
شهدت سوريا -خلال الأيام الماضية- موجة من التطورات الأمنية الخطيرة، كشفت هشاشة الاستقرار بعد عام على مرحلة ما بعد الأسد. فبينما تحتفل الإدارة الجديدة بتحقيق إنجازات مهمة في مكافحة الإرهاب، أبرزها اعتقال أحد كبار قادة تنظيم داعش، أعاد تفجير دموي استهدف مسجدًا في مدينة حمص المخاوف من عودة العنف الطائفي والتمرد المسلح.
مأساة في حمص.. تفجير دموي داخل مسجد
عصر يوم الجمعة الماضي، ضرب انفجار عنيف مسجد الإمام علي بن أبي طالب في حي وادي الذهب بمدينة حمص في أثناء صلاة الجمعة، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ثمانية مدنيين، وإصابة 18 آخرين، بحسب وزارة الصحة السورية.
ووصف شهود عيان المشهد بالفوضوي والمروّع. وقال أحد المصلين:
“بين الأذان والإقامة، دوّى انفجار ضخم في الجهة الغربية من المسجد. كان الصوت قويًّا حتى إنني فقدت السمع في أذني اليمنى. عندما ترى الشهداء والدماء في بيت من بيوت الله، يكون المشهد فوق الوصف”.
وأضاف بأسى:
“كنا نعتقد أننا وصلنا أخيرًا إلى الأمان، لكن حتى دور العبادة لم تعد آمنة”.
تبنّي الهجوم
وفيما كانت وزارة الداخلية تواصل تحقيقاتها، أعلنت جماعة تُطلق على نفسها اسم “سرايا أنصار السنة” مسؤوليتها عن الهجوم، وذلك في بيان نُشر عبر تطبيق تلغرام مساء الجمعة.
وذكرت الجماعة، التي ظهرت بعد سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024، أنها نفذت التفجير باستخدام عبوات ناسفة بالتنسيق مع فصيل مسلح آخر. كما شككت في الحصيلة الرسمية للضحايا، مدعية أن عدد القتلى والجرحى بلغ 40 شخصًا، ونفت أن يكون الهدف مسجدًا “للسنة”، في إشارة إلى دافع طائفي مرتبط بطبيعة سكان حي وادي الذهب.
وكانت الجماعة نفسها قد تبنّت سابقًا تفجيرًا انتحاريًّا استهدف كنيسة مار إلياس في دمشق في يونيو/ حزيران 2025، وأسفر عن مقتل 22 شخصًا، في أول هجوم كبير بعد سقوط النظام السابق.
أهداف عالية القيمة.. حملة ضد داعش
جاء هجوم حمص بعد أقل من 24 ساعة على إعلان أمني كبير، حيث أكدت السلطات السورية فجر الخميس اعتقال أحد كبار قادة تنظيم داعش في ريف دمشق.
وقال العميد أحمد الدلاتي، قائد الأمن الداخلي في ريف دمشق، إن العملية نُفذت بتنسيق مشترك بين وحدات سورية متخصصة وجهاز الاستخبارات العامة والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
وأوضح أن العملية أسفرت عن اعتقال ما يُعرف بـ”والي دمشق” في تنظيم داعش، المدعو “أبو عمر طابية”، إلى جانب عدد من مساعديه، إضافة إلى ضبط أحزمة ناسفة وأسلحة عسكرية خلال المداهمة في منطقة معضمية الشام قرب العاصمة.
تصعيد بعد هجوم تدمر
تأتي هذه العمليات ضمن تصعيد أمني واسع عقب هجوم نفذه تنظيم داعش في 13 ديسمبر (كانون الأول) قرب مدينة تدمر، أسفر عن مقتل ثلاثة من عناصر القوات الأمريكية (جنديين ومترجم)، إضافة إلى عناصر من القوات السورية.
وردًا على ذلك، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) في 20 ديسمبر (كانون الأول) أنها نفذت أكثر من 70 ضربة جوية في وسط سوريا، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن خمسة من عناصر التنظيم.
كما أعلنت وزارة الداخلية السورية مقتل ما يُعرف بـ”والي حوران” (جنوب سوريا) قبل ساعات من تفجير حمص، إلى جانب تنفيذ عمليات واسعة ضد خلايا نائمة في مدينة حلب.
العدالة الانتقالية.. إفراجات واعتقالات
في الوقت الذي تخوض فيه الإدارة السورية الجديدة، برئاسة الرئيس أحمد الشرع، حربًا على الإرهاب، فإنها تحاول أيضًا التعامل مع إرث النظام السابق المعقّد.
إفراج عن الأبرياء
أفرجت السلطات في محافظة اللاذقية، يوم الجمعة، عن 70 عنصرًا سابقًا من قوات النظام، بعد أن أثبتت التحقيقات عدم تورطهم في جرائم حرب. وذكرت قناة “الإخبارية” الرسمية أن هذه الخطوة تمثل “الدفعة الأولى” من الإفراجات، في إطار مسار مصالحة يستهدف المجندين المنخفضي الرتب.
ملاحقة المتورطين
في المقابل، شددت قوات حرس الحدود إجراءاتها لمنع فرار شخصيات بارزة من النظام السابق، فقد أعلنت وزارة الدفاع، مساء الجمعة، توقيف 12 شخصًا في أثناء محاولتهم التسلل إلى لبنان قرب مدينة تلكلخ، بينهم ضباط مرتبطون بـ”النظام البائد”، من ضمنهم عقيد، وقد حُوِّلوا إلى الجهات المختصة لمحاكمتهم.
وتأتي هذه التطورات وسط تقارير عن محاولات واسعة لفرار عناصر من النظام السابق إلى لبنان منذ سقوط الحكومة في ديسمبر 2024.
تداعيات سياسية وردود دولية
أثار تفجير حمص إدانات دولية واسعة، حيث دان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم محمد البديوي، الهجوم بأشد العبارات، مؤكدًا تضامن دول الخليج مع سوريا في مواجهة محاولات زعزعة أمنها واستقرارها.
داخليًّا، يُنظر إلى التفجير على أنه محاولة مدروسة لإشعال الفتنة الطائفية. وقال المحلل السياسي حمزة المحيميد إن حمص، بتكوينها الديموغرافي الحساس، تمثل “خط تماس خطيرًا”، محذرًا من أن هذه الهجمات تهدف إلى ضرب السلم الأهلي والعلاقة بين الدولة والمجتمع.
تحالف إستراتيجي جديد
تكشف هذه التطورات عن تعمّق التعاون العسكري بين الحكومة السورية الجديدة وواشنطن. وخلال زيارة رسمية إلى العاصمة الأمريكية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن الرئيس أحمد الشرع انضمام سوريا رسميًا إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش، في خطوة لم تكن ممكنة في ظل الإدارة السابقة.
ومع دخول سوريا عام 2026، تبقى التحديات الكبرى متمثلة في القضاء على فلول تنظيم داعش، وإدارة إرث النظام السابق، عقبتين أساسيتين أمام تعافي البلاد واستقرارها.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير