
سوف أنطلق في تحليلي للمشهد الأمريكي الراهن في الحرب الأوكرانية في السطور التالية من هذا المقال من فرضية مركزية يطرحها المفكر الاقتصادي الأمريكي الكبير بول كروغمان في فيديو طويل شاهدته في يوتيوب يوم 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.
كروغمان يتحدث بوضوح غير معتاد في الخطاب الأمريكي السائد بشأن دور واشنطن في الحرب الأوكرانية، وأهم ما فهمته من فرضيته أن السياسة الخارجية الأمريكية الآن لم تعد تدار بمنطق القوة؛ ولكن بسقف القدرة المالية. وهذه المقولة الجريئة لأستاذ اقتصاد أمريكي مشهور في جامعة نيويورك، وكاتب عمود دائم في “نيويورك تايمز”، تدفعنا إلى الاعتقاد بأن ما يقوله ليس مجرد طرح نظري؛ بل هو استنتاج قائم على مسار طويل من العجز، وتضخم الدين، وكلفة تمويل الحرب.
ولن أعتمد في تحليلي هنا على فيديو كروغمان فقط؛ ولكنني سأضيف إليه ما قرأته في بلومبيرغ، يوم 7 ديسمبر (كانون الأول)، وهو في الحقيقة ما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع، حيث تتقاطع فرضية كروغمان مع ما تنقله بلومبرغ من إعداد دوائر غربية، أوروبية تحديدًا لسيناريويهن لخروج الولايات المتحدة من الصراع.
كروغمان يقول لنا -بناءً على قراءته للوضع الاقتصادي الأمريكي الداخلي- إن أوكرانيا لم تعد تمثل لواشنطن ملفًا أمنيًا، ولكنها أصبحت عبئًا محاسبيًا مباشرًا داخل الخزانة الأمريكية.
ما أنفقته واشنطن على عملية أوكرانيا، منذ عام 2022، تجاوز -بحسب أرقام كروغمان- 170 مليار دولار، في وقت تخطت فيه خدمة الدين الأمريكي وحدها حاجز التريليون دولار سنويًا، مع عجز بنيوي يقيد أي إنفاق طويل الأمد خارج الحدود؛ وهنا نستطيع القول بكل ثقة إن أحد أعمدة الهيمنة الأمريكية التقليدية الممتدة عقودًا ينكسر، وأقصد به بالطبع القدرة الأمريكية غير المحدودة على تمويل الصراعات. هذا بالطبع إن افترضنا أو صدّقنا صحة ما يذكره كروغمان عن الوضع المالي للولايات المتحدة.
وانطلاقًا من هذا الفهم وفي هذا السياق يفقد الحديث عن الإرادة السياسية دلالته السابقة؛ فالمسألة في هذه الحالة لم تعد مرتبطة بمدى رغبة ترمب وواشنطن في الاستمرار في تمويل الحرب؛ بل بمدى قدرتها الفعلية على تحمل الكلفة، وهذا الاستنتاج يقودني إلى ما نقلته بلومبرغ، الأحد 7 ديسمبر (كانون الأول) 2025، عن إعداد دوائر غربية سيناريويهن لخروج الولايات المتحدة من الصراع، وهو ما لا يمكن فصله عن هذا التحول المالي.
السيناريو الأول هو انسحاب أمريكي كامل من الحرب، مع حظر استخدام السلاح الأمريكي من جانب أوكرانيا. وهذا السيناريو إن تحقق فهو يعني عمليًا شلل العمود الفقري العسكري لكييف، والأهم نقل عبء الصراع بالكامل إلى أوروبا.
السيناريو الثاني يفترض أن تقوم واشنطن بانسحاب مباشر، مع استمرار بيع السلاح عن طريق حلف الناتو، بمعنى تحويل الدور الأمريكي من طرف إستراتيجي ضامن في الصراع إلى مجرد مورد تجاري يبيع السلاح، ويجني الأموال.
والفارق بين المسارين ليس سياسيًا بالمعنى التقليدي كما يبدو من الطرح، ولكنه محاسبي تجاري اقتصادي بالدرجة الأولى؛ فالمسار الأول يهدف إلى اغلاق بند الانفاق كليًا، أما الثاني فيهدف إلى إبقاء الحرب خارج الميزانية الفيدرالية الأمريكية، وتحويلها إلى ملف تمويل أوروبي.
أين يلتقي كروغمان وبلومبيرغ؟ عند دمج طرح بول كروغمان مع تسريبات بلومبيرغ تتضح لنا الصورة الكلية، فكروغمان يشرح لنا في الفيديو الذي أستند إليه في تحليلي لماذا لم تعد الحرب قابلة للتمويل أمريكيًا، وبلومبيرغ توضح لنا كيف سيُترجم هذا العجز الأمريكي سياسيًا.
إن ما يقدم إعلاميًا في الوقت الحالي على أنه نقاش إستراتيجي داخل البيت الأبيض بشأن مناسبة أو عدم مناسبة الاستمرار في دعم الحرب، هو في جوهره نقاش بين المحاسبين الأمريكيين، محاسبي الدولة الأمريكية، في رأيي. والسؤال الحقيقي الموضوع أمامهم على الطاولة هو: أي السيناريوهين أقل كلفة؟ وأيهما يؤجل الانفجار المالي إلى ما بعد جولة انتخابات التجديد النصفي التي ستجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026.
لكن أين موسكو والكرملين وبوتين من كل هذه السيناريوهات والفرضيات؟ هل يعرف بها بوتين؟ وهل تراهن موسكو والكرملين على الاستنزاف الاقتصادي رهانًا إستراتيجيًا؟
القراءة من موسكو، حسب فهمي الشخصي بالطبع، تقول إن الكرملين وبوتين لا يقرآن هذا التحول الأمريكي، الذي يمليه الوضع المالي، بوصفه انتصارًا سياسيًا مباشرًا، فهناك إدراك أن ذلك تحقق تدريجيًا بناء على الرهان الروسي المعكوس على الاستنزاف الاقتصادي للغرب، وللولايات المتحدة في المقام الأول؛ فموسكو لم تبنِ رؤيتها لحسم الصراع، الذي تعتقد اعتقادًا جازمًا لا شك فيه أنه مع الغرب، وأن أوكرانيا ليست إلا أداة من أدوات الغرب، أقول لم تبنِ رؤيتها على هزيمة عسكرية أمريكية، ولكن على إرهاق النموذج الغربي القائم على التوسع المالي غير المغطى، وعلى تضخم الديون السيادية، وعلى الاعتماد المفرط على الاقتراض، والأدهى على تحميل الأجيال القادمة كلفة حروب الحاضر، في حين أنه في المقابل، وبعدما تعلم الروس الدرس من تفكك الاتحاد السوفيتي، وتجربة التسعينيات المريرة والمؤلمة التي لا يزال ألمها محسوسًا في الحاضر، يعتمد الاقتصاد الروسي نموذجًا أقل ارتباطًا بالأسواق المالية الغربية، وأقل حساسية لتقلبات الديون السيادية.
والحرب هنا -في رأيي- تصبح أيضا صراعًا بين نموذجين ماليين، بقدر ما هي صراع جيوسياسي جيوبوليتيكي.
وإذا انتقلت إلى الحديث عن أخطر ما في سيناريوهات بلومبيرغ، فهو أنها تحول أوروبا من شريك سياسي إلى ممول رئيس بدلًا من واشنطن التي كانت هي الممول طوال فترة حكم بايدن، حتى الأشهر الأولى من حكم ترمب، ولا تزال جزئيًا.
وعلينا أن نذكر حقيقة تؤكدها الأرقام الأوروبية، وهي أن حجم ما تحتاج إليه أوكرانيا سنويًا يتجاوز بمرات قدرات الميزانيات الأوروبية المفردة بالطبع، بل حتى ما يمكن وصفه بالقدرة الجمعية للاتحاد الأوروبي؛ ومن هنا نفهم حالة الهلع والارتباك الأوروبي من كل خطوات ترمب، والهرولة المتكررة إلى واشنطن بهدف تأجيل لحظة الحقيقة، أي حين يحين موعد القرار الأمريكي، الذي بلا شك سيأتي.
وفي حالة تحقق أحد السيناريوهين، تكون أوروبا أمام خيارين أحلاهما مر؛ أولهما الاستمرار في حرب بموارد غير كافية، أو سوق مفتوحة بلا سقف لصناعة السلاح الأمريكية. وترمب في كل هذه العملية لا يظهر كشخصية انتخابية؛ ولكن كتجسيد سياسي فج لمعركة الأرقام.
ترمب -كما يعرف كل العالم- لا ينطلق من خطاب القيم، الذي يتخفى الأوروبيون وراء رايته، ولكنه رجل واقعي ينطلق من دفتر الحسابات، فيقول: الحلفاء لا يدفعون، والحرب لا تعود علينا بفائدة وعائد، والعجز عندنا يتضخم.
وإذا عدت هنا إلى منطق كروغمان، فبإمكاني القول إن سياسة ترمب المحتملة تجاه أوكرانيا تصبح ترجمة سياسية لضغط مالي بنيوي أمريكي، وليس لرغبة داخلية لدى الرئيس الأمريكي لإحلال السلام بسبب تألمه لمقتل الشباب السلافي، الروس والأوكران، بالآلاف أسبوعيًا، كما كان يكرر دائمًا؛ لذلك فأي تسوية قد يدفع بها ترمب لن تكون حلًا عادلًا؛ وإنما إغلاق مكلف لملف مكلف.
وهنا لا بد من مراعاة الموضوعية العلمية، حسب فهمي، إن نقدم تصحيحًا مفاهيميًا، بمعنى أن واشنطن لا تتخلى عن أوروبا وأوكرانيا، ولكنها تعيد التموضع ماليًا. فالولايات المتحدة لا تنسحب لأنها ضعفت سياسيًا، فهذا منافٍ للواقع، ولكنها تنسحب لأنها لم تعد قادرة على تمويل مستوى النفوذ الأمريكي نفسه.
أوضح أكثر، نحن لا نشهد الآن عملية انهيار للهيمنة الأمريكية دفعة واحدة كما يقال، بل ما نشهده هو إعادة تقليص قسرية لنطاق الالتزامات بما يتناسب مع القدرة المالية الحالية.
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: ما الذي يعنيه ذلك لمسار الحرب في أوكرانيا؟ والجواب بسيط، فالنتائج العملية لهذا التحول هي ثلاث؛ أولاها أن الدعم الأمريكي لن يعود إلى مستوياته السابقة، وهذا بات ملحوظا الآن. وثانيًا أن أوروبا ستتحمل العبء الأكبر من تكلفة الحرب إن أصرت على استمرارها، وهذا يبدو أيضًا واضحًا من تصرفات الأوروبيين. وثالثًا أن التسوية سوف تدخل التداول بوصفها خيارًا اضطراريًا لا سياسيًا للأمريكيين ثم للأوربيين.
وختامًا أقول، حتى لا ينخدع الناس بأمل متوهم، هذه ليست نهاية الحرب في أوكرانيا، ولكنها -على الأرجح- نهاية مرحلة الحرب الأمريكية المفتوحة ماليًا، وما بعدها سيكون صراعًا أقل صخبًا من الناحية العسكرية، وأشد قسوة اقتصاديًا، وأعمق أثرًا في بنية الأمن الأوروبي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير