلاق» و«المستقبل المشترك»، بينما يقللون من القيم الكونفوشيوسية غير الليبرالية، مثل الإيمان بالتسلسل الهرمي الاجتماعي. هذه الرؤية لصين أخلاقية في الأساس تدعم طموحًا آخر: رغبة الصين في وضع نفسها زعيمًا للجنوب العالمي. لا يمكن اعتبار هذا الهدف ليس أصليًّا للصين، خلال الحرب الباردة سعت الصين إلى تصوير نفسها على أنها «البطل» لما كان يسمى آنذاك بالعالم الثالث، على عكس الغرب الرأسمالي الوحشي والاتحاد السوفيتي المتصلب. لا تعتبر الصين نفسها الوصي الجديد على نظام ما بعد العام 1945 فحسب، بل تعتبر نفسها أيضًا وريثة مناهضة للإمبريالية في عالم ما بعد الاستعمار، وهو عمل مزدوج غير محتمل يبدو أن بكين تنفذه.
لا تسعى الصين اليوم إلى إشعال ثورات عبر جنوب الكرة الأرضية. وبدلًا من ذلك، ترى الدول الأكثر فقرًا كأساس لسياسة تؤكد على التنمية الاقتصادية ومبدأ السيادة الوطنية. هذا الشكل من المشاركة الصينية لا يؤدي بالضرورة إلى استبداد صريح، دول مثل إثيوبيا وميانمار أمثلة على كيف يمكن للديمقراطيات المزعومة (وإن كانت غير ليبرالية) أن تستفيد من نموذج التنمية الصيني. أيضًا جهود الصين في الخارج لا تسعى إلى تشجيع للتحرير أو الإصلاح الديمقراطي، ولذلك يجادل مؤيدو الصين بأن نموذجها في تعزيز التنمية أكثر مرونة من أي نموذج من شأنه تكريس الديمقراطية الليبرالية على سبيل المثال، مبادرة الحزام والطريق، تمثل برنامج عمل للاستثمار الدولي في البنية التحتية الواسعة، وهو الأداة الرئيسية التي تسعى من خلالها الصين إلى إبراز ريادتها في الخارج.
بينما تُنفق الصين رأس المال في الخارج، فإنها تتبنى بحزم خطاب الماركسية اللينينية في الداخل. لا يستخدم المسؤولون الصينيون هذه اللغة حتى الآن في تصريحاتهم للجمهور العالمي، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الصين تسعى جاهدة لتقديم نفسها كدولة غير ثورية في النظام العالمي، وتريد تجنب التذكير بأشباح الماوية.
لكن في الداخل، يستخدم الحزب بكثرة مصطلح مثل «الصراع» والذي يعكس المفهوم الهيغلي بأن الصراع يجب أن يسبق التوليفة النهائية. يُشير الحزب الشيوعي الصيني، أيضًا وبشكل متكرر إلى مصطلح «التناقض» الفكرة القائلة بأن التوترات داخل المجتمع قد تؤدي إلى نتائج بناءة، وهي فكرة أشار إليها ماو، مرارًا ويؤيدها بشدة الرئيس شي، الذي استخدم العبارة في خطابه عام 2017، أمام مؤتمر الحزب التاسع عشر، حين وصف «التناقض الجديد بين التنمية غير المتوازنة وغير الكافية واحتياجات الناس المتزايدة لحياة أفضل». تُشير هذه الصياغة إلى أنه وعلى الرغم من أن العديد من جوانب الفكر الماركسي اللينيني التقليدي، بما في ذلك الصراع الطبقي نادرًا ما تُسمع في الخطاب الصيني المعاصر. إلا أن هذه الأيديولوجية ليست غائبة تمامًا. في أحد خطاباته أشار شي إلى حقيقة أن عدم المساواة بين الطبقات لا يزال حقيقة واقعة في الصين، وأن الحزب يرى أن عدم المساواة هو أحد العيوب والثغرات التي ينبغي للحزب معالجتها.
المعضلات الرسمية
إن الكيفية التي يضع بها القادة الصينيون رؤيتهم لقوة الصين ومكانتها في العالم، لا يوجد في المقابل فهم عميق للآخرين عنها، في عهد شي، جعلت بكين من الصعب على الدول الأخرى تجاهل ما يمكن وصفه بـ«الرشوة»، التي قام القادة الصينيون بالترويج لها عبر الفوائد التجارية والتكنولوجية التي ستجلبها إلى البلدان المتلقية للمساعدات والقروض منها. حتى إن بعض المراقبين الغربيين أشاروا إلى المشاريع الصينية على أنها «خطة مارشال الصينية»؛ وهو ما أثار استياء العديد من المعلقين الصينيين الذين لا يريدون أن يتم ربطهم في ذهنية الشعوب بالنموذج الاقتصادي الأمريكي ذي السمة الباردة في علاقاته مع الآخرين.
في السنوات السبع الماضية، أصبحت الاستبدادية في الصين أكثر اكتمالًا بفضل تصرفات بكين وخطابها خلال المرحلة الأولى من جائحة كوفيد-19 على سبيل المثال، أشار المسؤولون الصينيون إلى قدرتهم على تعبئة الموارد وجمع البيانات بشكل أسرع من نظرائهم في الحكومات الديمقراطية وأعلنوا أن الصين ستبتكر لقاحًا للعالم. لكن مهما كانت الفوائد المحتملة، فإن الاستبداد الصيني لن يربح القلوب والعقول بسهولة في جميع أنحاء العالم. مع مبادرة الحزام والطريق، تنتشر أيضًا المخاوف بشأن التأثير الاقتصادي والسياسي الصيني.
في الدول غير الديمقراطية العميلة، مثل كمبوديا، قد تواجه الصين معارضة أقل، لكن المقاومة أكثر احتمالًا في دول مثل كينيا وزامبيا، حيث يمكن للبرلمانات ووسائل الإعلام مناقشة المشاركة الصينية، حيث تكون المواقف العامة تجاه الصين ونظامها مختلطة أو حتى معادية بشكل صريح.
قد يصبح هذا العداء أكثر حدةً إذا أصبحت جوانب المواجهة للقوة العالمية الصينية أكثر وضوحًا. مع نمو المصالح الخارجية للصين، لن تتمكن بكين من الاستمرار في الاستفادة من المظلات الأمنية الحالية، كما فعلت على سبيل المثال، في أفغانستان في العقد الأول من هذا القرن، عندما ساعد الناتو في الواقع على حماية الأصول الصينية. النطاق المتزايد للمصالح الاقتصادية والدبلوماسية للصين يتطلب بشكلٍ متزايد وجودًا أمنيًّا صينيًّا عالميًّا موسعًا. قد يشهد المحيط الهندي، على وجه الخصوص، نشاطًا صينيًّا أكبر، حيث تسعى الصين إلى تعزيز مصالحها التجارية في المثلث الجغرافي الذي تشكله الموانئ الحيوية في اليونان وجيبوتي وباكستان؛ لذا واستجابة لهذا الاحتمال، أجرت أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، مناورات بحرية مشتركة في المحيط الهندي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
على الرغم من أن العديد من الدول راضية عن الاستثمار الصيني، فمن المرجح أن يكون وصول قوات جيش التحرير الشعبي أمرًا غير مرحب به. يمكن للدبلوماسية الصينية أن تكون ماهرة للغاية، لكن نبرتها الحالية الحادة في كثير من الأحيان كافية لتشكيك العديد من الشركاء المحتملين، وعليه أمام الصين طريق طويل للغاية لتقطعه لتطوير قدرات القوة الناعمة اللازمة لتصوير أي توسع مستقبلي لجيش التحرير الشعبي على أنه يوفر الأمن المشترك بدلًا من مجرد فرض رغبات بكين.
أثار تعامل الصين مع أزمة كوفيد-19، غضب العديد من البلدان التي كانت في السابق تغازل بكين. في أواخر عام 2010، حققت الصين بعض النجاح داخل الدول الغنية في منح منتجاتها الاستهلاكية مثل تطبيق (TikTok) الشهير للغاية نوعًا من البريق عالي التقنية المرتبط سابقًا باليابان. مع ذلك تبنت الصين أسلوبًا دبلوماسيًّا شديد المواجهة بعد تفشي وباء كوفيد-19، وفي هذه العملية حولت انتباه الجمهور في الغرب نحو الإمكانيات الاستبدادية للتكنولوجيا الصينية، يشعر المراقبون الغربيون بالقلق من استخدام تكنولوجيا المراقبة في قمع أقلية الإيغور في شينجيانغ، والاستخدام المحتمل لهذه التكنولوجيا في هونغ كونغ، لتعقب المتظاهرين السلميين ومحاكمتهم.
إن الاهتمام العالمي الجديد بالاستبداد الصيني سيُعقد سعي البلاد إلى إبراز نموذجها في الخارج. لنأخذ على سبيل المثال، كفاح الصين لحمل الدول الكبرى الأخرى على الالتزام بشدة بتبني تقنية (5G) التي طورتها شركة الاتصالات الصينية العملاقة هواوي. أوضحت بعض الدول في شمال العالم (أستراليا، وألمانيا، واليابان، ونيوزيلندا، والولايات المتحدة). أنها لن تستخدم تقنية (Huawei 5G) بسبب المخاوف بشأن أمان معدات (5G) وبشأن ارتباط الشركات المُنتجة لهذه التقنيات بالنظام الحاكم في الصين. بينما وافقت المملكة المتحدة في البداية على السماح لشركة (Huawei) بالوصول المحدود إلى سوق (5G) الخاص بها لكنها عكست هذا القرار في يوليو (تموز) 2020. بعد وقتٍ قصير من الاشتباك بين القوات الصينية والهندية في منطقة الحدود في الهيمالايا في يونيو (حزيران) أعلنت حكومة الهند أنها ستتجنَّب الاستخدام المستقبلي لمنتجات (Huawei) في شبكة (5G) الخاصة بها.
مع ذلك، كانت البلدان في معظم أنحاء إفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا أكثر استعدادًا لقبول شبكات الجيل الخامس الصينية، ولا تزال هناك مجموعة كبيرة من الدول التي قد تستمر في ذلك؛ لأنها رخيصة وفعالة بالنسبة لهم، تفوق المزايا الاقتصادية لاحتضان التكنولوجيا الصينية أي مخاوف أمنية. هذا التبني الواسع لشبكة الجيل الخامس الصينية لن يؤدي إلى هيمنة الصين العالمية، لكنه سيشكل بصمة واسعة لوجودها على الساحة العالمية. كما سيكون لدى بكين القدرة على التحكم في عنصر رئيسي بالتنمية الاقتصادية للعديد من الدول الكبرى، فضلًا عن القدرة على الوصول إلى كميات هائلة من البيانات.
عالم الصين
قد يكون تحقيق هذا النوع من الهيمنة الجزئية أمرًا صعبًا إذا استمر القادة الصينيون في إثارة غضب نظرائهم في أماكن أخرى. أشارت استجابة بكين الأولية لتفشي فيروس كورونا إلى أنه تحت الضغط تتفوق الميول الاستبدادية في الصين على رغبتها في التعامل بشكل ودي مع العالم. اقترحت دول مختلفة- لاسيما أستراليا- ضرورة إجراء تحقيق دولي في أصل الفيروس، وبدلًا من الترحيب بهذه الفكرة، كما ينبغي للقوى الذكية أن تفعل، قاطعت الصين على الفور مبيعات الشعير من أستراليا.
عندما ألمحت الحكومة البريطانية إلى أنها قد تتراجع عن قرارها بالسماح لشركة (Huawei) بالانضمام إلى شبكة (5G*) في المملكة المتحدة، هدد الدبلوماسيون الصينيون بـ«العواقب» جراء هذا القرار، مرسلين إشارة واضحة مفادها أن الاستثمار من الصين لم يكُن مجرد صفقة تجارية، بل كان أيضًا صفقة سياسية.
سهلت ردود الفعل الصينية المتوترة في أعقاب تفشي المرض منتقديها على تسليط الضوء على ما يعتبرونه سلوكًا غير جدير بالثقة، بما في ذلك عسكرة بحر الصين الجنوبي، والهجمات الإلكترونية المحتملة ضد دول من بينها الولايات المتحدة، واستغلال الثغرات في الأنظمة الدولية، قواعد منظمة التجارة العالمية مثالًا.
لكن حتى في الوقت الذي تسعى فيه العديد من الدول الغربية إلى إظهار الطرق التي يكون فيها سلوك الصين الحالي غير شرعي، فإنها تتجنب طرح سؤال أكثر صعوبة: ما هي الأهداف المشروعة للصين في منطقتها وفي العالم الأوسع؟ الصين دولة كبيرة وقوية لديها ثاني أكبر اقتصاد في العالم لا يمكن توقع مشاركة دولة بهذا الحجم في النظام العالمي وفقًا لشروط منافسيها فقط – لأسباب ليس أقلها أن بعض نجاحات الصين الأخيرة مرتبطة بشكل كبير بالفشل الغربي، بل تدين له بالفضل في تحقيقه. قد يكون انتقاد شركة هواوي له ما يبرره جيدًا، لكن تقنية (5G) الصينية جذابة للعديد من البلدان لأنه لا يوجد بديل غربي واضح. قد يكون انتقاد الصين لتوسيع نفوذها في الأمم المتحدة بطرق تقلل من أهمية حقوق الإنسان الفردية، أمرًا مشروعًا وله ما يبرره، لكن الصين لم تُجبر الولايات المتحدة على تقليص تمويلها لوكالات الأمم المتحدة وبالتالي إضعافها.
في الوقت الحالي، تؤذي الصين نفسها بالقول إن أي انتقاد لسياساتها الداخلية هو خارج الحدود. وجدت الولايات المتحدة نفسها في منعطف مماثل خلال الخمسينيات، حينما كان سجلها المروع في التمييز في الداخل ضد السكان السود يشوه صورتها الدولية وجعلها هدفًا سهلًا لمنافسيها؛ دعت حكومة ماو، وقتها المثقفين والناشطين السود، مثل دبليو إي بي دو بوا، وزعيم حزب الفهود السود هيوي نيوتن، إلى بكين. جادل السياسيون الأمريكيون بقوة بأن بقية العالم ليس له الحق في انتقاد السياسة العرقية الداخلية للولايات المتحدة، أدى هذا الموقف بجانب المقاومة المحلية المقترنة بالتشهير الخارجي لتغيير القوانين في الولايات المتحدة.
كقوة صاعدة، تواجه الصين الآن أيضًا انتقادات خارجية لسياساتها الداخلية، وهو ما يجعل انضمامها إلى الاقتصاد العالمي أكثر عرضة للتدقيق في سياساتها الداخلية، لكن يمكنها أن تفعل شيئًا أكثر إبداعًا من الاكتفاء بالشكوى من تدخلات الغرب: يمكن للصين أن تعتمد على تاريخها الحديث في إعادة اختراع نفسها بعد أن أصبحت الصين تحت حكم ماو، محتضرة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وذلك حينما تبنى في الثمانينيات خليفة ماو، دينغ شياو بينغ فكرة رئيس الوزراء السابق تشو إنلاي، التي أطلق عليها اسم «التحديثات الأربعة»: (للزراعة والصناعة والدفاع والعلوم والتكنولوجيا) لإعادة تشكيل الصين الحديثة.
سمح دينغ، للمزارعين ببيع أجزاء من محصولهم في السوق الحرة، ومنح العلماء الحريات الأكاديمية التي اختفت في عهد ماو، وأنشأ «مناطق اقتصادية خاصة» مع حوافز ضريبية وحوكمة مصممة لجذب الاستثمار الأجنبي.
مثلما نجح دينغ، في أعقاب وفاة ماو، سيتعين على الصين إعادة تقويم سياساتها في العقد القادم، لدمج الانتقادات من الخارج بشكل أفضل بدلًا من رفضها. على الرغم من سمعة البلاد الاستبدادية، فقد لعب النقاش الداخلي دورًا مهمًّا في صعود الصين. حتى وقت قريب، كان لدى المفكرين والكتاب السياسيين الليبراليين مساحة داخل النظام الصيني لتقديم نقد بناء لزملائهم الأكثر تشددًا؛ كما ساعد التواصل مع بعض النقاد في الخارج على اختبار أفكار الصين وسياساتها. قد لا يؤدي إغلاق مثل هذا النقاش في السنوات الأخيرة إلى تأخير البلاد على المدى القصير جدًّا، ولكن من المرجح أن يحدث ذلك في السنوات المقبلة عندما يمنع جمود الفكر السياسي النخب السياسية الصينية من إعادة تقييم السياسات، إن منح مساحة أكبر للاختلاف لن يتطلب بالضرورة إضفاء الطابع الديمقراطي على الصين، ومع ذلك قد يعني ذلك الالتزام بالسماح للمجتمع المدني بالازدهار- عكس العدد المثير للقلق من عمليات الفصل والاحتجاز للمحامين والنشطاء والعلماء في السنوات الأخيرة، وخلق شفافية حقيقية للحكومة في الداخل والخارج.
سيتعين على الصين أن تفعل ما هو أفضل من اختزال هوية جديدة للأقليات العديدة داخلها. بدلًا من ذلك يجب أن تسعى إلى إقناع هذه المجموعات بما في ذلك الإيغور في شينجيانغ: بأن المشاركة في المشروع الصيني ستؤكد وتعزز من شعورهم بالكرامة والهوية الثقافية الخاصة بهم، عندما يتعلق الأمر بالمعارضة في هونغ كونغ، فهو اختبار آخر لقدرة الحزب الشيوعي الصيني، على بناء نظام حكم شامل. على سبيل المثال قانون الأمن القومي الجديد الذي يحظر ما يسمى بالكراهية للحكومة، يُشير إلى عدم القدرة على الاستماع والتعلم من تقاليد نظام حكم أصيل ولكنه يختلف عن بكين، كما يفتقر الحزب الشيوعي الصيني إلى الرغبة في تقديم أي رؤية لتايوان لمستقبل مشترك قد تجد فيه الجزيرة نفسها نقطة انطلاق معقولة لمناقشة الوحدة معها.
لا تدعي الصين أنها ليبرالية، لكنها تدعي أنها حكومة جدارة تُقدر النقاش الصريح حول وجهات النظر المختلفة كما تقول مجلة كيوتشي الناطقة بلسان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني: «البحث عن الحقيقة من الحقائق». تفشل الإجراءات الحالية للحزب في كسب الصينيين الذين يعيشون داخل حدود البلاد، ناهيك عن التمكن من وضع الصين كنموذج للتطور الناجح للعالم الأوسع.
العدو الأكبر في الداخل
أكبر عقبة ستواجهها الصين ليست عداء الولايات المتحدة أو خصومًا آخرين، بل دور الصين الاستبدادي. إن التزام بكين بهذا الجانب، وجهلها جزءًا من الهوية الأساسية للصين سيجعل الأمر أكثر صعوبة لتحقيق أهدافها الثلاثة الرئيسية: (زيادة الاستهلاك، وتحقيق الطموحات العالمية، والتفوق التكنولوجي) لإعادة توحيد الجهود لتحقيق هذه الأهداف بنجاح، وإنهاء العداء لها في الخارج، ورفع الحواجز بين الصين والعالم الذي تسعى جاهدة لإعادة تشكيله.
إن العداء المتزايد للسياسة الخارجية الصينية منذ بداية عام 2020، لا يبشر بالخير. لكن ليس من المستحيل تخيل نسخة أقل عدائية من الاستبداد الصيني: في العقد الأول من هذا القرن، تباهت الصين بثقافة مزدهرة من الصحافة الاستقصائية، والمجتمع المدني المتنامي، ووسائل التواصل الاجتماعي النشطة للغاية، وبالفعل اتسع المجال العام حتى في غياب الديمقراطية الكاملة. قد لا تكون هناك فرصة أن يتحول الحزب الشيوعي الصيني إلى حزب ديمقراطي ليبرالي، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكنها العودة إلى هذا المسار السابق.
لا تسعى بكين إلى فرض نسخة طبق الأصل من نظامها الخاص على الدول الأخرى، وهي ملتزمة بصقل هيبتها الأيديولوجية في الداخل كدولة قومية اشتراكية – ناجحة، ولأنها لا تطلب من الدول الأخرى أن تحذو حذوها فهي لا تشعر بأي التزام بضرورة الحفاظ على النظام الدولي الليبرالي، كذلك من المرجح أن يحتوي النظام القائم على التفضيلات الصينية على العناصر التالية: (الالتزام بسيادة وطنية قوية للغاية؛ التنمية الاقتصادية، وربما التأكيد على الطاقة المتجددة؛ توسيع وتكامل مبادرة الحزام والطريق، التي ستكون موجهة بقوة نحو الاحتياجات الاقتصادية الصينية؛ التطور التكنولوجي العالمي الذي تهيمن عليه المعايير الصينية).. هذا المزيد لن يشكل بالتأكيد عامل جذب كبيرًا للمؤمنين بالديمقراطية والملتزمين بها، لكنه يمكن أن يشكل اقتراحًا بديلًا مستدامًا لجزء على الأقل من النظام الليبرالي الحالي.
مكانة الصين المتنامية في آسيا قد تؤدي إلى تقوية الاتجاهات الاستبدادية داخل الديمقراطيات الناشئة في المنطقة مثل: ميانمار وتايلاند، في حين أصبحت دول مثل الفلبين بالفعل أكثر قربًا للأعراف الصينية؛ حيث أصبحت سياساتها أكثر استبدادية؛ كوريا الجنوبية، الأكثر ليبرالية في سياساتها ستصبح عرضة لتتحول لوضع شبيه بفنلندا في حقبة الحرب الباردة – أي انحناء الديمقراطية لتأثيرات جار استبدادي قوي بسبب قربها من الصين في حال انسحاب الولايات المتحدة من شرق آسيا.
تستفيد الصين من حقيقة أنه لا يوجد أي فاعل آخر في العالم يمكنه صنع هذه التوليفة الفريدة من الجينات التي تمتلكها سياساتها. لا يمكن للهند واليابان وروسيا ورابطة دول جنوب شرق آسيا أن تحل محل نفوذ الصين في آسيا، ناهيك عن العالم. الصين هي إلى حدٍّ بعيد أكبر ممثل في المنطقة مما يمنحها ثقل الدولة الكبرى المهيمنة. لكن غموض النظام الحالي في الصين وموقفه الحازم والمواجه في بعض الأحيان يُولد عدم ثقة إقليميًّا وعالميًّا. الولايات المتحدة مقبولة لمعظم دول آسيا (باستثناء الصين وكوريا الشمالية) لأن وجودها في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية قد نال موافقة ديمقراطية، في عصر الدول الديمقراطية والقومية إلى حد كبير يجب على الصين أن تجعل طموحاتها الدولية مقبولة للآخرين، حتى لو لم يتم تبنيها بالكامل. كانت هيمنة الولايات المتحدة على أمريكا الجنوبية، في الخمسينيات من القرن الماضي، مقابل الهيمنة السوفيتية على أوروبا الشرقية في نفس الفترة، فقيرة وغير ديمقراطية. سيكون من الصعب على الصين، بمرور الوقت، الحفاظ على القبول الشعبي لمشاركتها المتزايدة في الدول الآسيوية الغنية ذات المجالات العامة الحيوية، حتى لو تمكنت من استخدام قوتها العسكرية للضغط على جيرانها ومحاولة التأثير على ممارساتهم.
ستتغير الهياكل السياسية في الصين أيضًا بشكل كبير في العقود القليلة القادمة وستكشف عن الاختلاف بين العناصر المفتوحة والمغلقة في مجتمعها. شجع الحزب الشيوعي الصيني، المهنيين الصينيين الشباب في الأوساط الأكاديمية والأعمال والقانون على الدراسة في الخارج، ولكن في صفوف الحزب نفسه، الخبرة الخارجية أقل قيمة بكثير ويمكن أن تضر باحتمالات التقدم. يبدو أن القليل من جيل القادة السياسيين الجدد في الصين يتمتعون بخبرة دولية كبيرة، على الرغم من أنهم بلا شك يتلقون النصح من قبل أشخاص لديهم خبرة. من المحتمل أن تطور الصين نخبة سياسية تتطلع إلى الداخل جنبًا إلى جنب مع النخبة المهنية المرتبطة بالنظم والثقافة العالمية الغربية، سيشكل هذا التناقض تحديًا كبيرًا، لأنه يوحي بوجود تناقض، بين الرغبة في العمل الخارجي والحصول على النفوذ الدولي، والحفاظ في الوقت نفسه على قوة الحزب بالداخل.
بالإضافة إلى ذلك فإن التغيير الديموغرافي الزلزالي على وشك الحدوث. اعتبارًا من عام 2029، سينكمش عدد سكان الصين بنحو خمسة ملايين شخص سنويًّا، مما سيجعل الشجرة السكانية للمجتمع الصيني أكثر شيخوخة قبل أن يصل معدل دخول مواطنيها إلى وضع مرتفع، وهو ما يعني حاجة الصين إلى دفع تكاليف رفاهية ملايين كبار السن دون امتلاك نفس الموارد لدى مجتمع غني يتقدم في السن مثل اليابان.
أدت الصدمة الاقتصادية غير المتوقعة لفيروس كورونا، إلى صعوبة في توسيع الصين لعلاقاتها التجارية مع جيرانها في المنطقة، على الرغم من أن سيطرتها على الفيروس يبدو أنها تؤدي إلى تعافٍ مُطرد. يتحدث المسؤولون الصينيون الآن عن اقتصاد «مزدوج الدوران» يمكن الوصول إليه عالميًّا مع الحفاظ على سوق محلية محمية. لكن هذا التوازن غير مستدام على المدى الطويل. لذا وجود نهج أفضل للصين، تجاه احتياجات ورغبات شركائها وإظهار اللباقة التي لم تُظهرها في السنوات الأخيرة في علاقاتها مع جيرانها هو الأكثر ملاءمة لها ولمستقبلها.
تتطلب المرحلة الانتقالية الحالية، لإعادة تشكيل النظام العالمي، جهودًا دبلوماسية صينية أكثر تضافرًا وتختلف عن النهج الحالي، حيث غالبًا ما يلجأ المسؤولون الصينيون الآن إلى العبارات المبتذلة قبل أن ينحرفوا بسرعة فائقة نحو المزيد من الانتقادات القسرية والمواجهة، بدلًا من ذلك تحتاج الصين إلى فهم أفضل أن القيادة العالمية تتطلب تنازلات وكرمًا واستعدادًا لتقبل النقد، وهو إدراك يصعب تحقيقه في بلد تشجع فيه الثقافة السياسية المحلية على قمع المعارضة، بدلًا من الاحتفال بها. العقبة الرئيسية أمام صعود الصين على المسرح الدولي ليست العداء الأمريكي أو الخصوم الداخليين. بل ذلك الخيط الاستبدادي للهوية الأساسية للحزب الشيوعي الصيني، هذا الاستبداد والتوسع، المواجهة في بعض الأحيان لها تأثير سلبي يؤدي إلى تشويه باقي المكونات الإيجابية للنموذج الصيني مثل: (التركيز على الاستهلاكية، والتحسينات في أنماط الحياة المادية، والالتزام الصادق بالتنمية العالمية والحد من الفقر وإن كان معيبًا، وقدرة الصين المذهلة حقًّا على الابتكار التكنولوجي).
لقد طغت العناصر الرئيسية للمزيج الأيديولوجي الصيني المكون من: (الماركسية اللينينية، والفكر التقليدي، والتشابه التاريخي، والنجاح الاقتصادي) إلى حد كبير على القوة المحدودة دائمًا لليبرالية الغربية للتأثير على كيفية رؤية الحزب الشيوعي الصيني للعالم. لكن مستقبل الصين العالمي يعتمد على كيفية نجاحها في إعادة توحيد الجوانب الأخرى لنموذجها الجيني الفريد الخاص بها. في الوقت الحالي، يهدد الاستبداد الصيني بالحد من قدرة بكين على إنشاء شكل جديد معقول للنظام العالمي. [1]
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير