أبحاث ودراسات

الإستراتيجية الوطنية الروسية حتى عام 2036.. مرحلة جديدة لبناء الدولة


  • 30 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aljazeera

وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 مرسومًا رئاسيًا باعتماد إستراتيجية جديدة للسياسة الوطنية الروسية حتى عام 2036. تأتي هذه الخطوة تتويجًا منطقيًا لمسار انطلق مع الإستراتيجية السابقة لعام 2012 (التي امتدّ أفقها حتى 2025)، لكنها تمثل أيضًا تشديدًا وترسيخًا لهذا المسار في ظل الظروف الجديدة. يشير اختيار عام 2036 موعدًا مستهدفًا إلى رؤية طويلة المدى ترتبط بالدورات السياسية الممتدة في روسيا؛ فهو أفق زمني يتزامن رمزيًا مع نهاية العقد المقبل، ومع مرحلة قد تكون حاسمة في القيادة السياسية للبلاد؛ وبذلك يعكس التخطيط حتى 2036 طموح الكرملين لوضع أسس أيديولوجية وإدارية لضمان استمرارية النهج الوطني طوال المدى المنظور، بالتوازي مع ما يعدّه صانعو القرار “مرحلة جديدة من بناء الدولة”، وتعزيز تماسكها الداخلي على المدى الطويل.

في هذه المقدمة، يجدر التذكير بأن الإستراتيجية الوطنية السابقة (الصادرة في 2012) اعتُبرت ناجحة رسميًا في تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتعزيز وحدة “الشعب المتعدِّد القوميات” الروسي. الآن، مع الإستراتيجية المحدثة حتى 2036، تسعى القيادة الروسية إلى الانتقال إلى مستوى جديد من التأطير الوطني أكثر صرامة وشمولًا، يأخذ في الحسبان التحولات الجيوسياسية الأخيرة، والتحديات الداخلية والخارجية المستجدة. وتمثّل هذه الإستراتيجية المعلنة استمرارًا متشددًا لمسار ترسيخ الهوية الوطنية الموحَّدة، مع إضفاء طابع أيديولوجي أوضح على مفهوم الوحدة الوطنية الروسية.

تفكيك الجوهر الأيديولوجي للإستراتيجية

ترتكز الإستراتيجية الجديدة على جوهر أيديولوجي واضح المعالم يحدد رؤيتها لطبيعة الأمة الروسية وأسس تماسكها. ويمكن تمييز ثلاثة مفاهيم محورية في هذا السياق:

مفهوم “الوحدة المدنية” و”الرمز الثقافي المشترك”: تعرِّف الاستراتيجية الأمة الروسية بأنها أمة مدنية قبل كل شيء، قوامها وحدة جميع مواطني روسيا، بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية. وتشدد الوثيقة على مفهوم “الوحدة المدنية للمجتمع الروسي” بوصفه حجر الأساس للبناء الوطني. يُصوَّر المجتمع الروسي على أنه موحَّد برمز ثقافي مشترك -أي منظومة من القيم والسمات الثقافية المشتركة- يشكِّل نواة الهوية الوطنية. وبينما تعترف الإستراتيجية بالتعددية الإثنية والثقافية لروسيا (بل تعد بالحفاظ على “التنوع الإثني واللغوي” في البلاد)، فإنها في الوقت نفسه تميل إلى إعادة تركيز الهوية الوطنية على الثقافة الروسية ولغة الدولة الروسية بوصفهما “المكوّن المحوري” لهذه الهوية. بعبارة أخرى، تعلن الدولة صراحةً أن اللغة الروسية وثقافتها التقليدية هما العمود الفقري للوحدة الوطنية (وقد وصفت اللغة الروسية بأنها لغة “مكوِّنة للدولة” في الإستراتيجية). هذا يمثل تحولًا دقيقًا في لهجة الخطاب الرسمي: من التأكيد السابق على مساواة جميع الثقافات في إطار “أسرة الشعوب الروسية”، إلى تأكيد أكبر على وجود ثقافة جامعة مهيمنة تمثّل الإطار الذي تدور في فلكه سائر المكوّنات. يمكن قراءة ذلك على أنه ميل نحو استيعاب (أو حتى دمج) الأقليات ضمن الفضاء الثقافي الروسي العام، مع الإقرار النظري بأنها تظل محتفظة بخصوصيتها تحت ذلك السقف الواحد.

– “القيم الروحية والأخلاقية” بوصفها آلية دفاع أيديولوجية: أحد العناصر المركزية الأخرى في الإستراتيجية هو التشديد على القيم الروحية والأخلاقية التقليدية للمجتمع الروسي، واعتبارها حصنًا منيعًا في وجه التحديات الخارجية. تشير الوثيقة إلى ضرورة صون ما تسميه “القيم الروحية والأخلاقية والثقافية-التاريخية” الروسية في مواجهة تأثيرات العولمة. يُصوَّر التمسك بـ”القيم التقليدية” على أنه سلاح أيديولوجي وقائي ضد ما تراها موسكو أخطارًا خارجية، مثل “التآكل القيمي”، و”فرض قيم غريبة” على المجتمع الروسي. وبهذا المعنى، يمكن النظر إلى هذه الإستراتيجية على أنها محاولة لصياغة أيديولوجية دولة جديدة قوامها تعزيز الهوية المحافظة:  تأكيد الإيمان بالموروث الثقافي والقيمي الروسي (بما في ذلك الدين والتقاليد المجتمعية والعائلية) في مقابل التأثيرات الليبرالية الغربية التي تُصوَّر على أنها مهدِّدة للنسيج الأخلاقي للمجتمع. لقد أصبحت عبارات مثل “القيم الروحية والنَّفسية”، و”الأسس الأخلاقية التقليدية”، ثابتة متكررة في الخطاب الرسمي الروسي خلال السنوات الأخيرة، وكُرِّسَت سابقًا في وثائق إستراتيجية (مثل وثيقة أسس السياسة الحكومية لترسيخ القيم الروحية والأخلاقية التقليدية التي اعتمدت عام 2022). الآن، تُدرج هذه القيم ضمن صلب سياسة الهوية الوطنية، في إشارة واضحة إلى أن السلطة تسعى إلى بلورة إطار أيديولوجي متكامل للدولة يستند إلى المحافظة الاجتماعية والثقافية كخط دفاع ضد ما تعدّه اختراقًا فكريًا معاديًا من الخارج.

العدو بوصفه عامل توحيد للمجتمع: عنصر أيديولوجي ثالث بارز في الإستراتيجية هو استعمال خطاب “التهديد الخارجي” وسيلةً لتعزيز اللحمة الداخلية. تصوغ الوثيقة سردية أن روسيا تتعرض لحملة استهداف خارجي تستلزم رص الصفوف داخليًا، إذ تذكر صراحةً تصاعد “الروسوفوبيا” (معاداة الروس) على المستوى العالمي، وتتحدث عن وجود “دول غير صديقة” تبذل جهودًا لزرع الشقاق في المجتمع الروسي. كما تحذّر من أن بعض المنظمات -ومنها منظمات غير حكومية داخل روسيا- “تروّج لمصالح دول أخرى”، وتسعى إلى زعزعة الاستقرار الداخلي. العدو الخارجي يخدم غرضًا سياسيًا واجتماعيًا تقليديًا: توحيد صفوف المجتمع بمختلف أطيافه من خلال استثارة الشعور بالخطر المشترك؛ فوجود خصم خارجي يُلقى عليه باللوم في مشكلات البلاد يؤدي إلى تحويل الأنظار عن التناقضات الداخلية، وتخفيف حدّة الاختلافات بين الفئات المتنوعة عن طريق توجيه التركيز نحو التهديد الخارجي المفترض. تستخدم الإستراتيجية هذا المفهوم لتبرير حاجة البلاد إلى التضامن الوطني واليقظة الأيديولوجية؛ فمواجهة “المؤامرات الغربية”، و”الروسوفوبيا” تصبح عاملًا جامعًا يبرر سياسات أكثر صرامة، ويشرعن قيودًا أكبر على المعارضين الداخليين تحت شعار مكافحة التأثيرات التخريبية. من منظور علم السياسة، هذا التوجه يُعد مثالًا على “التعبئة على أسس عدائية”، أي بناء هوية وطنية متماسكة من خلال تعريف ما تعارضه ومن تراه عدوًا، أكثر مما تستند إلى سردية إيجابية خالصة عمّا تمثله هي في ذاتها. وهكذا، تشكّل مفاهيم الخطر الخارجي (سواء تمثل في “الهيمنة الغربية”، أو “النازية الجديدة”، أو غيرها) مكوّنًا وظيفيًا في أيديولوجية الدولة الروسية الراهنة، حيث تقوم بدور اللاصق الذي يربط المكوّنات المختلفة ضمن هوية واحدة من خلال استحضار التهديد والمظلومية التاريخية والمعاصرة.

التحديات والتهديدات الرئيسة بحسب الوثيقة

تقرُّ الإستراتيجية الجديدة بجملة من التحديات والتهديدات التي ترى أنها تواجه السياسة الوطنية الروسية. ويمكن تصنيف هذه التهديدات إلى ثلاث فئات أساسية: داخلية، وأيديولوجية، ومعلوماتية.

– التهديدات الداخلية (الديمغرافية والاجتماعية): تشير الإستراتيجية بوضوح إلى بعض الظواهر الداخلية التي تنظر إليها بوصفها أخطارًا محتملة على تماسك الأمة، أبرزها ما وُصف بالتركيز العالي للجماعات الإثنية في بعض المناطق على خلفية الهجرة. هذه العبارة توحي بالقلق من تكوُّن تجمعات سكانية كبيرة من المهاجرين أو الأقليات في مناطق معينة (سواء في المدن الكبرى، أو في أقاليم محددة)، بما قد يخلق جيوبًا منعزلة ثقافيًا عن التيار العام. عمليًا، يمكن أن يُترجم ذلك إلى توجه نحو سياسات استيعاب أكثر حزمًا: ربما تشديد الرقابة على تدفقات الهجرة الداخلية والخارجية، وضبط توزيع المهاجرين جغرافيًا لمنع تشكّل “مجتمعات موازية”، وكذلك تكثيف جهود دمج القادمين الجدد في إطار الثقافة الروسية السائدة. كما قد يُنبئ هذا التوجه عن نهج أقل تسامحًا مع الخصوصيات الإقليمية إذا اعتُبرت مفرطة؛ فمثلًا، قد تقلق السلطات من تركز أبناء جنسية معينة في أحد أحياء موسكو، أو من هيمنة لغة محلية في جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن الاتحاد الروسي؛ لذا قد نشهد سياسات لضمان “الانصهار الوطني”، مثل فرض التعليم المكثّف للغة الروسية في جميع المناطق، والحد من استخدام لغات الأقليات في الحياة العامة والتعليم لصالح اللغة الرسمية، أو حتى تفكيك أي كيانات ترى موسكو أنها ذات ولاءات عابرة للحدود (كالجاليات المهاجرة الكبيرة). في الوقت نفسه، تكشف اللهجة المستخدمة عن تصور أمني لظواهر اجتماعية كهذه؛ فبدلًا من التركيز على فوائد التنوع، تطغى النظرة التي ترى في “الكثافة الإثنية العالية” تحديًا للاستقرار يجب معالجته. هذا قد يعني انتقالًا نحو سياسات أقرب إلى الاستيعاب القسري أو المراقبة المشددة للمجتمعات الإثنية، وهو ما قد يثير مخاوف بشأن حقوق هذه الجماعات في الحفاظ على تراثها وهويتها الخاصة ضمن المجتمع الأوسع.

التهديدات الأيديولوجية والسياسية: تضع الإستراتيجية طيفًا واسعًا مما تسميه التحديات الأيديولوجية التي يجب مواجهتها، في مقدمتها يأتي خطر “طمس القيم”، أو “تآكل الهوية” نتيجة العولمة والانفتاح غير المنضبط. كذلك تُبرز الوثيقة الخطر المستمر للنزعات الانفصالية، والتطرف الديني والقومي داخل المجتمع. وتشير إلى “انتشار الأيديولوجيات المتطرفة تحت ستار الدين”، في إشارة خاصة إلى إمكانية تسلل تيارات متشددة (كالجماعات الإرهابية أو التكفيرية) إلى الأقليات الدينية. كما تعدّ النزعات القومية المتطرفة (سواء أكانت روسية شوفينية أم انفصالية إثنية) تهديدًا لوحدة الدولة. هذه التهديدات الأيديولوجية “ستُواجَه بوسائل تنفيذية وتشريعية” بلا شك؛ فقد ألمحت الإستراتيجية إلى تعزيز الإطار القانوني والتنظيمي لمنع تلك المظاهر ومكافحتها. ويمكن ربط ذلك بسلسلة القوانين التي شهدتها روسيا في الأعوام الأخيرة، مثل قوانين “العملاء الأجانب”، التي استُخدمت لوصم منظمات المجتمع المدني المستقلة ووسائل الإعلام غير الموالية، وكذلك قوانين “المنظمات غير المرغوب فيها” التي تحظر فعليًا أي منظمة دولية لا ترضى عنها السلطة. أيضًا توسعت تعريفات التطرف في القانون الروسي لتشمل نطاقًا عريضًا من الخطاب، مما يتيح تجريم أصوات المعارضة السياسية، أو النشطاء الحقوقيين، تحت ذريعة التصدي للتطرف أو الانفصال؛ ومن ثم فإن إدراج هذه البنود في الإستراتيجية يلمّح إلى مزيد من التشدد في تطبيق هذه القوانين، وربما سنّ تشريعات إضافية بهدف تضييق هامش التعددية الفكرية والسياسية.  كل ذلك يُغلَّف بخطاب حماية الأمة من التفكك القيمي، أو التفتيت الاجتماعي، وهو ما يوفر مظلة أيديولوجية تبرر إحكام الرقابة والسيطرة على المجال العام بحجة المحافظة على وحدة النسيج الوطني.

التهديدات المعلوماتية والثقافية: في جانب آخر لافت، تتطرّق الإستراتيجية إلى ما يمكن تسميته الأمن المعلوماتي- الثقافي؛ إذ تنتقد “استخدام الشباب المفرط للمفردات الأجنبية”، معتبرةً ذلك مظهرًا غير مرغوب يؤثر في الهوية اللغوية والثقافية. هذه النقطة تكشف عن قلق السلطات من هيمنة التأثير الثقافي الغربي (لا سيما عبر اللغة الإنجليزية) على الأجيال الصاعدة، سواء في مفردات الحياة اليومية، أو في المنتجات الثقافية والإعلامية. إنها جزء من مشهد أشمل تسعى فيه الدولة الروسية إلى ما يشبه “الاكتفاء الذاتي الثقافي والإعلامي”، أو بناء فضاء معلوماتي سيادي مغلق إلى حد كبير في وجه التأثيرات الخارجية “المضللة”. خلال السنوات الأخيرة، رأينا خطوات عدة في هذا الاتجاه: من تشريع يقيّد استعمال الكلمات الأجنبية في الإعلانات والأسماء الرسمية إن وُجدت مقابل روسية، إلى الرقابة المشددة على المحتوى الإلكتروني الأجنبي، ومحاولة إنشاء بدائل محلية لمنصات التواصل العالمية. إن حملة حماية اللغة الروسية من سيل الألفاظ الدخيلة ليست إلا وجهًا واحدًا لمساعي فرز الهوية الثقافية وعزلها عن العولمة. تُقدم الإستراتيجية هذا الأمر على أنه إجراء ضروري لصون “الفرادة الثقافية”،  ومنع “التغريب” الذي قد يؤدي -في رأيها- إلى ضياع “الكود الثقافي” الروسي الأصيل. وإلى جانب اللغة، يمكن وضع هذه الجهود في إطار بناء جدار ناعم حول الفضاء المعلوماتي في روسيا: تعزيز المنصات الإعلامية الوطنية، وفرض مزيد من السيطرة على الإنترنت ضمن مشروع “شبكة الإنترنت ذات السيادة”، وتشكيل رواية رسمية يلقى على عاتق المؤسسات التعليمية والإعلامية ترويجها بفاعلية للشباب؛ وبهذا تعكس الإستراتيجية ميلًا نحو الانكفاء الثقافي، وضبط التبادل الإعلامي مع العالم الخارجي، كجزء من سياستها الأوسع لتحقيق “سيادة معلوماتية” تحمي بها وعي المواطنين -لا سيما الأجيال الشابة- مما تصفه بالتأثيرات الأجنبية الهدامة.

المستهدفات حتى 2036.. طموحات مرتفعة أم واقع مصطنع؟

تضع الإستراتيجية الجديدة أهدافًا رقمية طموحة تسعى الحكومة إلى تحقيقها بحلول عام 2036 لقياس مدى نجاحها في مجال بناء الأمة وتعزيز الوحدة. من أبرز هذه المؤشرات المستهدفة:

– ارتفاع نسبة التقييمات الإيجابية للعلاقات بين القوميات إلى 85% من المواطنين، أي إن 85% من السكان ينبغي أن يعبّروا عن نظرة إيجابية تجاه حالة العلاقات بين الجماعات الإثنية المختلفة في روسيا عام 2036 (للمقارنة، تفيد البيانات الرسمية الحالية أن نحو ثلاثة أرباع الروس يقيمون حاليًا العلاقات بين القوميات تقييمًا إيجابيًا؛ ومن ثم فإن المطلوب هو رفع هذا المعدل بنحو 10 نقاط مئوية خلال العقد المقبل).

– وصول مستوى الهوية الوطنية الروسية الجامعة إلى 95%. يُقصد بذلك أن يشعر 95% من سكان روسيا بهوية مدنية روسية مشتركة تطغى على أي هويات فرعية أخرى (إثنية أو إقليمية). وبحسب الوثيقة، فإن هذا المؤشر كان مرتفعًا أصلًا في 2025 (نحو 92% من المواطنين تغلب لديهم الهوية الروسية الوطنية على غيرها)، لكن المستهدف هو الاقتراب أكثر ما يمكن من الإجماع والشمول شبه الكامل لهذه الهوية في صفوف الشعب بحلول 2036.

– ألا تقل نسبة من يقولون من المواطنين إنهم لا يواجهون أي تمييز قائم على أساس قومي أو لغوي عن 90%، أي خفض نسبة من يشعرون بتعرضهم للتمييز العرقي أو اللغوي إلى ما دون 10%. وتسعى الدولة بذلك إلى إظهار أن الأغلبية الساحقة من الروس ستكون بحلول 2036 راضية عن وضعها كمواطنين، دون إحساس بالإقصاء أو الظلم على خلفية الانتماء القومي، أو اللغة الأم.

هذه الأهداف الكمية البالغة الارتفاع تثير تساؤلات عن كيفية تحقيقها ومصداقيتها، فمن حيث المبدأ، يعد تحقيق وحدة شعورية بهذا الإجماع القريب من الكمال (90- 95%) أمرًا نادرًا في المجتمعات المتنوعة، خاصة تلك التي تضم أطيافًا واسعة من الأعراق واللغات والأديان كما هي الحال في روسيا. هنا يبرز سؤال جوهري: هل الوصول إلى هذه الأرقام سيكون نتاج تحسّن فعلي وجوهري في واقع العلاقات الإثنية، وفي شعور المواطنين بالعدالة والمساواة، أم سيكون ثمرة التحكم في الخطاب العام، وتوجيه الرأي الشعبي عن طريق أدوات الدولة المختلفة؟

ثمة سيناريوهان متباينان لتحقيق تلك المستهدفات:

أولًا- السيناريو الإيجابي الواقعي: أن تنجح الدولة فعلًا في تحسين ظروف العيش لكل المجموعات، وتتبنى سياسات عادلة تعزز الاندماج، وتحارب التمييز فعليًا على الأرض، مما سيؤدي طبيعيًا إلى ارتفاع هذه المؤشرات الاجتماعية. ويتطلب ذلك إصلاحات جدية في طريقة إدارة التنوع الإثني، ومعالجة أسباب الشعور بالتهميش لدى بعض الأقليات، وتجذير مبدأ المواطنة المتساوية في المؤسسات والمجتمع. لكن الإستراتيجية -برغم لهجة الدعم للتنوع الثقافي- تميل أكثر إلى رؤية صهر الجميع في بوتقة واحدة بدلًا من الاحتفاء بالتعددية، ما قد يتناقض مع النهج المطلوب لتحقيق الرضا الحقيقي لدى مختلف المكوّنات.

ثانيًا السيناريو الدعائي/ الإداري: أن تتحقق تلك الأرقام على الورق نتيجةً لإدارة الرأي العام، أي من خلال توجيه الأسئلة والاستطلاعات على نحو معين، ومن خلال تكثيف خطاب الدولة بحيث يصبح إبداء عدم الولاء للهوية الوطنية الموحدة، أو التشكيك في انسجام العلاقات بين القوميات، أمرًا مرفوضًا اجتماعيًا، وربما ملاحَقًا قانونيًا. في هذه الحالة، قد لا تعكس النتائج بالضرورة الواقع الميداني؛ بل قد تعكس واقعًا افتراضيًا مصممًا عن طريق آلة إعلامية دعائية، وضبط صارم لأي سردية مخالفة، فالسلطات قادرة على صياغة المشهد الإعلامي والبحثي بحيث تُظهر الاستطلاعات الرسمية دائمًا نسب رضا عالية. كما أن غياب أصوات معارضة، وتقييد حرية التعبير، يجعلان من الصعب رصد التمييز أو التحدث عنه علنًا، مما يؤدي إلى انطباع سطحي بأن كل شيء على ما يرام.

التاريخ الحديث لروسيا يشير إلى مزيج من النهجين، لكن الاتجاه الحالي يوحي بأن النهج الثاني (الإداري الدعائي) قد يكون الغالب؛ فارتفاع نسب الهوية الوطنية المعلنة من 86% في 2010 مثلًا إلى أكثر من 90% في 2025 تم بالتوازي مع تصاعد حملات التعبئة القومية في الإعلام الرسمي، ووصم المنتقدين بأنهم “غير وطنيين”. كذلك، فالانخفاض في التقارير عن التمييز لا يعني بالضرورة زوال الظاهرة؛ بل ربما يعني خوف الضحايا من التصريح بذلك، أو عدم وجود قنوات مستقلة ترصد الانتهاكات؛ لذا فمن المشروع توقُّع أن تحقق الدولة أهدافها الرقمية المعلنة -أو تعلن تحقيقها- عام 2036 من خلال منهجية “إدارة الإجماع” أكثر من اعتمادها على حلول جذرية لمشكلات التعددية. ولعل مقارنة هذه الأهداف بالبيانات الحالية تعطي إشارة: تقول المصادر الرسمية إن نحو 75% من الروس الآن يقيّمون العلاقات بين القوميات بإيجابية، وإن 92% لديهم شعور بالهوية المدنية الروسية. الفجوة إذن ليست كبيرة، ويمكن جسرها بالممارسة الإعلامية والتعبئة إلى حد بعيد، بيد أن التحدي الحقيقي يكمن في ما إذا كان ذلك سيعكس تماسكًا حقيقيًا ومجتمعًا صحيًا ومتصالحًا مع تنوعه، أم مجرد صورة مظهريّة للوحدة تخفي تحتها احتقانات مكبوتة قد تظهر للسطح في أوقات الأزمات.

الاستنتاجات

في المحصلة، ترسم إستراتيجية الدولة لسياسة القوميات حتى 2036 ملامح نموذج للأمة الروسية يختلف في سماته عن النماذج المعروفة في الدول الأخرى؛ فهو ليس نموذجًا  على الطريقة الأمريكية حيث تندمج كل الأعراق في هوية جديدة كليًا، وليس أيضًا التعددية الثقافية الأوروبية التي تشجع بقاء التنوع ضمن إطار المواطنة؛ بل تطرح موسكو نموذجًا هرميًا لهوية وطنية: قاعدته التعدد الإثني بالفعل، لكن قمّته تتجسد في نواة ثقافية روسية مهيمنة تعد هي الرابط والمعيار. يمكن وصف ذلك بأنه “أمة مدنية روسية” بخصوصية محلية؛ أي أمة مدنية نظريًا تشمل الجميع على قدم المساواة، ولكنها عمليًا مبنية على ثقافة الأغلبية (الروسية الروسية) ولغتها وقيمها كعمود فقري، فيما توجد بقية الهويات في المحيط ضمن حدود وضوابط مرسومة. إن الكرملين يسعى إلى خلق شعور وطني عام قوي يذوب معه الاختلاف، ولكن بدون أن يكون صهرًا اندماجيًا تامًا يؤدي إلى هوية جديدة مختلفة (فهي بالأخير هوية روسية تقليدية إلى حد بعيد)، وبدون أن يكون تعدديًا ليبراليًا يعطي استقلالية كبيرة للأقليات. إنه مشروع أمة “موحَّدة لكن غير متماثلة الأجزاء”، حيث الجميع روسي الجنسية، ومدعو ليكون روسي الهوية الحضارية، مع السماح ببعض التنوع الشكلي تحت السقف الواحد.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع