
أثار مشروع القرار الأمريكي المتعلق بغزة مناقشات ساخنة داخل مجلس الأمن على مدار الأيام من 10 إلى 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بين القوى الكبرى، على نحو يكشف عن طبيعة التحول في البنية الدولية، أكثر مما يعكس مضمون القرار نفسه.
الاختلافات بين الولايات المتحدة وخصومها التقليديين بالطبع ليست جديدة، لكن طبيعة اعتراض روسيا والصين هذه المرة، وتمايز مساراتهما في هذا الاعتراض -رغم نقاط التقاطع- تفرض علينا ضرورة تقديم قراءة متأنية لمدى تأثير هذا المشهد في شكل التوازن الدولي الآخذ في التشكل.
المشروع الأمريكي -في جوهره- يتجاوز إطار مسألة “وقف إطلاق النار” إلى طرح هيكل إداري وأمني جديد للقطاع تحت اسم Board of Peace””، والمقصود به إنشاء كيان لا يستند إلى مرجعية قانونية قائمة. وهذا الكيان المطروح ينبغي أن ترافقه قوة استقرار ذات تفويض واسع، يضع الولايات المتحدة في موقع الفاعل الرئيس في إدارة مرحلة ما بعد الحرب التي دارت بشأنها أحاديث كثيرة وبلا طائل منذ الأشهر الأولى للحرب.
هذه الصياغة المطروحة أمريكيًّا أثارت تحفظات فورية من جانب موسكو، التي اعتبرت أن المشروع يتجاهل قواعد القانون الدولي، ويؤسس لوصاية سياسية لا تتفق مع قرارات مجلس الأمن؛ ولهذا كان من الطبيعي -لي على الأقل من واقع فهمي للموقف الروسي- أن تقدم روسيا مشروعًا مضادًا يعيد النقاش إلى مسار قانوني واضح، يربط أي ترتيبات انتقالية بحل الدولتين، ويؤكد مركزية الأمم المتحدة.
الصين -من جانبها- عارضت المشروع الأمريكي، لكنها لم تتبنَ الرفض الروسي بصيغته الكاملة، فالمسار الصيني اتسم بتركيز أكبر على الشرعية الفلسطينية والإقليمية، وعلى ضرورة تجنب بناء ترتيبات انتقالية تُفرَض من الخارج.
وبالرغم من وجود تقارب واضح بين موسكو وبكين، فإن المساحة التي يتحرك فيها كل منهما تختلف جذريًّا؛ فروسيا تتعامل مع الملف بوصفه ساحة إضافية للصراع مع واشنطن، في حين تتعامل الصين معه بوصفه جزءًا من بيئة إقليمية واسعة تحتاج إلى الاستقرار لضمان مصالحها الاقتصادية، وبنيتها اللوجستية.
هذا التباين، الذي قد يبدو تكتيكيًّا في ظاهره، مرتبط بتحولات أعمق رصدتها دراسات لمركز RAND الأمريكي عن السياسة الخارجية الصينية منذ عام 2013. هذه الدراسة المثيرة أخبرتنا منذ ذلك العام أن الصين لم تعد تقف عند حدود الحضور الاقتصادي التقليدي في الشرق الأوسط؛ بل انتقلت إلى إستراتيجية أكثر تركيبًا، توازن بين النفوذ السياسي المنخفض الكلفة وتوسيع شبكات الاعتماد المتبادل مع دول المنطقة، وكان هذا هو من أبرز تحولات السياسة والإستراتيجية الصينية تجاه المنطقة منذ لحظة تربّع شي جين بينغ على عرش الصين. ومن هذا المنطلق، فإن بكين أصبحت أكثر حساسية تجاه أي ترتيبات أمنية قد تؤدي إلى حالة عدم استقرار ممتدة، حتى إن لم تُبدِ معارضة صريحة للمبادرات الأمريكية إلا عند الضرورة.
هذه الخلفية تفسر -في رأيي- سبب تفضيل الصين لتعديل مشروع القرار الأمريكي بدلًا من إسقاطه بالكامل، وسبب حرصها على إبقاء باب التفاوض مفتوحًا؛ فهي لا ترغب في دفع النظام الدولي نحو حالة مواجهة دائمة داخل مجلس الأمن، ولا ترى في “الفيتو” وسيلة لتسجيل مواقف إلا عندما يتعلق الأمر باستقرار إقليمي يؤثر في مصالحها الإستراتيجية المباشرة؛ ولذلك فهي تتحرك داخل حدود تسمح لها بأن تكون جزءًا من عملية التوازن، دون أن تتحول إلى قوة صدامية، خصوصًا في ملفات لا تمس أمنها القومي، أو مصالحها المباشرة.
أما روسيا، فترى أن المشروع الأمريكي يمثل محاولة لترسيخ نفوذ سياسي وأمني في غزة خارج إطار الشرعية الدولية، ما يستدعي تحركًا واضحًا لعرقلته. وفي هذا السياق، يصبح “الفيتو” -في نظر موسكو- أداة دفاع عن معادلة دولية تريد تثبيتها، تقوم على احترام قرارات الأمم المتحدة، وعلى الحد من استخدام المجلس منصةً لتمرير ترتيبات أحادية، أمريكية وأوروبية في المقام الأول.
هذا الاختلاف في منهجية العمل بين موسكو وبكين لا يحد مستوى التنسيق بينهما، لكنه يعكس مقدار الاختلاف في أدوات التأثير وأولويات القوتين.
في ضوء هذه المتغيرات، تبدو احتمالات تمرير المشروع الأمريكي دون تعديل جوهري ضعيفة؛ فالملاحظ أن أي صيغة انتقالية لا تحظى بقبول فلسطيني وإقليمي، ولا تستند إلى إطار قانوني واضح، تواجه معارضة مباشرة من كل من روسيا والصين، وإن بدرجات مختلفة؛ ولهذا من المرجح أن تتجه واشنطن نحو تعديل النص، أو نحو مسارات إضافية خارج مجلس الأمن إذا تعذّر التوصل إلى صيغة توافقية.
غير أن الأهم في هذا المشهد أن ما يجري في مجلس الأمن لم يعد مجرد نقاش بشأن غزة؛ بل أصبح مؤشرًا على الطريقة التي تُعاد بها صياغة التوازنات الدولية، فالمشهد لا يكشف تحالفًا روسيًّا- صينيًّا بقدر ما يكشف تقاربًا في نقاط الاعتراض، يقابله تمايز واضح في منهجيات العمل، ويكشف في الوقت نفسه حدود القدرة الأمريكية على إدارة الأزمات الدولية من خلال آليات كانت -خلال العقدين الماضيين- تحمل طابع التفوق الهادئ.
باختصار شديد، ملف غزة داخل مجلس الأمن أصبح ساحة اختبار لنمط جديد من العلاقات الدولية، لا تتحرك فيه القوى من موقع الصدام المباشر، ولا يبقى فيه ميزان القوى على نمط أحادي.
هي محاولة جديدة لجعل ميزان القوى يسير ويتقدم من خلال شبكة معقدة من التقاطعات والمصالح والحسابات الطويلة، بحيث يصبح كل قرار مرتبطًا بما هو أبعد من نصه، وأكثر عمقًا من سياقه المباشر.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير