
يومًا بعد يوم، تتضاءل حالة التفاؤل التي صاحبت الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة، الذي بدأ في 10 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ومع أن تنفيذ “المرحلة الأولى” من الاتفاق تمّ على نحو مقبول من الطرفين، فإن ما يحدث على الأرض لا يهدد بتقويض هذا الاتفاق فقط؛ بل بتقسيم قطاع غزة إلى قسمين، حيث تسيطر إسرائيل على 53% من مساحة غزة، في حين تسيطر حماس على 47% من مساحة القطاع الذي لا تزيد مساحته على 360 كم². فعلى الرغم من تسلم إسرائيل جميع الرهائن الأحياء العشرين، و24 جثة من إجمالي الجثث الثمانية والعشرين الذين كانوا محتجزين في غزة، ترفض تل أبيب التحرك إلى الأمام والقبول باستحقاقات “المرحلة الثانية” التي تسمح بدخول مزيد من المساعدات الإنسانية، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، والبدء في مراحل إعادة الإعمار.
مَن يراجع التصريحات الإسرائيلية، ويدقق في مواقف النخبة السياسية، سواء في الحكومة أو المعارضة، يكتشف أن إسرائيل تخطط للبقاء في القطاع، وتقسيمه ليس فقط إلى قسمين؛ بل ربما إلى أكثر من ذلك، على غرار تقسيم الضفة الغربية التي قسمتها اتفاقيات أوسلو في سبتمبر (أيلول) 1993 إلى 3 مناطق رئيسة، فالحديث الإسرائيلي يدور حول شمال القطاع، ووسطه، وجنوبه، وشرق “الخط الأصفر” الذي تسيطر عليه إسرائيل، وغرب “الخط الأحمر” الذي تسيطر عليه حماس. ولا تخفي إسرائيل نيتها في إنشاء “منطقة عازلة” على طول الحدود الشمالية والجنوبية والشرقية للقطاع، مع الإبقاء على “السيطرة الأمنية الكاملة” على غزة، وهو ما يهدد “مبادرة الرئيس ترمب” التي نصت بوضوح على انسحاب إسرائيل من غزة، وإعادة الإعمار دون تهجير السكان.
ولا تقتصر العراقيل التي تضعها إسرائيل على ذلك؛ بل تسعى إلى “تفريغ مضمون” مبادرة الرئيس ترمب من مساراتها الرئيسة عند اعتراض تل أبيب على صدور “تفويض دولي” لقوة “الاستقرار الدولية”؛ وهو ما يهدد بالتوقف عند حدود “الخط الأصفر” الذي تسبب في مقتل نحو 300 فلسطيني منذ وقف إطلاق النار. فما أبرز التحديات التي تحول دون الانتقال من “المرحلة الأولى” إلى “المرحلة الثانية”؟ وهل يمكن تقسيم قطاع غزة على غرار “النموذج الكوري”؟ وإلى أي مدى تضغط الإدارة الأمريكية على إسرائيل حتى تقبل بالانتقال إلى “المرحلة الثانية” من الاتفاق حتى ينتهي هذا الفصل من معاناة الشعب الفلسطيني؟
أولًا- السيناريو الكوري
تهدف إسرائيل من خلال البقاء في “المرحلة الأولى”، والعمل على تحويل “الخط الأصفر” إلى “حد فاصل ودائم” بين الجيش الإسرائيلي وسكان غزة، إلى تكريس “سيناريو التقسيم”، حيث تعمل تل أبيب على مجموعة من الخطوات لخلق “نموذجين” في قطاع غزة على غرار “السيناريو الكوري” بعد نهاية الحرب الكورية عام 1953؛ “النموذج الأول”، هو الأراضي التي تحت سيطرة تل أبيب، ومساحتها نحو 53% من مساحة القطاع، وتحاول إسرائيل إقناع المجتمع الدولي “بإعادة إعمار هذه المناطق حتى تصبح مناطق مزدهرة اقتصاديًّا، ويتمركز في تلك المناطق أيضًا “المجموعات المسلحة” المناوئة لحماس، مثل مجموعة ياسر أبو الشباب، ورامي حلس، وأشرف المنسي، وحسام الأسطل، في حين أن “النموذج الثاني”، الذي سوف يتشكل من الأراضي التي تحت سيطرة حماس، لن يحظى بأي إعمار أو ازدهار، وهو ما يخلق “حالة صراع” بين النموذجين، ويهدد الوحدة الجغرافية للقطاع، والوحدة الجغرافية بين الضفة الغربية والقدس الشرقية مع قطاع غزة.
ثانيًا- التفويض
جميع الدول العربية والإسلامية مع الولايات المتحدة متفقة على ضرورة صدور”تفويض” واضح من مجلس الأمن الدولي لتشكيل “قوة حفظ سلام دولية” يكون هدفها عدم تجدد الحرب بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وحماية الشعب الفلسطيني من أي محاولة إسرائيلية للعودة إلى الحرب على قطاع غزة، حيث شنت إسرائيل على القطاع 6 حروب منذ الانسحاب الإسرائيلي البري من غزة عام 2005، فشنت حروبًا على القطاع في أعوام 2008، و2012، و2014، و2021، و2022، وصولًا إلى الحرب الحالية التي بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
لكن إسرائيل تعمل على أن يكون القرار الأممي بمنزلة “إنفاذ للقانون”، ويتعلق فقط بتشكيل “قوة متعددة الجنسيات”، وأن تكون مهمتها هي “نزع سلاح حماس والفصائل”، وتدمير الأنفاق. لكن الأطراف الأخرى تريد “قوة حفظ سلام” بتفويض واضح هو الحفاظ على السلام، وعدم تكرار الحرب، مع تحديد عدد هذه القوة وجنسياتها، والمدة الزمنية التي سوف تعمل فيها. وبين ما تريده إسرائيل وما يريده المجتمع الدولي تتأجل كل يوم هذه الخطوة رغم توزيع الولايات المتحدة -منذ نحو أسبوع- مشروع قرار بهذه القوة على أعضاء مجلس الأمن.
ثالثًا- عدم الانسحاب
رغم موافقة إسرائيل على مبادرة الرئيس ترمب التي تدعو -بوضوح وصراحة- إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة في نهاية الحرب، فإن معارضة الأحزاب المتطرفة لهذه الخطوة تجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “يتردد” في الانسحاب من القطاع. ويراهن نتنياهو على الوقت لبقاء الجيش الإسرائيلي داخل القطاع لمراقبة سلوك حماس في السنوات المقبلة، كما تقول الأحزاب اليمينية.
رابعًا- 200 مقاتل
لا تزال قضية نقل نحو 200 من مقاتلي حماس من شرق “الخط الأصفر” إلى غربه تشكل تحديًا كبيرًا دفع الرئيس ترمب إلى إرسال صهره جاريد كوشنر، ومبعوثه الشخصي ستيف ويتكوف إلى إسرائيل؛ بهدف البحث عن حل لهذا الملف، حيث تخشى حماس أن يكون خروج هؤلاء بأسلحتهم من الأنفاق إلى خارج القطاع بمنزلة “نموذج لنزع سلاحها” في باقي مناطق القطاع، فضلًا عن عدم وجود طرف ثالث مستعد لقبول هؤلاء المقاتلين الذين يمكن أن يتعرضوا بعد ذلك لعمليات اغتيال إسرائيلية بما يحرج أي دولة ثالثة قد تفكر في استقبالهم.
خامسًا- المنطقة العازلة
خلال الشهور الماضية شرعت إسرائيل في بناء “منطقة عازلة” في التلال الخمسة جنوب لبنان، وتعمل مع المبعوث الأمريكي إلى لبنان وسوريا توم باراك على إنشاء “منطقة عازلة” في جنوب نهر الليطاني، وبالفعل شرعت في بناء سور بارتفاعات عالية خلف “الخط الأزرق”. والسيناريو نفسه تعمل عليه في جنوب سوريا، حيث باتت إسرائيل تسيطر على نحو 400 كم إلى الجنوب من ريف دمشق الجنوبي، بهدف بناء “منطقة عازلة” لحماية الأراضي التي تحتلها في الجولان. وفي المسار نفسه أبلغت إسرائيل الإدارة الأمريكية أنها لا يمكن أن تترك قطاع غزة في أي مرحلة دون تأسيس وبناء “منطقة عازلة” داخل القطاع إذا قررت الانسحاب من غزة. وتدعي إسرائيل أن هدفها من بناء هذه “المنطقة العازلة”، التي سوف تكون بطول نحو 60 كم، وعمق يتراوح بين 700 و1200 متر، هو عدم تكرار أحداث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
سادسًا- مجلس السلام
هناك خلافات عميقة وضبابية شديدة بشأن ما يسمى “مجلس السلام”، الذي من المفترض أن يرأسه ترمب، وهو هيئة مقصود بها “إدارة فترة الحكم الانتقالي” في غزة إلى حين إنجاز السلطة الفلسطينية الإصلاحات التي تعمل عليها. وفي آخر تعديل نص مشروع القرار في مجلس الأمن بشأن غزة على الترحيب بإنشاء “مجلس السلام”، لكنّ هناك خلافًا واضحًا بشأن تولي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مسؤولية المسؤول التنفيذي لهذا المجلس، الذي لا يعرف حتى اليوم الشخصيات العربية والدولية التي سوف تنضم إليه. وهناك إشكالية أخرى، حيث يرفض قطاع من الفلسطينيين وجود هذا المجلس، ويرونه نوعًا من الهيمنة غير الفلسطينية على جزء رئيس من أراضي فلسطين، وهو ما يعزز مخاوف البعض بأن هذا المجلس قد يقود إلى فصل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية.
سابعًا- السلطة الفلسطينية
رغم التوافق العالمي على ضرورة أن تكون السلطة الفلسطينية حاضرة في ترتيبات اليوم التالي في قطاع غزة، يصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على عدم منح السلطة الفلسطينية أي دور في مستقبل القطاع، ويواصل الترويج لنظريته التي تقول أن إسرائيل لن تتعامل “لا مع حماسستان، ولا فتحستان”، وكل ذلك رغم تعهد السلطة الفلسطينية بإجراء إصلاحات واسعة تشمل وضع دستور بالتعاون مع فرنسا، وعدم منح أموال لأهالي الأسرى، وإعادة “تنقيح المناهج” الفلسطينية بما يتوافق مع المعايير التي وضعتها منظمة “اليونسكو”.
ثامنًا- تنازلات حماس
وافقت حماس على الخطوط العريضة لمبادرة الرئيس ترمب، لكن كثيرًا من التفاصيل لم يتم الاتفاق عليها، ومنها “نزع سلاح” الحركة؛ فبينما يتحدث الجميع عن “نزع سلاح” حماس، تؤكد الحركة أن سلاحها “خط أحمر”، وتسوق إسرائيل بأن حماس نشرت 7000 عنصر أمني جديد في القطاع، وأنها خلال الأسابيع الماضية استطاعت ملء الفراغ في قياداتها التي خسرتها خلال الحرب؛ ولهذا لا يتوقع الإسرائيليون أو الأمريكيون أن تقدم حماس تنازلات جديدة بعد تسليم ما لديها من رهائن أحياء وأموات.
تاسعًا- الإعمار
هناك اتفاق بين الجميع على ضرورة البدء الفوري لإعمار غزة، لكن المطالب التي تتمسك بها إسرائيل وحماس بعيدة تمامًا عن الالتقاء في “مساحة مشتركة”؛ لأن تل أبيب -ومعها الولايات المتحدة، وحتى الدول الأوروبية- ترفض أي دور لحركة حماس، وتطالب الجهات التي تنوي المشاركة في إعادة الإعمار “بتفكيك أسلحة” حماس، وتسلم خريطة بكل “الأنفاق”، وهي أمور ترفضها حماس رفضًا قاطعًا، في حين تقول بريطانيا وفرنسا وألمانيا -على سبيل المثال- إنه لا يمكن بناء مبنى في غزة دون التأكد من عدم وجود “أنفاق” أسفل هذا المبنى أو ذاك.
عاشرًا- دعم طويل المدى
وضعت المسودة الأمريكية التي وزعتها على أعضاء مجلس الأمن بشأن إطار عمل القوات المتعددة الجنسيات “عامين” إطارًا زمنيًّا لعمل هذه القوات، لكن هناك من يشكك في هذا الإطار الزمني، ويطالب بضرورة أن يكون هناك “دعم وتمويل ومساندة لقطاع غزة على المدى الطويل” في ظل التدمير شبه الكامل لجميع مقومات الحياة، وأن إقرار “دعم طويل الأجل” يمنح الثقة لجميع الخطوات السياسية والاقتصادية والأمنية المقبلة، وكل هذا يحتاج إلى دعم أمريكي ودولي طويل الأجل، فعلى سبيل المثال، قد تحتاج “قوات الأمن والشرطة” -التي تُدرَّب في الوقت الراهن- إلى تمويل خارجي واستشارات تستمر عقودًا “وليس عامين فقط”.
في ظل غياب أي جهد كبير من جانب الولايات المتحدة لكسر الجمود الحالي، يبدو أن”الخط الأصفر” مرشح لأن يتحول إلى “حدود دائمة” تقسم قطاع غزة إلى أجل غير مسمى، وهو أمر لا يتمناه أحد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير