الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلوماتتقدير موقف

تايوان.. سياسة التحوط الإستراتيجي في ظل السياسات المتناقضة لإدارة ترمب


  • 14 نوفمبر 2025

شارك الموضوع

في سياق التوترات الجيوسياسية المتزايدة في المحيط الهادئ، أصبحت سياسة التحوط الإستراتيجي التايوانية نموذجًا بارزًا لكيفية تعامل الدول الصغيرة مع التناقضات في السياسات الكبرى للقوى العظمى. يعتمد هذا النهج على التوازن الدقيق بين الاقتراب من الولايات المتحدة بوصفها حليفًا أمنيًّا رئيسًا، والحفاظ على روابط اقتصادية حيوية مع الصين، في ظل مخاوف متزايدة من أن تصبح تايوان بطاقة تفاوض في صفقات واشنطن- بكين. خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترمب الأولى (2017- 2021)، بلغت هذه التناقضات ذروتها، حيث شهدت السياسة الأمريكية تجاه تايوان مزيجًا من الدعم العسكري الواضح والتلميحات التجارية المهددة، مما أجبر تايوان على تعزيز إستراتيجيتها التحوطية لمواجهة مخاطر التخلي المحتمل. ومع عودة ترمب إلى السلطة في 2025، يتجدد هذا القلق، خاصة مع اجتماعاته الأخيرة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ التي تجنبت مناقشة تايوان صراحة، رغم التصعيد العسكري الصيني في مضيق تايوان.

بدأت سياسة التحوط الإستراتيجي التايوانية كاستجابة تاريخية لسياسة “الغموض الإستراتيجي” الأمريكية، التي اعتمدتها واشنطن منذ السبعينيات للحفاظ على التوازن بين دعم تايوان، وتجنب الصدام المباشر مع الصين. ومع ذلك، أدخلت إدارة ترمب عنصرًا جديدًا من التناقض، حيث جمعت بين تعزيز الروابط الأمنية مع تايوان والضغوط الاقتصادية على الصين، التي غالبًا ما كانت تتجاوز الحدود الجيوسياسية. في الفترة الأولى من ولايته، أقرت إدارة ترمب مبيعات أسلحة بقيمة تزيد على 18 مليار دولار لتايوان، منها أنظمة دفاع جوي متقدمة، وصواريخ مضادة للسفن؛ مما عزز القدرات الدفاعية للجزيرة، وأرسل إشارة قوية إلى بكين بأن واشنطن لن تتخلى عن تايوان في مواجهة التهديدات العسكرية. كما أقامت الإدارة مكتبًا دبلوماسيًّا جديدًا في تايبي بتكلفة 250 مليون دولار، وأرسلت مسؤولين كبارًا، منهم أعضاء في الحكومة، إلى الزيارة الرسمية، وهو أعلى مستوى من الاتصال منذ عام 1979. هذه الإجراءات لم تكن مجرد دعم تكتيكي؛ بل كانت جزءًا من إستراتيجية أوسع لاحتواء الصين في إطار “الإستراتيجية الهندو- باسيفيكية الحرة والمفتوحة”، التي رأت في تايوان خطًا أماميًّا للديمقراطية ضد الاستبداد الصيني. ومع ذلك، سرعان ما أظهرت هذه السياسة تناقضاتها الجوهرية، إذ أجرى ترمب نفسه مكالمة هاتفية مع الرئيسة التايوانية تساي إنغ وين قبل تنصيبه؛ مما أثار غضب بكين، لكنه في الوقت نفسه سعى إلى صفقات تجارية مع الصين لتخفيف الضغوط الاقتصادية الداخلية، مما أثار تساؤلات عن مدى التزام واشنطن بتايوان بوصفها قضية أخلاقية أم أداة تفاوضية؟

تكمن التناقضات في سياسة ترمب في التوتر بين الرؤية الأمنية المتشددة، التي تبناها مسؤولون مثل وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، والنهج التجاري العملي الذي يرأسه ترمب نفسه. بينما أعلن بومبيو في خطاب شهير عام 2018 أن “الصين ليست شريكًا، بل منافسًا إستراتيجيًّا”، ودعا إلى إنهاء “الوهم” في العلاقات مع بكين، كان ترمب يتفاوض سرًّا مع شي جين بينغ لتجنب تصعيد الحرب التجارية، مما أدى إلى اتفاقات مؤقتة في عامي 2019 و2020 بشأن الملكية الفكرية والزراعة، لكنها لم تتطرق إلى تايوان صراحة. هذا الازدواجية أثرت مباشرة في تايوان، التي رأت فيها إشارة إلى أن دعمها الأمريكي مشروط بالمصالح الاقتصادية الأوسع. على سبيل المثال، في أثناء ذروة الحرب التجارية، هدد ترمب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على واردات الصين، ومنها الرقائق الإلكترونية التايوانية التي تشكل جزءًا كبيرًا من سلسلة التوريد العالمية؛ مما أثار مخاوف في تايبي من أن تصبح الجزيرة ضحية للضغوط الأمريكية على بكين. في الوقت نفسه، زادت الصين ضغوطها العسكرية، مع إرسال مقاتلاتها عبر خط الوسط في مضيق تايوان أكثر من 1,700 مرة في عام 2020 وحده؛ مما دفع تايوان إلى تعزيز ميزانيتها الدفاعية إلى 2.45% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي خطوة تحوطية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة دون إغضاب بكين اقتصاديًّا. هذه السياسات المتناقضة لم تكن عشوائية؛ بل كانت تعكس فلسفة ترمب “أمريكا أولًا”، التي ترى في تايوان أصلًا قيمًا لكنه غير مقدس في مواجهة التنازلات التجارية.

مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2025، تجددت هذه التناقضات بقوة أكبر، خاصة في ظل الاجتماعات الثنائية مع شي جين بينغ في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، حيث اتفق الطرفان على خفض التعريفات الأمريكية على الواردات الصينية مقابل زيادة مشتريات الصين للمنتجات الأمريكية، لكن دون أي إشارة إلى تايوان. هذا الصمت المتعمد أثار موجة من المخاوف في تايبي، إذ يُفسر على أنه إمكانية لتفاهمات خفية قد تضر بالجزيرة. من المتوقع أن تحافظ إدارة ترمب الثانية على الدعم الأمني لتايوان، مع تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية، لكن مع أخطار تفاوضية تكمن في رغبة ترمب في “صفقة كبيرة” مع الصين لإعادة تشغيل الاقتصاد الأمريكي بعد الركود الناتج عن الجائحة. في هذا السياق، أصبحت سياسة التحوط التايوانية أكثر تعقيدًا، حيث أعلن الرئيس لاي تشينغ ته، في خطاب فوزه عام 2024، أن تايوان ستلتزم بالحفاظ على الوضع الراهن عبر مضيق تايوان، مع رفض “الإجماع لعام 1992” الذي تفرضه بكين، وفي الوقت نفسه تعزيز الشراكات الاقتصادية مع الولايات المتحدة من خلال اتفاقيات مثل “اتفاقية التجارة للقرن الـ21”. هذا النهج يعكس التحوط الكلاسيكي: الاستثمار في الدفاع الذاتي لتقليل الاعتماد على الضمانات الأمريكية، مع الحفاظ على التجارة مع الصين التي تمثل 40% من صادرات تايوان؛ لتجنب العقوبات الاقتصادية المباشرة.

تكشف ديناميكيات التفاوض الأمريكي- الصيني تحت إدارة ترمب عن نمط من التقارب الإستراتيجي الذي يهدد بتحويل تايوان إلى قضية ثانوية. خلال الفترة الأولى، أدت حرب التعريفات إلى خسائر اقتصادية تصل إلى 300 مليار دولار للصين؛ مما دفع بكين إلى الرد بقيود على الاستثمارات التايوانية في البر الرئيس، لكن الاتفاقات اللاحقة في جنيف عام 2020 أعادت فتح بعض القنوات، مع تلميحات من مسؤولين أمريكيين بأن “القضايا الإقليمية” -مثل تايوان- قد تكون جزءًا من الحوار. في عام 2025، مع اجتماع ترمب- شي في مار- أ- لاغو، أكد الرئيس الأمريكي أن “التجارة العادلة” هي الأولوية، ووافق على إنهاء حظر الصين على الصويا الأمريكية مقابل ضمانات في مجال الأرض النادرة، مما أثار تساؤلات عما إذا كانت تايوان “الجزرة” في هذه الصفقة. هذا الصمت بشأن تايوان يعكس عودة إلى “الغموض الإستراتيجي”، لكنه غموض مشوب بالقلق، إذ إن ترمب نفسه وصف تايوان سابقًا بأنها “تسرق” صناعة الرقائق الأمريكية، مما يشير إلى إمكانية استخدامها كورقة ضغط تجارية. فيما يتعلق بتايوان، فإن هذا النهج يعني ضرورة تعزيز التحوط من خلال تنويع الاقتصاد، كما في “السياسة الجنوبية الجديدة” التي زادت التجارة مع 18 دولة آسيوية بنسبة 100% بين عامي 2016 و2022، واستثمارات (TSMC) في الولايات المتحدة بقيمة 100 مليار دولار لإنتاج الرقائق في أريزونا، بهدف تقليل الفائض التجاري مع واشنطن، الذي بلغ 76 مليار دولار في 2024؛ ومن ثم تعزيز الالتزام الأمريكي.

مخاوف التخلي عن تايوان في سياق التفاهمات بين واشنطن وبكين ليست مجرد تكهنات؛ بل هي مدعومة بتصريحات ترمب نفسه وتحليلات إستراتيجية. في مقابلة مع مجلة تايم في فبراير (شباط) 2025، أعرب ترمب عن عدم التزام واضح بدفاع عن تايوان، قائلًا إن “الولايات المتحدة ليست مضطرة للدفاع عن كل جزيرة”؛ مما أثار ردود فعل حادة في تايبي ودول المنطقة. هذا النهج يعكس تحولًا من الدعم غير المشروط إلى “التزام مشروط”، حيث يُطلب من تايوان دفع تكاليف أعلى للأسلحة، وتعزيز الإنفاق الدفاعي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2025، كما اقترح الجنرال إلبريدج كولبي، مستشار ترمب السابق. في هذا الإطار، أنشأ الرئيس لاي “لجنة الدفاع الشامل للمجتمع” لتعزيز المرونة الوطنية في مجالات الطاقة، والكابلات البحرية، والمخزونات الغذائية، والدفاع السيبراني، ردًا على الهجمات الصينية التي بلغت 24 مليون هجوم يوميًّا عام 2024. التحوط هنا يتجلى في محاولة تايوان أداء دور “اللاعب الضروري” في سلسلة التوريد العالمية، خاصة الرقائق التي تشكل 60% من الفائض التجاري مع الولايات المتحدة، لضمان أن أي تخلٍّ أمريكي سيكلف واشنطن غاليًا. هذا التحول من “الغموض الإستراتيجي” إلى “القلق الإستراتيجي” يجعل تايوان أكثر عرضة للتصعيد الصيني، الذي يشمل قطع الكابلات البحرية، واختبار الدفاعات؛ مما يدفع تايبي إلى البحث عن شراكات إقليمية أوسع مع اليابان وأستراليا لتوزيع الأخطار.

لنفهم عمق هذه المخاوف، يجب العودة إلى السياق التاريخي للتفاوض الأمريكي- الصيني، الذي شهد تحولات دراماتيكية تحت إدارة ترمب. في عام 2017، أطلق ترمب “الإستراتيجية الوطنية الأمنية” التي وصفت الصين بـ”المنافس الإستراتيجي”؛ مما أدى إلى زيادة الدعم لتايوان من خلال قانون “تايوان السفر” الذي رفع مستوى الاتصالات الدبلوماسية. لكن بحلول عام 2019، مع ذروة الحرب التجارية، أصبحت تايوان جزءًا غير مباشر من المفاوضات، حيث هددت بكين بإجراءات عسكرية إذا لم تتراجع واشنطن عن دعمها للجزيرة. الاتفاق المؤقت في يناير (كانون الثاني) 2020 خفف التوترات الاقتصادية، لكنه ترك تايوان في حالة من التوتر، إذ استغلت الصين الفرصة لتعزيز حملاتها الدعائية بشأن “التوحيد السلمي”، مع زيادة التمارين العسكرية قرب الجزر. في الإدارة الثانية، يتكرر النمط: اجتماع أكتوبر (تشرين الأول) 2025 أنتج “اتفاقًا مؤقتًا” يقلل التعريفات الأمريكية مقابل استئناف صادرات الأرض النادرة الصينية، وهو ما يُعد عودة إلى “الغموض الإستراتيجي” الذي يشجع على سياسات حذرة من بكين وتايبي، لكنه يفتح الباب لتفاهمات سرية قد تشمل تنازلات بشأن الجزرة. تايوان، في رد فعلها، أعلن وزير خارجيتها لين تشيا لونغ في أكتوبر (تشرين الأول) 2025 أن “العلاقات مع الولايات المتحدة مستقرة جدًّا”، لكن هذا التصريح يخفي قلقًا عميقًا من أن ترمب قد يتخلى عنها لصفقة تجارية أفضل، كما حدث مع روسيا في مفاوضات أوكرانيا.

تتجلى سياسة التحوط التايوانية في ثلاثة محاور رئيسة: الأمني، والاقتصادي، والدبلوماسي، وكلها تشكلت كرد فعل على التناقضات الترمبية. أمنيًّا، زادت تايوان من مشترياتها العسكرية، مع تخصيص 20 مليار دولار لعام 2025، وتطوير قدرات محلية مثل الغواصات والصواريخ، لتقليل الاعتماد على الشحنات الأمريكية التي تأخرت أحيانًا بسبب الضغوط السياسية. اقتصاديًّا، حافظت على فائض تجاري مع الصين يبلغ 150 مليار دولار سنويًّا، مع تنويع الاستثمارات في فيتنام والهند لمواجهة تبعات العقوبات، في حين استثمرت في الولايات المتحدة لتعزيز الروابط. دبلوماسيًّا، رفضت تايوان الاعتراف الرسمي بالصين، لكنها فتحت قنوات حوار غير رسمية لتجنب التصعيد، كما في دعوتها إلى “حوار صحي” في خطاب الرئيس لاي على اليوم الوطني عام 2024. هذا التحوط ليس خيارًا؛ بل ضرورة، إذ إن أي إعلان استقلالي سيزيد الضغط الصيني، في حين أن الاقتراب الزائد من واشنطن قد يجعله يتخلى عنها في صفقة مع بكين.

من منظور تحليلي، يمكن قراءة السياسات الترمبية على أنها جزء من تحول أوسع في النظام الدولي نحو “الواقعية الانتقائية”، حيث تُقيم القوى الكبرى الالتزامات بناءً على التكاليف الاقتصادية. في هذا السياق، أصبحت مخاوف التخلي عن تايوان واقعية، خاصة مع تصريحات ترمب في فبراير (شباط) 2025 بأن “السياسة الأمريكية تجاه تايوان ليست جديدة، لكن الإشارات الأخرى تشير إلى عدم التزام محدد”. هذا يدفع تايوان إلى تعزيز “المرونة الشاملة”، كما في لجنة لاي، التي تركز على الدفاع السيبراني والطاقة، ردًا على الهجمات الصينية. كما أن الاستثمارات في (TSMC) بالولايات المتحدة ليست اقتصادية فحسب؛ بل هي تحوط جيوسياسي يجعل تايوان “غير قابلة للتجاهل”، إذ إن أي تعطيل في إنتاج الرقائق سيؤثر في الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، يحذر خبراء في بروكينغز من أن هذه الإستراتيجية قد تفشل إذا استمرت التناقضات الأمريكية؛ مما يدفع بكين إلى اختبار الحدود، كما في زيادة التحليقات العسكرية في 2025.

في الختام، شكلت السياسات المتناقضة لإدارة ترمب سياسة التحوط التايوانية كآلية بقاء في عالم غير مستقر، حيث أجبرت الجزيرة على التوازن بين الدعم الأمريكي المتقلب والضغط الصيني الثابت. مع استمرار التفاوض الأمريكي- الصيني في إنتاج تفاهمات تجنب تايوان، تظل مخاوف التخلي قائمة، لكنها تدفع تايوان نحو استقلالية أكبر. مستقبلًا، قد يعتمد مصير الجزيرة على قدرة واشنطن على التوفيق بين مصالحها التجارية والأمنية، في حين يستمر التحوط التايواني دليلًا على مرونة الدول الصغيرة أمام العمالقة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع