مقالات المركز

بين السياسة والأمن.. قراءة في زيارة وزيري الخارجية والدفاع السوريين إلى موسكو


  • 24 ديسمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: alikhbariah.com

وصل وزيرا الخارجية والمغتربين السوري أسعد حسن الشيباني ووزير الدفاع اللواء مرهف أبو قصرة إلى العاصمة الروسية موسكو، يوم الثلاثاء، 23 ديسمبر (كانون الأول) 2025، في زيارة رسمية تهدف إلى إجراء مباحثات مع المسؤولين الروس بشأن جملة من القضايا الثنائية والإقليمية. تأتي هذه الزيارة في خضم مرحلة جديدة تشهدها العلاقات السورية الروسية، التي اتسمت مؤخرًا بقدر أكبر من الانفتاح والتعاون مقارنة بالفترة السابقة التي شابها التوتر والخلافات.

تحول في العلاقات السورية الروسية

تشكل زيارة الوفد السوري الرفيع المستوى إلى موسكو أحدث حلقة في سلسلة من التحركات الدبلوماسية المتبادلة التي تعكس تحولًا إستراتيجيًّا في طبيعة العلاقات بين دمشق وموسكو؛ فمنذ سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد أواخر عام 2024، وتسلم إدارة سورية جديدة مقاليد الحكم في دمشق، اتجهت السياسة الخارجية السورية إلى تبني نهج أكثر انفتاحًا وبراغماتية في التعامل مع القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها روسيا. وكانت العلاقات بين الجانبين قد مرت بحالة من الفتور والتوجس في الفترة الانتقالية الأولى، على خلفية الدعم العسكري والسياسي الذي قدمته موسكو للنظام السابق خلال سنوات الحرب، بالإضافة إلى منحها الرئيس المخلوع الأسد حق اللجوء السياسي على أراضيها بعد خروجه من البلاد.

مع ذلك، سعى الطرفان خلال العام الماضي إلى ترميم الجسور وإعادة بناء الثقة تدريجيًّا، فقد أدركت القيادة الجديدة في دمشق أهمية الدور الروسي على الساحة الدولية السياسية، وفي منطقة الشرق الأوسط، كما رأت موسكو بدورها مصلحة في الحفاظ على نفوذها الإستراتيجي في سوريا رغم تغير القيادة. وبناءً عليه، بدأت مؤشرات الانفراج تظهر مع تبادل التصريحات الإيجابية، وإجراء اتصالات رفيعة المستوى بين الجانبين، ما مهد الطريق لسلسلة زيارات واجتماعات مهمة خلال عام 2025. كما حرصت موسكو في تلك الفترة على إظهار دعمها للسلطات السورية الجديدة عبر خطوات ملموسة، بينها إدانة بعض الضربات الإسرائيلية التي استهدفت الأراضي السورية بعد سقوط النظام السابق، في رسالة تؤكد وقوفها إلى جانب وحدة سوريا وسيادتها.

سلسلة زيارات دبلوماسية متبادلة

شهد عام 2025 تكثيفًا ملحوظًا في الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الروس والسوريين، في سياق سعي كل من دمشق وموسكو إلى إعادة ضبط بوصلة العلاقات بينهما على أسس جديدة.

في صورة أرشيفية من 31 يوليو (تموز) 2025، يظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وهو يصافح نظيره السوري أسعد الشيباني خلال مؤتمر صحفي مشترك في موسكو. شكل ذلك اللقاء أول اتصال رفيع المستوى بين موسكو ودمشق بعد سقوط نظام الأسد، ومهد الطريق لاستئناف الحوار بين البلدين؛ ففي يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، زار وفد روسي رفيع المستوى دمشق والتقى مسؤولين في الحكومة السورية الجديدة، في أول تواصل مباشر على هذا المستوى بعد التغيير السياسي في سوريا. وفي الشهر التالي، جرى اتصال هاتفي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوري أحمد الشرع، وصفه بيان الكرملين آنذاك بأنه كان “بنّاءً وجوهريًّا”، حيث أكد الجانبان رغبتهما في استمرار التواصل وتطوير التعاون في المرحلة المقبلة.

وتوالت الخطوات في هذا الاتجاه؛ ففي 31 يوليو (تموز) 2025، وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى موسكو ليكون بذلك أول مسؤول سوري رفيع في الإدارة الجديدة يعقد محادثات رسمية في العاصمة الروسية؛ حينئذ عقد الشيباني اجتماعًا مطولًا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أكد في أعقابه أن سوريا تريد “روسيا إلى جانبنا” في هذه المرحلة المفصلية. ولم يخفِ الوزير السوري وجود تعقيدات ناتجة عن إرث السنوات الماضية، لكنه شدد على أن الفترة الحالية تمثل فرصة لبناء سوريا جديدة وموحدة بدعم من الأصدقاء، وعلى رأسهم  روسيا بوصفها دولة مهمة في المنطقة والعالم، ومع ضرورة أن يقوم هذا التعاون على أسس “الاحترام المتبادل” بين الطرفين. رحّب لافروف علنًا بمسار السياسة السورية الجديد آنذاك، مشيدًا بما أسماه “الخطوة الإستراتيجية” التي اتخذتها دمشق بإطلاق حوار مع موسكو. كما أعلن الوزير الروسي استعداد بلاده لدعم وحدة سوريا وسيادتها، وتقديم كل مساعدة ممكنة في جهود إعادة الإعمار ما بعد الحرب، جنبًا إلى جنب مع الاستمرار في التنسيق الأمني لضمان سلامة الجنود والمنشآت الروسية الموجودة على الأراضي السورية. يُذكر في هذا السياق أن لموسكو وجودًا عسكريًّا طويل الأمد في سوريا، يتمثل في قاعدة طرطوس البحرية على البحر المتوسط وقاعدة حميميم الجوية في الساحل السوري، اللتين تعتبرهما روسيا مرتكزًا مهمًّا لنفوذها الإقليمي.

وفي منتصف أكتوبر (تشرين الأول) 2025، قام الرئيس السوري أحمد الشرع بأول زيارة رسمية له إلى موسكو منذ توليه منصبه، والتقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تلك الزيارة، التي وصفت بالتاريخية، جاءت تتويجًا لمسار التقارب المتدرج بين القيادتين خلال الشهور التي تلت تغيير السلطة في دمشق، وناقش الشرع مع بوتين حينذاك عدة ملفات حساسة، من أبرزها مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا وسبل تنظيمه، وملف إعادة الإعمار، فضلًا عن مسألة محاسبة رموز النظام السابق. وقد أكدت مصادر دبلوماسية أن الرئيس السوري طلب رسميًّا من الجانب الروسي التعاون في تسليم الرئيس السابق بشار الأسد للمحاكمة أمام القضاء السوري عن الجرائم المتهم بارتكابها خلال الحرب، وهو طلب قوبل بتحفظ من موسكو التي منحت الأسد اللجوء، لكنه لم يحل دون استمرار المحادثات البناءة بين الجانبين.

أجندة الزيارة الحالية وأبرز الملفات المطروحة

في ضوء هذا الزخم الدبلوماسي المتصاعد، تأتي الزيارة الحالية لوزيري الخارجية والدفاع السوريين إلى موسكو كخطوة إضافية نحو ترسيخ مسار الشراكة الإستراتيجية الناشئة بين البلدين. وبحسب بيان صدر عن إدارة الإعلام في وزارة الخارجية السورية، فإن الوفد الذي وصل إلى موسكو يضم أيضًا عددًا من كبار المسؤولين الأمنيين والاستخباراتيين، ما يدل على أن جدول الأعمال لن يقتصر على الشق السياسي والدبلوماسي فحسب، بل سيتناول كذلك قضايا التعاون الأمني والعسكري. ومن المتوقع أن تشمل المباحثات بين الجانبين مناقشة التنسيق العسكري المستقبلي بين القوات المسلحة السورية والروسية، خاصة في مجال متابعة مكافحة ما تبقى من فلول التنظيمات الإرهابية، وضبط الحدود ومراكز النفوذ على الأرض، لضمان استتباب الأمن والاستقرار في عموم سوريا.

كذلك يُرجح أن يتطرق الجانبان إلى مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا؛ فرغم تغير المشهد السياسي في دمشق، استمر تمركز القوات الروسية في قواعدها الساحلية بموجب التفاهمات السابقة، لكن الحكومة السورية الجديدة شكّلت لجنة خاصة لمراجعة جميع الاتفاقيات المبرمة في عهد النظام السابق مع الجانب الروسي. ويأتي على رأس هذه الملفات اتفاقيات استخدام المنشآت العسكرية، حيث تسعى دمشق إلى صياغة إطار جديد يضمن احترام سيادتها الكاملة، مع الحفاظ على مستوى مقبول من الشراكة العسكرية مع موسكو. ومن المنتظر أن يبحث وزير الدفاع السوري اللواء مرهف أبو قصرة مع نظيره الروسي آليات تطوير التعاون الدفاعي، ومنها برامج تدريب الجيش السوري وإعادة تأهيله، وتحديث الترسانة العسكرية؛ نظرًا إلى اعتماد القوات السورية التقليدي على الأسلحة الروسية، وتطلعها إلى رفع كفاءتها القتالية بعد سنوات الحرب.

وفي الشق الاقتصادي وإعادة الإعمار، تحمل زيارة الوفد السوري إلى موسكو أهمية خاصة تتجاوز البروتوكوليات السياسية؛ إذ تسعى دمشق إلى الحصول على دعم موسكو في دفع عجلة إعادة البناء في المناطق المدمرة والبنية التحتية المنهكة. ومن شأن روسيا أن تكون شريكًا رئيسًا في هذا المضمار بسبب إمكاناتها الاقتصادية وخبراتها التقنية، فضلًا عن رغبتها في الاستفادة من الفرص الاستثمارية داخل سوريا. ومن المتوقع أن يبحث الطرفان سبل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية والاستثمارات الروسية إلى السوق السورية، ومنها إزالة العقبات البيروقراطية، وتبسيط الإجراءات أمام الشركات الروسية الراغبة في العمل في سوريا. كما قد يتطرقان إلى موضوع تزويد سوريا بمزيد من شحنات الطاقة والقمح والمواد الأساسية الروسية، للمساعدة في تخفيف حدة الأزمات المعيشية التي يواجهها السوريون في مرحلة التعافي.

وعلى صعيد العدالة الانتقالية، يُنتظر أن تطلب دمشق مجددًا تفهمًا ودعمًا روسيًّا للجهود التي تبذلها في سبيل طي صفحة الماضي الأليم، فقد أنشأت الحكومة السورية الجديدة هيئة مختصة لمتابعة ملف الانتهاكات وجرائم الحرب التي ارتُكبت خلال الصراع؛ بهدف إنصاف الضحايا، ومحاسبة المسؤولين ضمن إطار قانوني سوري يراعي المعايير الدولية. وفي هذا السياق، تأمل دمشق أن تساعدها موسكو، إما من خلال عدم توفير ملاذ آمن لأي شخصيات مدانة فارّة، وإما عن طريق ممارسة نفوذها الدولي لمنع تسييس هذا الملف بما يعرقل المصالحة الوطنية. ومع أن موسكو تتجنب الخوض علنًا في تفاصيل قضية محاسبة الأسد وأركان حكمه السابقين، تفيد مؤشرات بأنها تدرك أهمية هذا الملف للسوريين، وتسعى إلى الموازنة بين حفظ دورها كحليف تاريخي للنظام السابق وبناء جسور الثقة مع الحكومة الحالية.

تحديات وآفاق مستقبلية

على الرغم من المناخ الإيجابي العام الذي يظلل التقارب السوري الروسي الراهن، هناك جملة من التحديات التي تلوح في الأفق وقد تؤثر في مسار العلاقة بين البلدين؛ فمن جهة، لا تزال ذاكرة الصراع المرير حاضرة في وجدان قطاعات عريضة من السوريين، الذين عانوا تبعات الحرب الطويلة، وسياسات نظام الأسد وما رافقها من تدخلات عسكرية خارجية. ويبرز هنا تساؤل مشروع عن حدود الثقة الشعبية بالدور الروسي في سوريا الجديدة ما بعد الاسد، لا سيما أن موسكو كانت الداعم الأبرز للنظام السابق، واضطلعت قواتها بدور مباشر في الحرب في مناطق سورية مختلفة. وربما تجد القيادة السورية الحالية نفسها مطالبة بأخذ هذه الحساسية في الحسبان، عبر طمأنة الشارع بأن الشراكة مع روسيا لن تكون على حساب السيادة الوطنية، أو العدالة التي ينشدها الشعب.

من جهة أخرى، لدى روسيا أيضًا حسابات معقدة؛ فهي وإن كانت حريصة على عدم خسارة نفوذها ومصالحها في سوريا بعد تغيير النظام، فإنها في المقابل لن تقدم دعمها مجانًا. قد تطلب موسكو مقابل مساندتها السياسية والاقتصادية ضمانات طويلة الأمد تكفل لها استمرار حضورها العسكري والاقتصادي في سوريا ضمن إطار قانوني مقبول. كما أن الكرملين ينظر إلى سوريا ضمن لوحة أوسع لصراعه الجيوسياسي مع الغرب على النفوذ في الشرق الأوسط. وفي ظل استمرار التوتر بين روسيا والدول الغربية في ملفات دولية أخرى، قد ترى القيادة الروسية في توطيد العلاقة مع دمشق ورقة إستراتيجية لتعزيز موقعها في المنطقة، وإظهار أنها لا تزال لاعبًا لا غنى عنه في حل أزمات الشرق الأوسط.

إقليميًّا، تشهد سوريا الجديدة دعمًا وانفتاحًا من أطراف عدة كانت في صف المعارضة خلال سنوات الحرب، مثل تركيا وقطر ودول عربية وغربية أخرى. ومع أن هذا الدعم يشكل رصيدًا إيجابيًّا لدمشق في عملية إعادة البناء وترميم علاقاتها الخارجية، فإنه يفرض عليها في الوقت نفسه سياسة توازن دقيقة حتى لا تبدو منحازة بالكامل إلى طرف ضد آخر. ومن هنا، فإن نجاح الزيارة الحالية، وتحقيق تفاهمات مثمرة مع موسكو، سيعزز قدرة سوريا على المناورة الدبلوماسية، والاستفادة من جميع العروض الدولية المقدمة لمساعدتها، من غير ارتهان لإرادة طرف واحد.

الاستنتاجات

تعكس زيارة وزيري الخارجية والدفاع السوريين إلى موسكو جدية التوجه السوري نحو إرساء أسس شراكة إستراتيجية مع روسيا بعد سنوات الاضطراب. وإذا ما تكللت هذه المباحثات بالنجاح وتمخضت عنها خطوات عملية في ملفات التعاون العسكري والاقتصادي، وتسوية إرث الماضي، فسوف تكون دمشق قد وضعت لبنة إضافية في طريق استعادة عافيتها واستقرارها بمؤازرة حليف دولي قوي دون الوقوع في شرك التبعية. أما إذا واجهت بعض الملفات العالقة صعوبات تتعلق بتباين المصالح، أو بحساسيات سيادية، فسيبقى المجال مفتوحًا أمام مزيد من الحوار والصبر الإستراتيجي بين الجانبين، على اعتبار أن ما يجمعهما من مصالح في سوريا المستقبل يفوق بكثير ما قد يفرقهما.

وهكذا، تقف موسكو ودمشق اليوم على أعتاب فصل جديد في علاقتهما الثنائية؛ فصل يأمل الجانبان أن يقوم على التعاون البنّاء والمصالح المشتركة، وأن ينعكس إيجابًا على الشعب السوري الذي أنهكته حرب السنوات الطويلة، ويتوق إلى السلام والتنمية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع