تاريخمقالات المركز

الفخ الأفغاني.. كيف دمّر قرار المكتب السياسي الاتحاد السوفيتي وحطّم جيلًا


  • 27 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: amu.tv

في نهاية عام 1979، اتخذ قادة الاتحاد السوفيتي قرارًا مصيريًا ظنّوه انتصارًا للأممية ومساعدة لحليف اشتراكي، لكنه تحول إلى مأزق تاريخي دام عقدًا كاملًا. دخل الجيش الأحمر أرض أفغانستان بسرية تحت جنح الظلام؛ ظنًا منه أن المهمة ستكون سريعة وحاسمة. لم يدرك المكتب السياسي حينذاك أنه بهذا القرار فتح أبواب فخ قاتل، سيستنزف قوة الاتحاد السوفيتي، ويحطم ثقة شعبه، بل سيسهم في تفكك إمبراطوريته العظمى بعد سنوات قليلة. كانت الأفكار المثالية عن “الواجب الأممي” تخفي وراءها خطأً إستراتيجيًّا فادحًا سيدفع ثمنه جيلٌ كامل.

القرار المشؤوم تدخل سوفيتي باسم الأممية

في ديسمبر (كانون الأول) 1979، ومع تصاعد الاضطرابات في أفغانستان بعد الانقلاب الشيوعي هناك، اجتمع المكتب السياسي السوفيتي في الكرملين ليبحث كيف يحافظ على حكم حلفائه في كابول. رأى القادة السوفيت آنذاك أنهم أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ إما ترك الحكومة الماركسية الأفغانية تنهار تحت ضغط التمرد الداخلي، وإما التدخل عسكريًّا لإنقاذها. تحت شعار “نصرة الشعوب الصديقة”، وبدعوى الالتزام بمعاهدة الصداقة والتعاون الموقعة مع أفغانستان، مال ميزان القرار نحو التدخل. اعتقد القادة، وعلى رأسهم ليونيد بريجنيف ورفاقه، أن إرسال قوات محدودة سيدعم الحكومة الأفغانية بسرعة، ويعيد الاستقرار خلال أشهر. كما سوّغوا الخطوة بأنها دفاع عن مكتسبات ثورة ثور الشيوعية في كابُل، ومنعٌ لامتداد نفوذ الغرب في خاصرة الاتحاد السوفيتي الجنوبية. لكن ما بدا لهم خطوة تكتيكية لتعزيز النفوذ الأممي، اتضح لاحقًا أنه قرار مشؤوم بني على استخفاف بتعقيدات أفغانستان، ووهم القدرة على حسم الأمور عسكريًّا بيسر.

فور شروع القوات السوفيتية في التدخل، أطيح بحفيظ الله أمين -الرئيس الأفغاني الذي لم تثق به موسكو- ونُصِّب الزعيم الشيوعي بابراك كارمل مكانه. ظن الكرملين أن تغيير القيادة سيكسب تدخلهم ترحيبًا شعبيًّا، لكن الواقع كان مغايرًا تمامًا؛ فالشعب الأفغاني، المحافظ والقبلي بغالبيته، لم ينظر إلى السوفيت على أنهم منقذون؛ بل محتلون أجانب يدنسون أرضه. وهكذا وجد الجيش الأحمر نفسه سريعًا في مواجهة تمرد واسع النطاق. وبينما اعتقد المخططون في موسكو أن العملية ستكون خاطفة ونظيفة، تحولت أفغانستان إلى مستنقع حرب جرّد الاتحاد السوفيتي من وهم السيطرة السهلة، وزجّ به في صراع ضارٍ لم يكن مستعدًا له نفسيًّا أو لوجستيًّا.

حرب تستنزف إمبراطورية

ما إن وطئت أقدام الجنود السوفيت جبال أفغانستان وهضابها الوعرة، حتى انزلقت القوات في حرب عصابات شرسة وطويلة الأمد. بدلًا من عملية عسكرية محدودة المدة، واجه الاتحاد السوفيتي تمردًا عنيدًا تدعمه عقيدة دينية قوية، وتسنده قوى دولية كبرى. وجد الجيش الأحمر نفسه يقاتل شعبًا بكامله تقريبًا؛ مقاتلون متطوعون من قرى أفغانستان ينضمون تحت راية الجهاد ضد “الملحدين”، ومدد عسكري ولوجستي يتدفق إلى المجاهدين من الولايات المتحدة، وباكستان، ودول أخرى. على امتداد سنوات الثمانينيات، تحولت الوديان والجبال الأفغانية إلى مسرح نزيف مستمر أنهك قوات واحد من أقوى جيوش العالم آنذاك. بدأ الجنود السوفيت يدركون أنهم غارقون في حرب بلا نهاية واضحة، يسيطرون فيها على المدن نهارًا لتعود وتتفلت منهم المناطق الريفية ليلًا.

استنزفت هذه الحرب الطويلة موارد الاتحاد السوفيتي على نحو لم يكن في الحسبان. أنفقت موسكو مليارات الروبلات على حملتها العسكرية، في وقت كانت تعاني فيه اقتصاديًّا ركودًا وتراجعًا في أسعار النفط عالميًّا. الطائرات والدبابات الحديثة التي دخلت أفغانستان لم تكن تقاتل جيوشًا نظامية، بل تواجه كمائن المتمردين وعبواتهم البدائية، ومع ذلك تعرضت لخسائر فادحة بفعل التضاريس الوعرة، وتكتيكات الكر والفر. سنوات الحرب استوجبت زيادة الإنفاق العسكري دائمًا؛ ما أثقل كاهل الاقتصاد السوفيتي المتعب أصلًا من سباق التسلح مع الغرب. إضافة إلى ذلك، تعرضت سمعة الاتحاد السوفيتي الدولية لضربة موجعة؛ فالدولة التي قدمت نفسها نصيرًا لحركات التحرر والأمم المستضعفة، بدت في أفغانستان قوة غازية تمارس القصف العشوائي، وتمطر القرى بالقنابل وتزرع الألغام في الأرض، مخلفة دمارًا ضخمًا ومعاناة بشرية كبيرة. لقد كانت مفارقة مؤلمة أن يُرتَكب كل هذا باسم الأممية والتضامن.

خسائر بشرية وجيل محطّم

دفعت البشرية ثمنًا باهظًا في أفغانستان. على مدى عشرة أعوام، قُتل عشرات الآلاف من الشبان السوفيت، أو جُرحوا، أو عادوا بإعاقات دائمة من تلك الحرب. معظمهم كانوا بالكاد قد بلغوا العشرين من العمر حين أرسلوا إلى جبال الهندوكوش البعيدة. انتشرت قصص التوابيت الزنك التي كانت تصل سرًا تحمل جثامين الجنود إلى قراهم ومدنهم في أنحاء الاتحاد السوفيتي. وفي ظل التعتيم الرسمي، بدأت الأمهات الثكالى وزوجات القتلى يتهامسن بشأن حقيقة ما يجري في أفغانستان. ظهرت بوادر التململ والألم في المجتمع السوفيتي؛ فالأرقام التي حاولت موسكو إخفاءها باتت معروفة ضمنًا؛ فالآلاف من شباب الأمة يُقتلون في حرب غامضة الهدف، وبعيدة عن حدود الوطن. وإلى جانب القتلى، عاد كثير من الناجين محملين بذكريات مرعبة وصدمات نفسية وإدمان المخدرات التي انتشرت بين الوحدات المنتشرة هناك. جيل كامل شعر بأنه تحطّم معنويًّا؛ إذ وجد الجنود العائدون أنفسهم ضحية إهمال حكومي، فلم يجدوا تكريمًا، أو دعمًا نفسيًّا كافيًا؛ بل وجدوا تجاهلًا وصمتًا كما لو أن حربهم لم تكن موجودة أصلًا.

هذه الخسائر البشرية الفادحة لم تكن مجرد أرقام، بل تركت أثرًا عميقًا في وجدان الشعب السوفيتي. تزعزعت الثقة بين الشعب وقيادته؛ فالدعاية الرسمية التي وصفت الحرب بأنها مهمة بطولية نبيلة لإنقاذ شعب جار من الإمبريالية لم تصمد أمام توالي نعوش الجنود العائدين. بدأ كثيرون يشككون في صدقية الحزب الشيوعي الحاكم، وفي حكمة قادته. لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، وجد السوفيت أنفسهم في حرب طويلة يخسرون فيها الأرواح بلا نصر واضح. هذا الواقع الجديد هزّ صورة الجيش الذي لا يُقهر، وصدع جدار الهيبة الذي أحاط بالحكومة السوفيتية عقودًا. وعندما اعترف الزعيم الجديد ميخائيل غورباتشوف لاحقًا بأن أفغانستان أصبحت “جرحًا نازفًا” في جسد الاتحاد السوفيتي، كان يعترف ضمنيًّا بأن تلك المغامرة كسرت شيئًا جوهريًّا في علاقة الدولة بشعبها، وفي معنويات الأمة ككل.

بداية تفكك الاتحاد السوفيتي

مع مرور السنوات، أصبح واضحًا أن حرب أفغانستان كانت نزيفًا متعدد المستويات للاتحاد السوفيتي؛ نزيفًا في الأرواح، ونزيفًا في الاقتصاد، ونزيفًا في الشرعية السياسية. في عام 1985، اعتلى غورباتشوف السلطة، وورث حربًا مستنقعية أنهكت سلفيه. أدرك الزعيم الجديد أن استمرار النزاع عبثي، فبدأ يسابق الزمن للخروج من هذا الفخ. أُطلقت مبادرات للسلام، وتفاوضت موسكو مع واشنطن وإسلام آباد للوصول إلى اتفاق يضمن انسحابًا مشرفًا. وبحلول فبراير (شباط) 1989، انسحبت آخر دبابة سوفيتية عائدة عبر جسر الصداقة إلى الأراضي السوفيتية، منهيةً فصلًا داميًا. لكن على الرغم من الابتهاج بعودة الجنود، كان الضرر الواقع على هيبة الاتحاد السوفيتي ومناعته قاتلًا؛ فقد خرج السوفيت من أفغانستان مهزومين سياسيًّا وإن ادعوا غير ذلك؛ فالحكومة الماركسية التي تركوها في كابُل سقطت بعد ثلاث سنوات فقط من انسحابهم، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه.

لقد عجّلت حرب أفغانستان بتآكل بنية الاتحاد السوفيتي الداخلية؛ فمع انتهاء تلك الحرب المهينة، بدأت جمهوريات الاتحاد السوفيتي المختلفة تطالب بمزيد من الحرية، أو حتى الاستقلال. شعرت كثير من القوميات غير الروسية في الإمبراطورية الحمراء أن موسكو لم تعد قوية كما كانت، وأن الجيش الأحمر الذي عجز عن إخضاع أفغانستان ربما لن يستطيع إخضاعهم إذا ما نادوا بالانفصال. وهكذا اشتعلت النزعات الانفصالية والقومية في البلطيق، والقوقاز، وآسيا الوسطى. في الوقت نفسه، أتاحت سياسات الجلاسنوست والانفتاح والبيريسترويكا، وإعادة البناء التي تبناها غورباتشوف، فسحةً غير مسبوقة لانتقاد أخطاء الماضي، وكانت حرب أفغانستان على رأس تلك الأخطاء الكارثية. تصاعدت الأصوات المنتقدة داخل المجتمع ووسائل الإعلام، وانكسرت هيبة الحزب الشيوعي الذي اعتُبر مهندس تلك المغامرة الفاشلة. لم يعد الاتحاد السوفيتي ذلك العملاق المهاب الجانب؛ فإمبراطورية الخارج بدأت تتفكك من الداخل. وبحلول ديسمبر (كانون الأول) 1991، تفكك الاتحاد السوفيتي رسميًّا إلى جمهوريات مستقلة، في مشهد تاريخي مثّل نهاية حقبة. وبين العوامل الكثيرة التي قادت إلى هذه النهاية، تبرز حرب أفغانستان عاملًا محفّزًا سرّع الانهيار، وكشف عورات النظام أمام نفسه، وأمام العالم.

الاستنتاجات

بعد عقود من ذلك “الفخ الأفغاني”، لا تزال دروسه ماثلة أمام القوى العالمية. لقد علّمت أفغانستان الجميع أن التدخل العسكري في دولة أجنبية باسم عقيدة أيديولوجية، أو لنصرة حليف، قد ينقلب إلى كارثة تستنزف قوة المتدخل، وتزلزل استقراره الداخلي. دفع الاتحاد السوفيتي ثمنًا باهظًا لغطرسة قادته وسوء تقديرهم؛ فقد خسرت موسكو شبابها وثرواتها وسمعتها، بل فقدت في النهاية اتحادها نفسه. وبعد سنوات طويلة، كادت الولايات المتحدة تقع في المصيدة نفسها في أفغانستان خلال حرب استمرت عشرين عامًا انتهت هي أيضًا بانسحاب مضطرب. هكذا يبرهن التاريخ مرارًا أن التورط في حروب بعيدة ومعقدة يمكن أن يصبح نزيفًا قاتلًا للإمبراطوريات مهما بلغت قوتها.

إن درس أفغانستان عابر للزمن؛ لا يمكن فرض إرادة إمبراطورية بالقوة دون كلفة باهظة، والشعوب المتمسكة بأرضها وهويتها قادرة على إنهاك أقوى الجيوش. كما يذكّرنا بأن الشعارات الأيديولوجية البراقة -كالأممية، أو نشر الديمقراطية- قد تخفي وراءها مطامع جيوسياسية، أو قرارات متسرعة تؤدي إلى مآسٍ إنسانية. واليوم، إذ ينظر العالم إلى مناطق صراع مختلفة، ينبغي لصُنّاع القرار أن يستحضروا ثمن الخطأ القاتل الذي وقع فيه قادة الكرملين عام 1979. تلك الحرب التي حطمت جيلًا بكامله، وأسهمت في إسقاط إمبراطورية، يجب أن تبقى تحذيرًا صارخًا من عواقب التورط في حروب لا نهاية لها؛ فالدماء التي سُفكت، والتضحيات التي قُدمت هناك، لن تستعيدها كلمات الندم، لكن يمكن للبشرية أن تتعلم منها؛ لتتجنب الوقوع في فخاخ مشابهة في الحاضر، أو المستقبل.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع