مقالات المركز

لماذا يخشى الورثة الجدد توزيع مفاتيح القصر؟

فوبيا الحكم الجماعي وعقدة صمام الأمان


  • 25 ديسمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: sawtbeirut.com

تُظهر التجربة السورية -قديمها وحديثها- أن المشكلة لم تكن في غياب الدولة؛ بل في اختزالها داخل مركز ضيق يحتكر السلطة والموارد. وبعد سقوط نظام الأسد، تقف سوريا أمام مفترق طرق حاسم؛ إما إعادة إنتاج المركزية بوجوه جديدة، وإما الشروع في تفكيكها عن طريق آليات جماعية تضمن المشاركة والرقابة والتوازن.

إن اعتماد نموذج قائم على المجالس، مستلهم من التجارب العالمية، ومتكيف مع الخصوصية السورية، قد يشكل جسرًا واقعيًّا بين هاجس الوحدة ومطلب العدالة السياسية. غير أن نجاح هذا المسار يبقى مرهونًا بقدرة السوريين على كسر منطق الغلبة، وفتح حوار وطني شامل، يؤسس لدولة تعددية تنهي عقودًا من الاستبداد، لا أن تعيد تدويرها باسم المرحلة الانتقالية.

شهدت سوريا في نهاية عام 2024 حدثًا مفصليًّا تمثّل في انهيار حكم بشار الأسد بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية، ودخول البلاد مرحلة انتقالية مع سيطرة قوى المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام على دمشق، وتعيين أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًّا في يناير (كانون الثاني) 2025. هذا التحول، رغم ضخامته، لم يُنهِ الأسئلة الكبرى المتعلقة بطبيعة الدولة السورية المقبلة، ولا بكيفية إدارة الانتقال السياسي دون الوقوع في إعادة إنتاج الاستبداد بصيغ جديدة.

من خلال تحليل الواقع السياسي السوري الراهن بالاستناد إلى المعطيات الميدانية والدستورية يمكننا ربطه بالتجربة التاريخية السورية، مع الاستفادة من نماذج عالمية للحكم الجماعي والانتقالي للوصول إلى طرح تصور عملي بديل يقوم على المجالس الرئاسية والعسكرية والسياسية، كآلية لتفكيك المركزية ومنع احتكار السلطة.

أفضى سقوط النظام في ديسمبر (كانون الأول) 2024 إلى عقد ما سُمّي بمؤتمر النصر، حيث أُعلن إلغاء دستور 2012، وحل حزب البعث وأجهزة الأمن السابقة، واعتماد إطار دستوري مؤقت يمتد إلى خمس سنوات. أُعلن قيام جمهورية يحكمها برلمان وحكومة تنفيذية، مع نقل السلطة إلى رئيس انتقالي يتمتع بصلاحيات واسعة.

في مارس (آذار) 2025 صدر إعلان دستوري أنشأ مجلس الشعب بقدرات تشريعية شكلية، في حين احتفظ الرئيس بسلطات جوهرية، منها تعيين ثلث أعضاء المجلس مباشرة، واختيار الثلثين الآخرين عن طريق لجان محلية غير منتخبة على نحو مباشر. وقد أثارت هذه الصيغة انتقادات واسعة بسبب ضعف التمثيل، خصوصًا للنساء والأقليات، واقتصار التمثيل الرمزي لبعض المكونات، في مقابل مقاطعة الأكراد والدروز للمسار برمّته، واعتباره إقصائيًّا، وغير تشاركي.

على الصعيد الأمني، سعت السلطة الانتقالية إلى دمج الفصائل المسلحة ضمن جيش وطني موحد. وُقّعت اتفاقات مبدئية مع الجيش الوطني السوري وقوات سوريا الديمقراطية، لكن التنفيذ تعثّر، لا سيما فيما يتعلق بدمج قوات SDF، وسط تهديدات تركية متكررة بعمل عسكري. وتشير تقارير بحثية إلى أن الجيش الجديد ما زال أقرب إلى اتحاد فضفاض من التشكيلات المسلحة، يحتفظ كل منها بسلسلة قيادته الخاصة، مع غياب هوية وطنية جامعة، واستبعاد ملحوظ لضباط علويين سابقين؛ ما يفتح الباب أمام تشكّل معارضات أمنية جديدة.

اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ورغم الاعتراف الدولي النسبي ورفع جزء لا بأس به من العقوبات على مراحل عدة، ما زالت الحكومة الانتقالية تواجه أزمة خانقة، وتوترات طائفية، وتهديدات أمنية من تنظيم داعش، بالإضافة إلى واقع جغرافي منقسم؛ إذ لا تسيطر السلطة المركزية على سوى ما بين نصف البلاد و60٪ منها، في حين تتقاسم قوى محلية أخرى السيطرة على بقية المناطق؛ لذا، ولفهم الإشكالية الراهنة، لا بد من العودة إلى تطور البنية الدستورية والسياسية السورية، فدستور 1920، رغم منحه الولايات صلاحيات واسعة نظريًّا، أبقى التعيين والقرار النهائي بيد الملك، ما رسّخ مركزية مبكرة. أما دستور 1950، فقد ألغى فعليًّا السلطات التشريعية المحلية، في سياق الخوف من التقسيم والتدخل الخارجي.

بعد انقلاب حزب البعث عام 1963، دخلت سوريا مرحلة مركزية مطلقة، هُمِّشت فيها الإدارة المحلية، وتحولت المجالس إلى أدوات شكلية، مع احتكار القرار السياسي والاقتصادي بيد القيادة الحزبية والأجهزة الأمنية. هذه المركزية لم تُنتج دولة قوية؛ بل دولة أمنية هشّة، عمّقت الفجوة بين المركز والأطراف، وأدت إلى تهميش مناطق واسعة.

استطلاعات الرأي الحديثة، ولا سيما استطلاع اليوم التالي عام 2020، أظهرت تحوّلًا لافتًا في المزاج الشعبي لصالح اللا مركزية، بما في ذلك بين فئات كانت تقليديًّا معارضة لها. هذا التحول يعكس إدراكًا متزايدًا بأن المشكلة لم تكن في وحدة الدولة في ذاتها، بل في احتكار السلطة داخلها.

تُعرّف اللا مركزية الإدارية بأنها تفويض للسلطات التنفيذية إلى وحدات محلية مع احتفاظ المركز بحق الإشراف، في حين تعني اللا مركزية السياسية نقل جزء من سلطة التشريع وصنع السياسات إلى هيئات منتخبة محليًّا. في السياق السوري، لم يكن الخلاف يومًا نظريًّا بحتًا؛ بل ارتبط مباشرة بتجربة التهميش والاستبداد.

أنصار المركزية يرون فيها ضمانة لوحدة البلاد ومنع الانفصال، في حين يرى أنصار اللا مركزية أن المركزية نفسها هي التي قادت إلى تفكك المجتمع، وأضعفت الانتماء الوطني. المفارقة أن السلطة الانتقالية الحالية، رغم خطابها الثوري، أعادت إنتاج نموذج شديد المركزية، مع تأجيل الانتخابات العامة خمس سنوات، ورفض أي نقاش جدي بشأن صيغ حكم بديلة، وهو ما يهدد بتكريس نمط سلطوي جديد بواجهة انتقالية.

تقدّم التجارب الدولية نماذج متعددة للحكم الجماعي أو الانتقالي، فالنموذج السويسري، القائم على مجلس اتحادي جماعي ورئاسة دورية، نجح في منع تركّز السلطة بفضل ثقافة سياسية توافقية راسخة. في المقابل، أظهر نموذج البوسنة والهرسك كيف يمكن للحكم الجماعي أن يضمن التمثيل، لكنه قد يكرّس الانقسام، ويبطئ القرار.

أما تجارب مثل السودان واليمن وليبيا، فتُظهر أخطار غياب الضبط الدستوري الواضح، أو تغوّل المكوّن العسكري، أو تضارب الأجندات الإقليمية؛ ما يؤدي إلى شلل المسار الانتقالي أو انهياره. هذه النماذج، بنجاحاتها وإخفاقاتها، تقدّم دروسًا مباشرة للسياق السوري.

في ضوء المعطيات الحالية والتجربة التاريخية، يبرز خيار المجالس الرئاسية والعسكرية والسياسية بديلًا عمليًّا لتفكيك المركزية دون تفكيك الدولة. يقوم هذا النموذج على مجلس رئاسي جماعي محدود العدد، يضم ممثلين عن المكونات الأساسية للمجتمع السوري، مع رئاسة دورية وصلاحيات سيادية محددة، تمنع انفراد شخص أو فئة بالقرار. إلى جانبه، يُنشأ مجلس عسكري انتقالي خاضع لإشراف مدني واضح، يتولى توحيد القوات المسلحة ومنع تسييس الجيش، مع حظر ترشح أعضائه مستقبلًا.

أما المجلس السياسي أو الجمعية التأسيسية، فيُناط به إعداد الدستور، وسن القوانين الانتقالية، ومراقبة الحكومة، مع ضمان تمثيل المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة المركزية، بما يقلّص الإقصاء ويعزز الشرعية.

يشترط لنجاح هذا النموذج تحديد صارم للصلاحيات، ومدة زمنية واضحة للمرحلة الانتقالية، ومنع تضارب المصالح، بالإضافة إلى إطلاق مسار عدالة انتقالية حقيقي لا يكتفي بالمصالحة الشكلية؛ بل يعالج الجرائم والانتهاكات بوصفها أساسًا لبناء دولة قانون. لم تكن مأساة السوريين يومًا في غياب فكرة الدولة، أو افتقارهم إلى هيكل إداري يجمع شتاتهم، بل كانت في ذلك النموذج المشوه الذي سكنها منذ لحظة التأسيس الحديثة؛ دولة صُممت لترى نفسها مركزًا مقدسًا لا مجتمعًا حيًّا، وسلطةً مطلقةً لا عقدًا اجتماعيًّا، وهيمنةً قهريةً تأبى الشراكة، وتنبذ التعدد. لعقود طويلة، اختُزل الوطن الفسيح، بتنوعه الثقافي والجغرافي المذهل، في حدود العاصمة الإدارية الضيقة، واختُصرت السيادة الوطنية في قبضة الأجهزة الأمنية، وحُصر القرار المصيري في دوائر مغلقة لا يدور فيها سوى صدى الولاء الأعمى، ثم، وبكثير من الصلف السياسي، طُلب من السوريين جميعًا التصفيق لهذا الاختزال القاتل باسم الوحدة الوطنية، في حين لم تكن هذه الوحدة في الحقيقة سوى تماثل قسري يحجب تحت سطحه براكين من المظالم المكبوتة. إن هذا النهج لم يكن خللًا عابرًا؛ بل كان هو النظام التشغيلي الوحيد الذي تتقنه السلطة، والذي كلما اهتزت الأرض من تحته بفعل المطالب المحقة زاد جرعة المركزية الصارمة؛ ظنًا منه أنها الترياق، في حين كانت هي السمّ البطيء الذي ينخر الجسد السوري، ويفكك عُراه من الداخل.

حين تهاوى نظام الأسد في نهايات عام 2024، خُيّل للكثيرين أن صفحة الثقل التاريخي قد طُويت إلى غير رجعة، وسادت موجة من التفاؤل الحذر بأن الدولة قد استعادت عافيتها فور غياب الشخص، لكن الحقيقة المرة التي بدأت تتكشف هي أن ما سقط كان رأس الهرم فقط، أما الهرم البنيوي للدولة الأمنية، بعقليته المركزية المفرطة، فقد ظل متربصًا في الزوايا، يحاول إعادة تدوير نفسه بلغة عصرية، ووجوه مغايرة، دون أن يمس جوهر المنطق الإقصائي الذي حكم سوريا منذ عقود. وهنا تبرز المفارقة القاتلة في المرحلة الانتقالية السورية: لقد انهمك الفاعلون الجدد في الإجابة عن سؤال مَن يحكم ومَن يرث مفاتيح المركز، في حين تُرك السؤال الوجودي والأكثر إلحاحًا معلقًا في مهب الريح: كيف تُحكم سوريا؟ ولصالح مَن؟ إن الانتقال الذي لا يبدأ من مراجعة جذرية لشكل الدولة، وتوزيع السلطة، هو في الحقيقة ليس انتقالًا؛ بل هو مجرد تبديل نوبات في غرفة التحكم المركزية نفسها.

إن الإطار الانتقالي الذي تبلور على أنقاض الماضي حمل شعارات براقة عن القطيعة الجذرية، وإلغاء الدستور القديم، وتفكيك أجهزة القمع، لكن خلف هذه القشرة الثورية بدأت ملامح إعادة إنتاج البنية نفسها تطل برأسها على نحو مقلق. رأينا سلطة تنفيذية تعيد تركيز الصلاحيات في يد قلة جديدة، وتمثيلًا سياسيًّا يفتقر إلى العمق الشعبي في الأقاليم، ومؤسسات تُهيكل من الأعلى إلى الأسفل دون أن تضرب جذورها في وجدان المجتمع المحلي. لم تكن مقاطعة المكونات الأساسية، أو التهميش الرمزي للمرأة والقوى المدنية الحية، مجرد أخطاء فنية في جداول المحاصصة؛ بل كانت مؤشرات سياسية عميقة تقول إن العقد الاجتماعي الجديد يُكتب مرة أخرى بغياب المواطنين لا بهم، وبمنطق الغلبة العسكرية لا التوافق الوطني. إن الدولة التي تُبنى دون مواطنيها هي دولة تُهيئ نفسها لجولة جديدة من الصراع فور أن تخبو نشوة التغيير الأولى؛ لأن العودة إلى تقديس المركزية في لحظة التحرر ليست مجرد تكرار لخطأ تاريخي؛ بل هي مخاطرة وجودية مضاعفة لا تدرك حجم التغيرات البنيوية التي طرأت على الإنسان السوري.

فالمجتمع السوري اليوم ليس مجتمع ما قبل 2011؛ إنه مجتمع مثخن بالتشظي، جراحه غائرة بمرارات الخيانة والعنف المفرط، والسلاح فيه منتشر خارج أي احتكار مشروع للدولة، والوعي بالحقوق المحلية وصل إلى نقطة اللا عودة. في سياق متفجر كهذا، لا تنتج المركزية الصارمة استقرارًا؛ بل تخلق بؤر توتر كامنة بانتظار لحظة الانفجار المقبل. كل مركز قوي يحاول اليوم مصادرة الصلاحيات في مجتمع متصدع، إنما يراكم في الحقيقة أسباب فشله الذاتي، فالسلطة التي تجمع كل الخيوط في يدها تصبح هي المسؤولة الوحيدة عن كل إخفاق، وتصبح هي الهدف الوحيد لكل غضب شعبي؛ مما يجعل الدولة خصمًا للمجتمع بدلًا من أن تكون خادمة له.

تخبرنا تجارب التاريخ السياسي الحديث، من أوروبا إلى شرق آسيا، أن الدول المتعددة إثنيًّا ودينيًّا وثقافيًّا، الخارجة من ركام الحروب الأهلية، أو استبداد الأنظمة الشمولية، لا تنجو بتعزيز قبضة المركز؛ بل بذكاء تقييده وتوزيعه. النماذج التي صمدت في وجه رياح التفكك لم تفعل ذلك لأنها امتلكت جيشًا مركزيًّا أقوى، أو إدارة أكثر بطشًا؛ بل لأنها منعت أي مركز من أن يصبح مطلقًا. في سويسرا، لم تُبنَ الدولة بفرض إرادة لغوية أو ثقافية من الأعلى؛ بل من خلال حكم جماعي ولا مركزية جذرية جعلت كل مكوّن يشعر أن الدولة مِلكه، وليست سيدًا يفرض عليه إرادته. وفي ألمانيا ما بعد النازية، لم تكن الفيدرالية خيارًا أكاديميًّا؛ بل ضرورة وجودية لحماية المجتمع من عودة الاستبداد، وحماية الدولة من اختطاف فئة واحدة لها. الولايات هناك لم تُضعف الدولة؛ بل منعتها من أن تتحول -مرة أخرى- إلى أداة قمع مركزية. حتى في الحالات الأشد تعقيدًا ودموية كما في البوسنة أو بلجيكا، لم يكن تقاسم الصلاحيات ترفًا سياسيًّا؛ بل الثمن الأدنى لمنع عودة العنف، وهذه النماذج ليست مثالية، لكنها حققت ما فشلت فيه الأنظمة المركزية الصلبة: إبقاء الدولة قائمة رغم التعدد.

سوريا نفسها ليست غريبة عن هذا الإدراك التاريخي؛ فدستور 1920 في بواكير الدولة الحديثة كان سباقًا في النص على ولايات ذات مجالس منتخبة وصلاحيات واسعة، قبل أن يُغتال ذلك الحلم بسكين الخوف المصطنع من التقسيم، وهو الخوف الذي استخدمته الأنظمة المتعاقبة لتبرير استبدادها. وخلال سنوات الحرب القاسية، أثبتت المجالس المحلية والإدارات الذاتية -رغم كل إخفاقاتها وتناقضاتها- حقيقة جوهرية: المجتمع السوري قادر على إدارة شؤونه عندما تُمنح له الأدوات والشرعية. المشكلة لم تكن يومًا في اللا مركزية؛ بل في غياب إطار وطني جامع ينظمها، وفي عقل مركزي تعامل مع التنوع بوصفه تهديدًا يجب سحقه، بدلًا من أن يراه فرصة لإعادة بناء الدولة من الأسفل إلى الأعلى. من هنا، لا يأتي الحديث عن تفكيك المركزية بوصفه شعارًا أيديولوجيًّا أو مطلبًا فئويًّا؛ بل شرط بقاء للدولة السورية نفسها. الحكم التشاركي القائم على التوازن ليس قطيعة مع فكرة الدولة؛ وإنما إنقاذ لها من منطق الغلبة الذي دمرها.

بناءً على هذا الاستقراء التاريخي والواقعي، يغدو لزامًا أن تتضمن الهندسة الدستورية لجمهورية سوريا الجديدة مبادئ عملية وقوية تمنع احتكار السلطة مستقبلًا. يجب أن يبدأ ذلك بتبني نظام المجلس الرئاسي الجماعي، بحيث يُلغى منصب الرئيس الفرد الذي يجمع كل الخيوط، ويُستعاض عنه بمجلس يمثل الأقاليم السورية الكبرى برئاسة دورية؛ ما يحول الرمز السيادي من شخص إلى مؤسسة، ويضمن أن القرارات المصيرية لا تُتخذ بجرّة قلم من فرد واحد. كما يجب أن يرتكز العقد الجديد على الفيدرالية الإدارية والسياسية، والاعتراف دستوريًّا بالأقاليم بوصفها كيانات قانونية لها برلماناتها المحلية، وحكوماتها المنتخبة، بحيث تنحصر السيادة المركزية في ملفات محددة، كالسياسة الخارجية، والدفاع، والعملة، في حين تُترك إدارة الحياة اليومية من تعليم، وصحة، وشرطة محلية، وتنمية اقتصادية، للأقاليم كصلاحيات حصرية.

ولتحصين هذا التوزيع، لا بد من إنشاء غرفة ثانية للبرلمان، تمثل الأقاليم (مجلس شيوخ)، تملك حق النقض (الفيتو) إزاء التشريعات التي تمس مصالح المناطق؛ لضمان ألا تفرض العاصمة إرادتها العددية على الأطراف. ويُتوج هذا كله بمحكمة دستورية عليا مستقلة، تكون هي الحَكم الفصل بين المركز والأقاليم، لا تُعيّن السلطة التنفيذية قضاتها، وتكون قراراتها ملزمة للجميع. إن حياد الدولة الأيديولوجي، ووقوفها على مسافة واحدة من كل الأديان والقوميات، مع فرض رقابة مدنية صارمة على المؤسسة العسكرية، وحظر تدخلها في السياسة، هي صمامات الأمان التي ستحول دون عودة الدكتاتورية بأي قناع جديد.

إن الفيدرالية، التي تُستخدَم اليوم فزاعة، هي في الحقيقة التتمة المنطقية والوحيدة القابلة للتطبيق. هي ليست تفكيكًا للدولة؛ بل إعادة تنظيمها دستورياً لتوزيع السلطة وحماية الوحدة في آن واحد. فلا فيدرالية ناجحة بلا مركز وطني فعال، ولا مركز مستقرًا بلا أقاليم راضية. الخطر الحقيقي ليس في تبني الفيدرالية؛ بل في إنكارها العبثي، ثم الاضطرار إلى فرضها لاحقًا كأمر واقع مشوه تحت ضغط السلاح أو التدخل الخارجي. سياسيًّا وإستراتيجيًّا، هذا النموذج هو الوحيد الذي يملك صلاحية المرور في البيئة الدولية الراهنة؛ فالعالم لم يعد مستعدًا للاستثمار في مركز جديد يعيد إنتاج الإقصاء والظلم؛ لأن ذلك يعني استمرار تدفق الأزمات. الحكم التشاركي يقدم الصيغة التي تطمئن الداخل لأنه يفتح باب المشاركة، وتطمئن الخارج لأنه يقلص أخطار الانفجار ويخلق شريكًا سياسيًّا مؤسسيًّا مستقرًا.

تتجاوز المسؤولية التاريخية للنخبة السورية اليوم مجرد نقد السلطة السابقة؛ إنها تكمن في فرض نقاش جاد بشأن نموذج حكم يمنع إعادة إنتاج الكارثة. إن الرهان في هذه اللحظة الانتقالية الفارقة ليس على مَن يجلس في القصر؛ بل على هدم أسوار القصر المعنوية التي فصلت بين الحاكم والمحكوم سبعين عامًا. هل سنبني دولة تُدار بمنطق الشراكة أم الغلبة؟ بمنطق العقد أم الخوف؟ بمنطق التوازن أم الاحتكار؟ إن تفكيك المركزية والانتقال نحو حكم تشاركي فيدرالي منضبط هو طوق النجاة الأخير لبقاء سوريا دولة موحدة وقابلة للحياة. الخطر الوحيد هو أن نضيع هذه اللحظة في صراعات السلطة، لنستيقظ بعد سنوات وقد أعدنا بناء الجدار نفسه بأسماء جديدة، لنتساءل بذهول مصطنع: لماذا لا تزال سوريا تنزف؟ إن الوقت ليس في صالح المترددين، والتاريخ لا يرحم الذين يبنون قصورهم فوق الرمال المتحركة للمركزية المطلقة، في حين تصرخ التجربة السورية بكل قسوة: لا يمكن حكم سوريا من شخص واحد، ولا من مدينة واحدة، ولا لصالح فئة واحدة؛ بل بالجميع، ولأجل الجميع، في إطار قانوني يحترم كل ذرة تراب في هذا الوطن.

الدولة السورية المنشودة يجب أن تكون دولة لجميع مواطنيها، حيث الدستور هو الذي يحمي الهويات، لا السلطة التي تتغير بتغير موازين القوى. إن الاستثمار في الحكم التشاركي هو الاستثمار الوحيد الذي سيجذب إعادة الإعمار؛ فالدكتاتورية هي مشروع عدم استقرار دائم، في حين أن الدولة الفيدرالية المؤسسية تخلق بيئة تنافسية وتنمية متوازنة. نحن أمام خيارين: إما المركزية المتعنتة التي ستقود بالضرورة إلى استمرار النزاعات والتقسيم الفعلي، وإما خيار الحكم التشاركي الذي يتطلب تضحية بالأوهام السلطوية لصالح البقاء الوطني. تفكيك المركزية ليس مؤامرة؛ بل هو فعل إنقاذ وضرورة وجودية لإعادة بناء سوريا من الأسفل، وجعل تنوعها مصدر قوة لا منبع حروب دائمًا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع