بعد انتهاء الحرب الباردة، بدا أن الديمقراطية كانت في طريقها إلى التقدم. لكن هذا التفاؤل الواثق كان في غير محله. مع الاستفادة من الإدراك المتأخر بات من الواضح أنه من السذاجة توقع انتشار الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. حيث يعكس التحول الاستبدادي في السنوات الأخيرة عيوب وفشل الأنظمة الديمقراطية. حيث تبدأ معظم تحليلات الحالة غير المستقرة للديمقراطية المعاصرة بتصوير مماثل: «إنها ليست صحيحة تمامًا». لكنهم أغفلوا جزءًا مهمًّا من الصورة. ألا وهو أن قصة العقدين الماضيين ليست مجرد قصة ضعف ديمقراطي؛ بل إنها أيضًا قوة السلطوية.
منذ التسعينيات، تقدمت الأنظمة الاستبدادية من حيث الأداء الاقتصادي والقوة العسكرية؛ لقد تعلم الطغاة استخدام الأدوات الرقمية لقمع حركات المعارضة بطرق مُعقدة؛ لقد تمكنوا من هزيمة الحملات الديمقراطية التي بدت ذات يومٍ واعدة، واستولوا على البلدان التي بدت وكأنها في طريقها إلى أن تصبح أكثر ديمقراطية، وزاد نفوذهم الدولي بشكل كبير.
ما شهده العالم لم يكن تراجعًا ديمقراطيًّا بقدر ما هو عودة استبدادية جديدة. المستبدون، الذين ركزوا لفترة طويلة على البقاء، هم الآن في موقع الهجوم ويتوقع أن تشهد العقود القادمة منافسة طويلة وشرسة بين الديمقراطية والديكتاتورية.
لم يتم بعد تحديد نتيجة ذلك الصراع مسبقًا. لكن لكي تنتصر، تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون إلى فهم مخاطر هذه اللحظة التاريخية والعمل معًا لحماية الديمقراطية العالمية بطرق أكثر إبداعًا وشجاعة مما كانت عليه في الماضي. سوف يحتاجون أيضًا إلى حل معضلة نشأت نتيجة التوتر بين هدفين أساسيين: وقف التراجع داخل صفوفهم من ناحية، والحفاظ على جبهة موحدة ضد الأنظمة الاستبدادية مثل تلك الموجودة في الصين وروسيا، من ناحية أخرى.
ببساطة، سيكون من الصعب معارضة الحكومات المعادية للديمقراطية في البلدان التي يعد دعمها أمرًا حاسمًا لمواجهة الاستبداديين المتسلطين الحازمين بشكلٍ متزايد. سيتطلب التعامل مع هذه المعضلة نهجًا ماهرًا يُحافظ على إمكانية التعاون مع الدول التي لديها نوايا ديمقراطية مشكوكٍ فيها مع الاحتفاظ بشراكات وثيقة مع الحلفاء الديمقراطيين الحقيقيين. وسيعني ذلك أيضًا التخلي عن «تعزيز الديمقراطية» لصالح «حماية الديمقراطية» السعي في الغالب، إلى تأمين العالم الديمقراطي بدلًا من توسيعه.
مسيرة المستبدين
ألقت فترة ولاية دونالد ترامب في البيت الأبيض بظلال من الشك غير المسبوق على الجانب الذي ستتخذه الولايات المتحدة في الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية. حتى قبل عام 2016، دعمت واشنطن بانتظام الحكومات الاستبدادية عندما بدت احتمالات العثور على حلفاء ديمقراطيين في بلد مهم إستراتيجيًّا ضئيلة. لكن السنوات الأربع الماضية كانت المرة الأولى التي يبدو فيها أن رئيسًا أمريكيًّا يفضل الدكتاتوريات علنًا على الديمقراطيات، ويعزز من القوى الاستبدادية داخل الحلفاء الديمقراطيين.
شكك ترامب بشكلٍ متزايد في الناتو؛ رفض مرارًا إدانة المحاولات الاستبدادية للتدخل في الانتخابات الديمقراطية، أو قتل المعارضين على أرض أجنبية أو وضع المكافآت على رؤوس الجنود الأمريكيين. أعرب عن إعجابه بالديكتاتوريين بمن في ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، على الرغم من أنهم ودولهم لا يتشاركون سوى القليل من ناحية الأيديولوجيا أو الأهمية الجيوإستراتيجية.
في عهد ترامب، عززت الولايات المتحدة أيضًا قوى متطرفة داخل دول ديمقراطية أخرى. في مقابلة مع محرر شبكة برايتبارت الإخبارية اليمينية المتطرفة، ألمح ريتشارد غرينيل، سفير الولايات المتحدة في ألمانيا آنذاك، إلى أنه سعى إلى «تمكين» الحركات الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا. في غضون ذلك عقد، بيت هوكسترا، سفير الولايات المتحدة لدى هولندا، تجمعًا خاصًّا لأعضاء حزب سياسي هولندي متطرف ومانحيه في السفارة الأمريكية. في الوطن، رحب ترامب نفسه بسلسلة من الشعبويين المستبدين في البيت الأبيض بمن فيهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
بعبارات دبلوماسية، خلال فترة حكم ترامب، لم تعد الولايات المتحدة زعيمة ما يسمى بالعالم الحر. بعبارة أكثر صراحة، انشقت أجزاء كبيرة من إدارة ترامب بشكل فعال وتحولت إلى المعسكر الاستبدادي.
ظاهريًّا، لا يوجد الكثير من القواسم المشتركة بين القادة المعتدلين بالديمقراطيات القوية في أوروبا وأماكن أخرى مع ترامب. لقد ضاع ذلك القليل من الود بينه وبين إيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، أو أنغيلا ميركل المستشارة الألمانية. لكن على الرغم من دعم هؤلاء القادة الأوروبيين المفترض للقيم الديمقراطية وخطبهم الأنيقة الداعمة لحقوق الإنسان، فإن أفعالهم الفعلية قد ساعدت وحرضت بشكل متكرر قوى الحُكم المُطلق في جميع أنحاء العالم.
عندما كانت ميركل تكافح للتعامل مع التدفق الكبير للاجئين من الشرق الأوسط وإفريقيا- جنوب الصحراء في عام 2016، على سبيل المثال، قادت صفقة بين الاتحاد الأوروبي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لقطع أحد الطرق الرئيسية للمهاجرين الذين توجهوا إلى البر الرئيسي لأوروبا. حتى عندما سعى أردوغان إلى تركيز السلطة بين يديه وكان منشغلًا بسجن أكثر من 100 صحفي، ساعدته تلك الاتفاقية المُربحة على ترسيخ مكانته السياسية.
كما مضت ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى قدمًا في مشروع نورد ستريم 2، وهو خط أنابيب غاز روسي الصنع من شأنه تأمين إمدادات الطاقة مع ترك بعض الديمقراطيات في وسط وشرق أوروبا معرضة بشكل كبير لضغوط الكرملين. كانت تلك هي الخدمة الأهم التي قدمتها ميركل والقادة الأوروبيون الآخرون للمعسكر الاستبدادي، مع ذلك فقد فشلوا في مواجهة التراجع الديمقراطي في البلدان المجاورة مثل المجر وبولندا.
على مدى العقد الماضي، عملت الحكومات في كلٍّ من بودابست ووارسو بسرعة على تآكل سيادة القانون، وإضعاف الفصل بين السلطات، وتقويض حرية الصحافة، وجعل الانتخابات غير عادلة للغاية. دار الحرية، وهي منظمة تتعقب وضع الحُكم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، قامت مؤخرًا بخفض تصنيف المجر إلى «حرة جزئيًّا». إنه لأمر مؤسف لعضو في الاتحاد الأوروبي.
مع ذلك، لم تفرض بروكسل بعد عقوبات جدية على المجر أو بولندا، ويستمر كلا البلدين في تلقي مليارات اليوروات من الاتحاد الأوروبي. ولأن الكتلة الأوروبية فشلت في ممارسة أي سيطرة فعالة على توزيع الأموال، فقد زودت الشعبويين المناهضين للديمقراطية الذين يقودون الحكومات في كلا البلدين بالمال لرشوة حلفائهم السياسيين ومكافآتهم ومعاقبة خصومهم.
القليل جدًّا، متأخر جدًّا؟
نأمل أن تنتهي هذه الفترة المُخزية من التقاعس عن العمل في مواجهة عودة الاستبداد. في الولايات المتحدة، أدى فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية العام الماضي إلى عودة السياسيين الملتزمين بشدة بالقيم الديمقراطية إلى السلطة. في الاتحاد الأوروبي، أصبحت الهجمات على الديمقراطية من قبل بعض الدول الأعضاء صارخة لدرجة أن العديد من السياسيين الصليبيين، بما في ذلك مارك روته، رئيس وزراء هولندا، وصوفي إن فيلد وسيرغي لاغودينسكي، وهما عضوان في البرلمان الأوروبي، لم يجدوا مفرًّا ومعهم الكتلة الأوروبية من البدء في مواجهة الحكومات الاستبدادية في وسطهم. لكن ما لم يدرك القادة الديمقراطيون مدى خطورة عودة الاستبداد والتهديد الذي يمثله فمن المرجح أن يكون ردهم ضئيلًا جدًّا ومتأخرًا جدًّا.
إن محاولات الاتحاد الأوروبي لاحتواء الاستبداد داخل الكتلة هي دراسة حالة مُحبطة عن الكيفية التي من المحتمل أن تفشل فيها الجهود الفاترة. في عام 2020، بعد سنوات من التقاعس عن العمل، حاول الاتحاد الأوروبي أخيرًا فرض شروط أقوى على الأموال التي يُنفقها عبر الكتلة. تصور اقتراح المفوضية الأوروبية نظامًا من شأنه تجميد المدفوعات للدول الأعضاء إذا انتهكت سيادة القانون في بلدانهم.
قاومت بولندا والمجر، وهما هدفان محتملان لهذا المقترح، عبر التهديد باستخدام حق النقض ضد ميزانية الاتحاد الأوروبي التي تضمنت تمويل جهود الإغاثة الحيوية لكوفيد-19. لقد استسلم القادة الأوروبيون سريعًا تجاه حل وسط تم تصميمه لحفظ ماء الوجه، ولكنه أظهر في الغالب كيف أن القادة الاستبداديين داخل الاتحاد الأوروبي أصبحوا الآن محصنين بشكل أساسي من التداعيات السلبية لهجماتهم على الديمقراطية طالما أنهم يمنحون بعضهم البعض غطاءً سياسيًّا آخر، لذا تخلت المفوضية عن العناصر الأساسية للإجراء نتيجة للاتفاق، لا تزال المفوضية الأوروبية غير قادرة على حجب الأموال عندما تتخذ الدول الأعضاء خطوات لإضعاف سيادة القانون.
لمعاقبة مثل هذه الدول، تحتاج بروكسل بدلًا من ذلك إلى إثبات أن أموال الاتحاد الأوروبي يتم إنفاقها بشكلٍ خاطئ. لكن وفي تنازل آخر، وعدت المفوضية بعدم رفع أي إجراءات قانونية ضد الدول الأعضاء حتى تتاح الفرصة لمن يعارضون ما تبقى من القواعد الجديدة للطعن في دستوريتها أمام محكمة العدل الأوروبية. يضمن هذا الإجراء وبشكل فعال فوز أوربان وغيره من القادة المستبدين بانتخابات غير عادلة، وبقاءهم في السلطة لسنواتٍ قادمة. في النهاية أوضحت المحاولة الفاشلة لتأديب المجر وبولندا مدى الإفلات من العقاب الذي يتمتع به الآن القادة الاستبداديون داخل الاتحاد الأوروبي.
عبر المحيط الأطلسي، من السابق لأوانه تقييم مدى فاعلية الإدارة الأمريكية الجديدة في تعزيز الديمقراطية. تشير البيانات الأولية من بايدن وأعضاء فريقه البارز في السياسة الخارجية إلى أنهم يأخذون التهديد الأوتوقراطي على محمل الجد ويحرصون على إعادة الولايات المتحدة إلى دورها كقائد للعالم الحر. قبل عام كتب بايدن في هذه الصفحات أن: «انتصار الديمقراطية والليبرالية على الفاشية والاستبداد خلق العالم الحر، لكن النجاح في هذه المهمة لم يحدد ماضينا فقط، بل سيحدد مستقبلنا أيضًا». يمثل هذا الموقف تحولًا حقيقيًّا عن السنوات الأربع الماضية. تحت قيادة بايدن، فإن بقاء الناتو على المدى القصير لحسن الحظ لن يكون موضع شك، والدول التي تعتمد في أمنها على الولايات المتحدة سوف تتنفس الصعداء بحق.
على مدى السنوات المقبلة، من المرجح أيضًا أن تعمل الولايات المتحدة عن كثب مع حلفاء ديمقراطيين منذ فترة طويلة بدلًا من الدول الاستبدادية أو الديمقراطيات المُتراجعة. على عكس ترامب، سيكون لبايدن بلا شك علاقات أفضل مع القادة الديمقراطيين مثل ميركل ورئيس كوريا الجنوبية مون جاي إن أكثر من العلاقات مع المُستبدين مثل أردوغان أو السيسي. من غير المرجح أن يدعو بايدن شعبويين مناهضين للديمقراطية مثل أوربان أو مودي إلى البيت الأبيض، كما فعل ترامب في عدة مناسبات.
تحت قيادة أنتوني بلينكين، ستعرب وزارة الخارجية مرة أخرى عن قلقها بشأن الهجمات على حقوق الإنسان والمؤسسات الحرة في جميع أنحاء العالم وسيتعين على الشعبويين والمستبدين دفع ثمن الهجمات على القيم الديمقراطية الأساسية.
كما أشار بايدن وفريقه إلى نيتهم عقد قمة رفيعة المستوى للديمقراطيات. على الرغم من أن الإدارة القادمة لم تنشر تفاصيل حول توقيت القمة أو محتواها إلا أن نية الاقتراح واضحة: «تنشيط الدول الديمقراطية في حربها ضد التهديدات الاستبدادية». إذا تم القيام بذلك بشكل صحيح، يمكن للقمة أن ترسل إشارة مهمة حول التزام الولايات المتحدة بالقيم الديمقراطية.
ستمثل كل هذه التغييرات تحسنًا ملحوظًا بعد إدارة ترامب. ولكن حتى لو تم تنفيذها بالكامل، فمن المحتمل ألا تكون كافية لوقف عودة الاستبداد تكمن المشكلة في أن هدفين من الأهداف المركزية لهذه الجهود: «احتواء تأثير الأنظمة الاستبدادية القوية ووقف التراجع في الديمقراطيات الرئيسية» غالبًا ما يتعارضان مع بعضهما البعض. أي محاولة لوقف عودة الاستبداد يجب أن توقف في نفس الوقت الديمقراطيات المحاصرة مثل الهند وبولندا من الانضمام إلى صفوف الديكتاتوريات في العالم، ومنع دول مثل الصين وروسيا من إعادة تشكيل النظام الدولي.
لكن إذا أرادت واشنطن احتواء روسيا، فإنها تحتاج إلى الحفاظ على علاقة وثيقة مع بولندا، وإذا كانت تريد احتواء الصين، فعليها إبقاء الهند في فلكها.
ستجعل هذه المعضلة من الصعب على إدارة بايدن تنفيذ أجندتها المؤيدة للديمقراطية. عندما تعقد الولايات المتحدة قمة الديمقراطيات المقترحة على سبيل المثال، يمكنها الامتناع بأمان عن دعوة الدول التي تتراجع بسرعة ولديها أهمية جيوإستراتيجية قليلة نسبيًّا، مثل المجر. لكن سيكون من الصعب تجنب دعوة الديمقراطيات المُتراجعة مثل الهند أو بولندا، والتي نظرًا لحجمهما أو موقعهما، يعتبران حليفين مهمين في الجهود المبذولة لاحتواء أقوى الخصوم الاستبداديين للولايات المتحدة.
لن تتمكن الديمقراطيات أبدًا من تجنب هذا المأزق بالكامل. مع ذلك، يمكنها أن تكون منفتحة بشأن طبيعة المشكلة وأن تلتزم علنًا بإستراتيجية متسقة لحلها. سيتطلب ذلك أن تميز الدول الديمقراطية الرائدة بوضوح بين مستويين في علاقاتها مع البلدان الأخرى: «مستوى أدنى متاح للدول التي تشترك في المصلحة الجيوإستراتيجية في احتواء الديكتاتوريات القوية، حتى لو كانت هي نفسها أنظمة استبدادية أو ديمقراطيات متراجعة، ومستوى أعلى للدول التي تشترك في القيم الديمقراطية والمصالح الجيوإستراتيجية».
ستمثل هذه الإستراتيجية استمرارًا للسياسة الخارجية السابقة في الاعتراف بالحاجة إلى الحفاظ على التحالفات الإستراتيجية مع الدول التي هي أقل من الديمقراطية الكاملة. لكنها ستمثل أيضًا خروجًا ملحوظًا من خلال إلزام الولايات المتحدة والديمقراطيات القوية الأخرى بالحفاظ على وضع الشريك الكامل للديمقراطيات الليبرالية وتقليل علاقاتهم مع شركاء آخرين لفترة طويلة إذا تراجعوا بشكل كبير.
إن إنشاء هذا الهيكل ذي المستويين من شأنه أن يوفر حافزًا متواضعًا ولكنه حقيقي لحكومات الدول المهتمة بالحفاظ على علاقة مع الديمقراطيات الراسخة لإنهاء هجماتها على سيادة القانون. كما ستزود النشطاء والحركات المؤيدة للديمقراطية في تلك البلدان بالأدلة على الفوائد الدولية لمقاومة المستبدين المحتملين. لا سيما في الدول المنقسمة بشدة حيث لا يزال لدى القوى المؤيدة للديمقراطية بعض الأمل في إزاحة الحكومة من خلال الانتخابات، قد يؤدي هذا التغيير في السياسة إلى إحداث فرق بين خسارة الطموحين للسلطة وتمسكهم بها.
في قمته المقترحة للديمقراطيات، يجب على بايدن أن يضع معايير لما يمكن أن يشكل انتهاكًا للحد الأدنى من المعايير الديمقراطية، والتكاليف التي قد تفرضها واشنطن على الدول التي فشلت في الالتزام بها.
يجب عليه أيضًا دعوة الدول الأخرى لتبني نسخها الخاصة من عقيدة بايدن، وكلما اتبعت الديمقراطيات الأكثر تطورًا هذا النهج، زادت قوة تأثيره.
حماية الديمقراطية
يتطلب هذا النوع من النهج من صانعي السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا إعادة التفكير في فكرة «تعزيز الديمقراطية». بالنسبة للجزء الأكبر، فقد تم استخدام هذا المصطلح لوصف الجهود الرائعة لتعزيز الحركات الديمقراطية في البلدان الاستبدادية أو الديمقراطيات الوليدة. لكن في بعض الأحيان أساءت الولايات المتحدة وغيرها استخدامه، وأساءت تطبيقه عبر المحاولات المُدمرة لفرض الديمقراطية بالقوة. مع ذلك، فإن المشكلة الأعمق هي أن فكرة الترويج للديمقراطية تستند إلى افتراض أن المستقبل سيكون أكثر ديمقراطية من الماضي.
في ضوء عودة الاستبداد الأخيرة، يحتاج القادة إلى الوقوف على هذا الافتراض رأسًا على عقب. من المحتمل بالتأكيد أن تتحول بعض الأنظمة الاستبدادية إلى ديمقراطية خلال العقود القادمة، وعندما تظهر مثل هذه الفرص، ينبغي على الديمقراطيات المتقدمة أن تفعل ما في وسعها للمساعدة. لكن الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية لا ينبغي أن يكون تعزيز الديمقراطية في البلدان التي لا توجد فيها بالفعل.
بدلًا من ذلك، يجب أن يكون الهدف حماية الديمقراطية في تلك البلدان التي تتعرض فيها الآن لخطر جدي. مثلما يتطور الترويج للديمقراطية بشكل تدريجي، فإن حماية الديمقراطية سوف تستغرق وقتًا لتتطور. لكن هناك بعض الخطوات الفورية التي يجب على الولايات المتحدة وحلفائها اتخاذها نظرًا لتقييد وارسو لحرية الصحافة، يجب على إذاعة أوروبا الحرة إعادة بثها باللغة البولندية، كما فعلت في بثها باللغة المجرية في عام 2020. في المقابل يجب على إذاعة صوت أمريكا مراقبة التغييرات في الهند والتي قد تبرر برنامجًا جديدًا باللغة الهندية. يجب على المنظمات مثل (الوقف الوطني للديمقراطية) أن تكثف أنشطتها في مثل هذه الأماكن، كذلك عملية توزيع الموارد تتسم بأهمية مُتزايدة حيث تقوم الحكومات في تلك البلدان بخنق المجتمع المدني وتضييق الخناق على المنظمات غير الحكومية.
قد يعني الالتزام الجاد بحماية الديمقراطية أيضًا استخدام الأدوات الدبلوماسية للضغط على الحلفاء المتراجعين. يعني هذا بالضرورة العصا والجزر. قد تكون إحدى العصي المحتملة هي الاستخدام الموسع للعقوبات الموجهة ضد المسؤولين الذين يعملون على تقويض المؤسسات الديمقراطية. الشيء الآخر هو تأخير أو إلغاء المبادرات المخطط لها التي من شأنها تعزيز الحكومات المعادية للديمقراطية، مثل نية البنتاغون نقل آلاف القوات الأمريكية إلى بولندا. ستتطلب حماية الديمقراطية أيضًا تركيزًا أكبر على العلاقة بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية. في الآونة الأخيرة، بدأ المعلقون وصانعو السياسات في التأكيد على كيفية تأثير القضايا الدولية مثل التجارة الحرة على السياسات المحلية: «ما لم يعتقد المواطنون العاديون أن النظام الدولي الليبرالي سيحسن حياتهم اليومية، فلن يكونوا مستعدين لتحمل أعبائه». لكن الرابط قوي في الاتجاه الآخر: «فالمواطنون الذين يفقدون الإيمان بالقيم الديمقراطية أو لم يعودوا يؤمنون بنظامهم السياسي لا يمكن أن يكونوا مدافعين فعالين عن الديمقراطية».
يحتاج القادة في الديمقراطيات المتقدمة إلى مواجهة منافسين استبداديين في وسطهم. لكن يجب عليهم تجنب القيام بذلك بوسائل غير ليبرالية يمكن أن يكون هذا خطًّا صارمًا للسير فيه: «العديد من الديمقراطيات، على سبيل المثال لديها استعداد متزايد لحظر الأحزاب السياسية المتطرفة وتقييد الكلام الذي يعتبر بغيضًا، وفرض الرقابة على منصات وسائل التواصل الاجتماعي». إلا أن فاعلية كل هذه التدابير مشكوكٍ فيها. لكن الأمر المؤكد هو أن المستبدين الناشئين غالبًا ما يستخدمون قوانين ولوائح متشابهة بشكلٍ لافت كغطاء لتركيز السلطة بأيديهم.
الصلة بين السياسة الخارجية والداخلية هي أيضًا سبب لمنع الحكام المستبدين في الخارج من تقييد ما يمكن أن يقوله مواطنو الديمقراطيات في الداخل. على مدى السنوات العديدة الماضية، شنت الصين حملة منسقة لردع المواطنين والبلديات والشركات في أماكن أخرى من انتقاد سجلها في مجال حقوق الإنسان في ألمانيا، على سبيل المثال، أزالت مدينة هايدلبرغ في عام 2019، علم التبت الذي تم رفعه خارج قاعة المدينة؛ نتيجة ضغوط من الدبلوماسيين الصينيين بعد التهديدات الاقتصادية من الحكومة الصينية؛ في نفس العام انتقد الاتحاد الوطني لكرة السلة داريل موري، المدير العام لهيوستن روكتس آنذاك، لدعمه المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في هونغ كونغ.
على الرغم من أنه من المستحيل منع هذا النوع من التكميم تمامًا، إلا أن قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة لعام 1977، قد يكون بمثابة نموذج للاستجابة الفعالة. يخلق هذا القانون الأمريكي رادعًا كبيرًا للانخراط في الكسب غير المشروع، من خلال فرض عقوبات صارمة على الشركات التي تدفع رشاوى لمسؤولين أجانب. يمكن إنشاء رادع مماثل بواسطة تشريعات في الولايات المتحدة وأوروبا من شأنها أن تمنع الشركات والمنظمات الأخرى من معاقبة موظفيها لانتقادهم سياسات الأنظمة الاستبدادية.
من خلال تقييد أيدي مؤسسات مثل: (هيوستن روكتس – نايكي – فولكس فاجن) ستجعل هذه القوانين من السهل عليهم مقاومة الضغط الخارجي لإسكات موظفيهم.
الإصلاح أو الفناء
ستكون الخطوة الأخيرة في منع عودة الاستبداد هي إصلاح اثنتين من المؤسسات التأسيسية للنظام الدولي الليبرالي: «الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو» لقد افترض الأمريكيون والأوروبيون الذين صمموا تلك الهيئات أن بلدانهم لن تشهد أبدًا تراجعًا ديمقراطيًّا جادًّا. نتيجة لذلك، لا تمتلك أي منظمة وسائل مباشرة لتعليق أو طرد عضو تغيرت شخصيته بشكل أساسي.
يمثل هذا الوضع مشكلة خاصة للاتحاد الأوروبي، الذي يتطلب من أعضائه التضحية بدرجة عالية غير عادية من السيادة للانضمام إلى الكتلة. على الرغم من أن السياسيين الوطنيين يجدون صعوبة في بعض الأحيان في شرح ذلك لناخبيهم إلا أن هناك بعض الأسباب المقنعة لهذا الترتيب. إن معظم دول الاتحاد الأوروبي بمفردها أصغر من أن تتعامل مع المشكلات العابرة للحدود مثل تغير المناخ أو التأثير بشكل كبير على السياسة العالمية. بما أن هذه الدول تشترك في الالتزام بالديمقراطية وسيادة القانون، فإن التخلي عن قدر من الاستقلال يمكِّنها من تعزيز قيمها المشتركة.
وفقًا لهذا المنطق نفسه، فإن صعود القادة الاستبداديين داخل دول الاتحاد الأوروبي يقوض بشدة شرعية الكتلة. قد يكون من المنطقي أن يتوافق المواطنون في هولندا على بعض الأمور السيادية لبلادهم مع تلك التي تتمتع بها الديمقراطيات المجاورة، مثل اليونان أو السويد، حيث يفترض أن مصالحهم متوافقة. لكن من الصعب أن تشرح سياسيًّا أو تُبرر أخلاقيًّا لماذا يجب أن تُلزم القواعد الموضوعة جزئيًّا من قبل الديكتاتوريين في بودابست ووارسو المواطنين في هولندا. إذا لم يعالج صانعو السياسة في بروكسل هذا التناقض فسيواجه الاتحاد الأوروبي أزمة شرعية ذات أبعاد وجودية، وهي أزمة ليست مؤسساته الحالية مجهزة تمامًا لحلها.
يواجه الناتو مشكلة مماثلة. مثل الاتحاد الأوروبي، تأسس التحالف كما توضح ديباجة المعاهدة، على العزم على «حماية مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية وسيادة القانون». نظرًا لأن الهدف الأساسي للتحالف كان دائمًا عسكريًّا، فقد تحمل منذ فترة طويلة بعض الانتهاكات لهذه المبادئ. كانت البرتغال، أحد الأعضاء الأصليين في الناتو، ديكتاتورية في وقت تأسيس التحالف. في العقود التي تلت عام 1952، عندما انضمت اليونان وتركيا ظل كلا البلدين في وضع جيد على الرغم من هيمنة الديكتاتوريات العسكرية.
لكن المشكلة التي يواجهها الناتو اليوم مختلفة. حتى عندما كانت اليونان والبرتغال وتركيا ديكتاتوريات، ظلت أعضاء موثوقًا بها في التحالف؛ خلال الحرب الباردة، من الواضح أنهم انحازوا إلى الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة بدلًا من القوى الشيوعية مثل الاتحاد السوفيتي. الآن، يبدو أن بعض الدول الأعضاء، بما في ذلك جمهورية التشيك والمجر وسلوفينيا وتركيا، تفضل الصين وروسيا على الولايات المتحدة. ربما هاجم الجيش التركي موقعًا للقوات الخاصة الأمريكية في سوريا في عام 2019. هذه التناقضات الداخلية لا يمكن تحملها. إن اتفاقية الدفاع المشترك التي تشمل الدول الراغبة في إطلاق النار على قوات عضو آخر ستفقد مصداقيتها بسرعة. مع ذلك، فإن طرد عضو من الناتو أكثر صعوبة من القيام بذلك في الاتحاد الأوروبي. على الرغم من أن بعض القانونيين قد اقترحوا حلولًا ذكية، إلا أن المعاهدة لا تحتوي صراحةً على أي آلية لتعليق أو طرد دولة عضو.
في كلتا المنظمتين، يتطلب إصلاح هذه العيوب رأس مال سياسيًّا هائلًا وضغطًا دبلوماسيًّا جادًّا، وربما يتطلب إعادة ابتكار قانوني أو تنظيمي كامل كل هذه أسباب وجيهة وراء افتقار القادة الديمقراطيين على الأرجح إلى الرغبة في إجراء الإصلاحات اللازمة.
لكن بدون آليات لضمان بقاء الدول الأعضاء متوائمة مع مهام كل منظمة أو الخروج منها، فإن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو سوف ينجرفان إلى الخلل الوظيفي وعدم الملاءمة. يجب على السياسيين الجادين بشأن حماية الديمقراطية إعطاء الأولوية لإصلاح هذه المؤسسات، حتى لو أدى ذلك إلى صراع داخلي خطير. يجب على الدول الأعضاء التي لم تعُد أعمالها تتماشى مع المهمة الأساسية للاتحاد الأوروبي أو الناتو إما تغيير مسارها أو الانضمام إلى القواعد التي تجعل من الممكن طردها. مع ذلك، إذا ثبت أن هذه الإصلاحات مستحيلة، فقد يكون من الأفضل إعادة تأسيس كلتا المنظمتين على أساس أكثر استدامة من تركها تتحلل.
بدأ القادة الأوروبيون في الاستيقاظ على خطر التراجع الديمقراطي في وسطهم بينما تعهدت إدارة أمريكية جديدة بالدفاع عن الديمقراطية ضد التهديدات غير الليبرالية. لكي يُترجم هذا التصميم إلى عمل ذي مغزى، سيحتاج رجال الدولة والدبلوماسيون إلى النظر إلى ما وراء قواعد اللعبة الدبلوماسية التقليدية للتصدي للتهديد الذي يشكله الاستبداديون الصاعدون، تحتاج الديمقراطيات في العالم إلى الالتزام بعمل جريء.
إذا فعلوا ذلك، فسيواجهون بلا شك عملية شاقة وغير مؤكدة. إنها مسيرة ستكلفهم رأس المال السياسي وتلقيهم لردود فعل سلبية. لكن البديل أسوأ بما لا يقاس بشيء آخر. [1]
الكاتب: ياشا مونك – Yascha Mounk – أستاذ مشارك في جامعة جونز هوبكنز، وزميل أول في مجلس العلاقات الخارجية، ومؤسس برنامج الإقناع
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير