
يدخل النظام الروسي عام 2026 في بيئة أمنية مركبة تتسم بتداخل التهديدات الإرهابية التقليدية مع أنماط جديدة من التطرف العابر للحدود، في ظل استمرار الضغوط الجيوسياسية المرتبطة بالحرب الأوكرانية، واتساع نطاق الصراع مع الغرب، إذ تُعد قضية مكافحة الإرهاب في روسيا من أكثر القضايا الأمنية تعقيدًا؛ نظرًا إلى تداخل العوامل الداخلية البنيوية مع المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، فمنذ مطلع الألفية الثالثة، تعاملت الدولة الروسية مع الإرهاب بوصفه تهديدًا وجوديًّا يستهدف وحدة الدولة واستقرارها السياسي والاجتماعي، وهو ما أسس لمقاربة أمنية صارمة أثبتت فاعليتها في احتواء موجات العنف المفتوح، لكنها في الوقت نفسه أثارت جدلًا بشأن كلفتها الطويلة الأمد؛ لذا يطرح المستقبل المنظور جملة من التساؤلات المحورية عما إذا كانت هذه المقاربة قادرة على التكيف مع التحولات الجديدة في طبيعة التهديد الإرهابي، أم أنها باتت في حاجة إلى مراجعة هيكلية أعمق؟ وهل يمكن لنموذجها الحالي أن يستوعب التهديدات الرقمية والأيديولوجية العابرة للحدود دون إعادة تعريف لمفهوم الإرهاب نفسه؟ وما ملامح التهديد الإرهابي المرجح في السياق الروسي؟ وكيف ستؤثر التفاعلات الجيوسياسية، ولا سيما الصراعات الإقليمية والعقوبات الدولية في إعادة تشكيل أولويات الأمن القومي الروسي؟ تمثل هذه الأسئلة المدخل التحليلي لفهم المسارات المحتملة لمستقبل مكافحة الإرهاب في روسيا في عام 2026.
في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 2025، وتحت قيادة مدير جهاز الأمن الفيدرالي ألكسندر بورتنيكوف، عقدت اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب جلسة مشتركة مع هيئة العمليات الفيدرالية لمراجعة خطة العمليات لعام 2025، وتحديد أولويات عام 2026، بحضور كل من المدعي العام، ومبعوثي الرئاسة، والسلطات الفيدرالية، وأجهزة الأمن. ووفقًا لتقييمات جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، فقد حدثت زيادة ملحوظة في الهجمات المنسوبة إلى المخابرات الأوكرانية والوحدات المسلحة ذات الصلة، التي تستخدم -إلى حد كبير- أنظمة جوية بدون طيار ضد البنية التحتية للنقل والطاقة، واستمرت الهجمات العابرة للحدود، مع ورود تقارير عن تورط وكالات استخبارات غربية في التأثير في أساليب نشر المتفجرات والأسلحة، وتركزت جهود التجنيد على الشباب الروس، والعمالة المهاجرة الأجنبية.
ووفقًا لتقرير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي شملت النتائج العملياتية في عام 2025 منع 374 جريمة إرهابية، وتحييد 24 شخصًا، واعتقال أكثر من 2000 شخص، وفي شمال القوقاز، أسفرت خمس عمليات لمكافحة الإرهاب، و164 فعالية خاصة، عن تعطيل أنشطة 332 مسلحًا، وفككت الأجهزة الأمنية 29 قناة لتهريب الأسلحة غير المشروعة، و113 ورشة لتعديل الأسلحة، و87 جماعة إجرامية منظمة مرتبطة بالتهريب، وشملت المضبوطات أكثر من 200 نظام صاروخي محمول، و147 ألف طلقة ذخيرة، و1500 عبوة ناسفة، وأسفرت التدخلات المالية عن تجميد حسابات وإيقاف عمليات بقيمة 490 مليون روبل روسي لـ5500 فرد مرتبط بأنشطة إرهابية، كما أزالت العمليات الإلكترونية أكثر من 37 ألف مادة إلكترونية تروج للإرهاب والأيديولوجيات المتطرفة.
وفي هذا السياق، تواصل الحكومة الروسية تعزيز الدفاعات القانونية والعملياتية لحماية البنية التحتية الحيوية، لا سيما في قطاعي النقل والطاقة، وتهدف التدابير الوقائية إلى التصدي للتأثير الأيديولوجي على فئة الشباب، في حين يُسهل التعاون مع الشركاء الدوليين والمشاركة في منظمات متعددة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة الدول المستقلة، تبادل إستراتيجيات مكافحة الإرهاب.
ولعل تنامي العمليات المدعومة من أوكرانيا أظهرت قدرة كييف على شن تهديدات غير متكافئة داخل الأراضي الروسية، كاشفةً عن نقاط ضعف في البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك أنظمة النقل والطاقة، وتشير هذه الهجمات، ومبادرات التجنيد التي تستهدف الشباب، إلى احتمال تسلل النفوذ الأيديولوجي إلى السكان المحليين، مما قد يُولد أخطارًا اجتماعية وسياسية طويلة الأمد.
كما يُبرز استمرار العنف في شمال القوقاز التحدي العملياتي المتواصل في المناطق التي عانت تاريخيًّا من التطرف، إذ تحافظ الجماعات المتبقية على شبكاتها المحلية، مما يُتيح لها شن هجمات متكررة، وهو ما يستلزم عمليات مُستدامة ومُوجهة، وفي الوقت نفسه، يُؤكد التركيز على تعطيل التمويل، ومنع تهريب الأسلحة، والتدابير الإلكترونية المضادة، جهود موسكو الحثيثة لتقويض القدرات العملياتية واللوجستية للكيانات الإرهابية.
يمثل ما سبق جزءًا من خطة موسكو الأوسع نطاقًا لمنع التطرف، وكبح تجنيد الشباب وجماعات المهاجرين، فضلًا عن التعاون مع دول إقليمية؛ ما يوفر معلومات استخباراتية ومساعدة عملياتية للنظام الروسي. تشير هذه الإجراءات إلى أنه من المرجح أن تواصل روسيا عملياتها المكثفة لمكافحة الإرهاب، مع إدماج الحملات الأيديولوجية والإعلامية، وإيلاء حماية البنية التحتية أولوية قصوى بوصفها عنصرًا أساسيًّا في إستراتيجية الأمن القومي الروسي.
تمثل أولويات النظام الروسي في مكافحة الإرهاب بحلول عام 2026 مدخلًا تحليليًّا كاشفًا لتحولات أعمق في بنية الدولة الروسية، وعلاقتها بالأمن القومي وإدارة التهديدات المركبة؛ فمكافحة الإرهاب لم تعد تُدار في موسكو بوصفها ملفًا أمنيًّا تقنيًّا معزولًا؛ بل بوصفها جزءًا من إستراتيجية شاملة لإعادة ضبط الداخل الروسي، وضمان تماسك الدولة في ظل ضغوط خارجية متصاعدة وحروب غير تقليدية، تتضح فيما يلي:
ترتكز أولويات روسيا في 2026 على تعزيز الأطر القانونية والهيكل المؤسسي لمكافحة الإرهاب، بما يتضمن توسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية ذات الصلة، فمن أبرز التوجهات التشريعية منح جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) صلاحيات إضافية للتحقيق والاحتجاز قبل المحاكمة، ضمن مراكز خاصة تابعة له؛ استجابة لما تراه الدولة زيادة في معدلات التهديدات ضد الأمن القومي؛ ومن ثم فمن المتوقع دخول هذا الإجراء قيد التنفيذ بدءًا من 1 يناير (كانون الثاني) 2026 ، كما أن التركيز على تأسيس بنية قانونية تمكّن أجهزة الأمن من أدوات أوسع يعكس توجهًا نحو مقاربة أمنية صارمة تُدمج مكافحة الإرهاب ضمن مفهوم الأمن الداخلي الشامل بدلًا من أن تظل مجرد نشاط أمني ضيق؛ ما يعزز قدرة الدولة على المواجهة المباشرة والوقاية قبل وقوع الأفعال الإرهابية.
تعمل روسيا على تطوير قائمة التنظيمات الإرهابية المحظورة، وقد أضافت في 2025 نحو 174 منظمة قومية إلى لوائح الإرهاب، مع نية لرفع أخرى لاحقًا، وهو ما سيلقي بظلاله على أولويات 2026 أيضًا، حيث يشير توسيع قوائم الإرهاب إلى أن روسيا تعيد تعريف مفهوم الإرهاب داخل حدودها القانونية، في محاولة لاحتواء ما تراه تهديدات أيديولوجية أو أنشطة متطرفة بجانب الإرهاب التقليدي. هذا التوسع يمكّن السلطات من تجميد أصول هذه التنظيمات، وملاحقة العاملين فيها، وتضييق المجال القانوني أمام أنشطتهم.
تثبت بيانات اللجنة الروسية لمكافحة الإرهاب استمرار إحباط الهجمات، وتفكيك خلايا إرهابية في 2025؛ مما يعزز الأولوية على الوقاية والاستخبارات الاستباقية، حيث أحبطت أجهزة الأمن الروسية عددًا كبيرًا من الهجمات الإرهابية على مدار العام؛ ما يؤكد أهمية تعزيز العمل الاستخباراتي المشترك، وآليات التحري الميداني. ويشير تنفيذ هذا النوع من العمليات إلى أن الاعتماد على الأساليب الاستخباراتية الاستباقية سيظل في صدارة أولويات 2026، مع توقع زيادة الاستثمار في جمع المعلومات والتحليلات الرقمية لمواجهة التهديدات قبل تنفيذها.
تنظر السلطات الروسية أيضًا إلى جهود مكافحة الإرهاب من زاوية مالية وتنظيمية عبر مكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال، حيث يبرز اهتمام روسيا بكيفية تمويل الإرهاب توجهًا نحو تفكيك الشبكات المالية الداعمة للإرهاب، وربط مكافحة الإرهاب مباشرة بنظم الرقابة المالية؛ ومن ثم توسيع نطاق العمليات لتشمل الاقتصاد والمالية العامة كجبهة إستراتيجية في التصدي للتطرف والعنف.
بحسب الوثائق والتحليلات المرتبطة بالجهد الروسي في مكافحة الإرهاب، يؤدي التصدي للأيديولوجيات المتطرفة دورًا مهمًّا في الخطط المستقبلية للنظام الروسي، فالجهود لا تركز فقط على العمليات الميدانية؛ بل تشمل تدابير للحد من انتشار الفكر المتطرف داخل المجتمع الروسي، وفي دوائر التأثير، وهذا يشير إلى إدراك المؤسسات الروسية أن العنف والإرهاب لا ينبعان من فراغ، وأن استدامة مكافحة الإرهاب تتطلب إستراتيجيات ثقافية واجتماعية للحد من الجذور الفكرية والعوامل المُسهمة في التطرف.
في الوقت الذي تركز فيه روسيا على الأمن الداخلي، لا تغفل أهمية التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب؛ فاللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب -وفقًا لوصفها الرسمي- لديها صلاحيات في التعاون الدولي وتبادل المعلومات لمكافحة التهديدات العابرة للحدود، ومن المنظور الإستراتيجي تسعى روسيا إلى الاحتفاظ بآليات تعاون ثنائي ومتعدد الأطراف في مكافحة الإرهاب، لكنها تميل إلى تشكيل شراكات متخصصة بدلًا من الانخراط في تحالفات واسعة قد تتناقض مع سياساتها الأمنية والسيادية.
تنطلق إستراتيجية روسيا لمكافحة الإرهاب في 2026 من نهج أمني استخباراتي صارم يجعل جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) والقوات الخاصة ركيزتين في مواجهة التهديدات الإرهابية داخليًّا وخارجيًّا، سواء عن طريق تفكيك الخلايا، أو من خلال مراقبة الشبكات المتطرفة، حيث يُعد الجهاز محور العمل في تنفيذ عمليات منع التهديدات الإرهابية واكتشافها وتحييدها، ويعتمد على وحداته المختصة في العمليات الخاصة لمواجهة العناصر المسلحة وتفكيكها قبل تنفيذ العمليات، وهذا النهج يؤكد استمرارية الهيمنة التقليدية في مكافحة الإرهاب على حساب سياسات أكثر تركيزًا على الوقاية الاجتماعية أو المدنية، ما يعني أن 2026 سيشهد مزيدًا من التركيز على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في تنفيذ الإستراتيجية الأمنية الروسية.
في روسيا، لا يُفصل الإرهاب عن الأمن القومي ككل؛ بل يُنظر إليه بوصفه جزءًا من منظومة التهديدات المتشابكة التي تشمل الانفلات في الحدود، والتطرف الداخلي، والتدخلات الأجنبية، وهذه الرؤية تجعل مكافحة الإرهاب جزءًا أساسيًّا من السياسة الأمنية للدولة، وليس قضية جزئية؛ ما يبرر استمرار تدخل الأجهزة الأمنية في نطاقات عريضة من الحدود الجنوبية إلى المناطق الحساسة في القوقاز وآسيا الوسطى. ومن هذا المنطلق، من المرجح أن تبقى مكافحة الإرهاب في 2026 مرتبطة بمفاهيم استقرار الدولة والهوية الوطنية، مع مزيد من التشديد على العناصر التي يمكن أن تهدد النظام السياسي الروسي.
تشير الاتجاهات الأمنية العالمية إلى أن التهديدات الرقمية وأخطار الفضاء الإلكتروني ستتصدر أولويات مكافحة الإرهاب خلال 2026، بما في ذلك استغلال الذكاء الاصطناعي، والتضليل، وسوء استخدام الشبكات الاجتماعية لنشر خطاب التطرف وجذب الفئات الشابة. وبناءً على ذلك، من المتوقع أن تدمج روسيا في 2026 آليات تكنولوجية متقدمة، مثل تحليل البيانات الرقمية، والمراقبة من خلال الشبكات، وأدوات مكافحة التجنيد الإلكتروني، في صلب عمل الأجهزة الأمنية؛ ما يعكس تحولًا إستراتيجيًّا نحو مواجهة الإرهاب في أبعاده الرقمية قبل أن يتجسد على الأرض.
تشير المؤشرات الراهنة إلى أن التهديد الإرهابي في روسيا عام 2026 سيتخذ طابعًا منخفض الكثافة، لكنه مرتفع الرمزية، حيث يُرجح تراجع العمليات الواسعة النطاق مقابل تصاعد العمليات الفردية أو الخلايا الصغيرة. وتتضح ملامح هذا الترجيح في المحددات التالية:
سيعتمد مستقبل الإرهاب في روسيا خلال عام 2026 -بدرجة كبيرةـ على منطق الاستمرارية البنيوية أكثر من منطق التحول الجذري؛ فالإرهاب لن يختفي بوصفه تهديدًا أمنيًّا، بل سيُعاد إنتاجه في صور أكثر تعقيدًا، تجمع بين العنف المنظم، والتطرف الأيديولوجي غير العنيف، والتهديدات الهجينة المرتبطة بالصراعات الجيوسياسية. وفي هذا السياق، ستظل الدولة الروسية فاعلًا مهيمنًا في إدارة الظاهرة من خلال مقاربة أمنية مركزية، لكنها ستواجه تحديًا متزايدًا في التمييز بين الإرهاب بوصفه تهديدًا وجوديًّا، وأشكال المعارضة أو الاحتجاج التي قد تتحول -بفعل السياسات الصارمة- إلى بيئات مولدة للتطرف على المدى المتوسط.
ومن المرجح أن يشهد عام 2026 تحولًا نوعيًّا في طبيعة ساحة المواجهة، حيث ينتقل مركز الثقل من العمليات الإرهابية التقليدية إلى مجالات أكثر ضبابية، مثل الفضاء الرقمي، والتجنيد غير المباشر، والعمليات المنخفضة الكلفة العالية الأثر. هذا التحول يفرض على روسيا إعادة تقييم فعالية أدواتها الحالية، إذ إن الاعتماد المفرط على الردع الأمني قد يحقق نجاحًا تكتيكيًّا قصير الأجل، لكنه لا يضمن بالضرورة احتواء الديناميات الاجتماعية والفكرية التي تغذي التطرف؛ ومن ثم يصبح مستقبل مكافحة الإرهاب مرهونًا بقدرة الدولة على دمج الأدوات الصلبة في سياسات وقائية ناعمة أكثر استدامة.
ومن هذا يمكن القول إن روسيا في 2026 تقف عند مفترق طرق نسقي؛ إما الاستمرار في نموذج أمني مغلق ينجح في ضبط التهديدات الآنية لكنه يراكم أخطارًا كامنة، وإما الانتقال التدريجي نحو نموذج أكثر توازنًا يربط بين الأمن، والتنمية، والإدارة الذكية للتنوع الاجتماعي والثقافي؛ لذا فإن مستقبل الإرهاب في روسيا لن يتحدد فقط بقدرات الجماعات المتطرفة؛ بل -وربما بدرجة أكبر- بطبيعة الاستجابات المؤسسية للدولة نفسها، ومدى قدرتها على تحويل مكافحة الإرهاب من سياسة ردع إلى إستراتيجية شاملة لإدارة المخاطر، وتعزيز الاستقرار طويل الأمد.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير