
تتجه التطورات الميدانية في منطقة الدونباس، وتحديدًا في مقاطعة دونيتسك، نحو منعطف بالغ الأهمية في حسم الهدف العسكري الأول للرئيس الروسي بوتين من عمليته العسكرية الخاصة التي أطلقها فجر 24 فبراير (شباط) 2022.
هذا المنعطف الذي سيدور عنه الحديث في هذا المقال قد يقود إلى تحول إستراتيجي في مجمل بنية الصراع الأوكراني، فبعد أشهر طويلة من التمهيد الناري، والتقدم البطيء والمحدود؛ لكيلا يسقط عدد كبير من الجنود الروس المهاجمين على جبهات متفرقة، انتقل الجيش الروسي خلال الأيام الماضية إلى ما يمكن وصفه بمرحلة جديدة من العمليات.
السمة الرئيسة لهذه المرحلة الجديدة -حسبما تفيدنا التقارير العسكرية- هي تكامل الجهد الهجومي على نحو غير مسبوق، واتساع السيطرة الميدانية للقوات الروسية يوميًّا تقريبا في مدينة بوكروفسك (هي نفسها كراسنوارميسك في التسمية الروسية).
وهذا التحول الذي نحن بصدده لم يأتِ بمعزل عن السياق السياسي الأوسع، بل يعكس ما يمكن تسميته بمرحلة ترسيخ موازين القوة الجديدة التي باتت الوقائع الجديدة على الأرض تفرضها بفضل تقدم الجيش الروسي.
تصريحات الكرملين الصادرة خلال الأيام الأخيرة تؤكد هذا الاتجاه؛ فقد أعلن المتحدث الرئاسي دميتري بيسكوف، يوم الاثنين 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، أن الوضع على خطوط التماس يشهد ” تدهورًا حتميًّا في أوضاع القوات الأوكرانية وحالتها”، وأن ميزان القوى يميل تدريجيًّا إلى روسيا. كما اعتبر -متهكمًا- أن إيمان كييف بقدرتها على الانتصار يعكس “أعمق أشكال سوء الفهم السياسي والعسكري”.
هذه العبارات التي جاءت على لسان المتحدث باسم الكرملين لا تمثل -في رأيي- تقييمًا ميدانيًّا للأوضاع من جانب الكرملين بقدر ما تعبر عن قناعة راسخة داخل المؤسسة الروسية بأن القتال في منطقة الدونباس دخل مرحلة الحسم، وإن كانت العملية تسير ببطء، وقد تستغرق بعض الوقت، وهدفها بالطبع إعادة تعريف الخطاب الرسمي الروسي بوصفه إعلان ثقة ميدانية، بمعنى أنه يرمي إلى إقناع الرأي العام الداخلي بأن الحرب الأوكرانية تدخل الآن مرحلة الحسم التدريجي، حيث بات الوقت والميدان يعملان لصالح موسكو، في حين يعاني الجانب الأوكراني إرهاقًا واضحًا في الموارد والقدرة على المناورة.
البيانات الصادرة عن وزارة الدفاع الروسية تعزز هذه الصورة؛ فالقوات الروسية تمكنت -وفقًا للتقارير الرسمية، وإن كنا لا نستطيع التحقق من الأرقام التي توردها بالطبع- من تحييد مئات الجنود الأوكران داخل بوكروفسك، فضلًا عن السيطرة على مئات المباني داخل المدينة، في الوقت الذي فشلت فيه أكثر من سبع محاولات أوكرانية لفك الطوق عن القوات المحاصرة.
بالطبع نحن ننظر إلى هذه الأرقام ليس كمؤشرات إحصائية، ولكننا نقرؤها كدلالات عملياتية على أن المدينة باتت فعليًّا تحت السيطرة النارية الروسية، وهو ما تشير إليه كذلك حالة التخبط في التقارير العسكرية الأوكرانية، وكيف تعلق عليها وسائل الإعلام الأوروبية الداعمة بالمطلق لأوكرانيا، والمتبنية بلا جدال الرواية الأوكرانية، وخصوصًا الألمانية والبولندية.
وهنا يتولد انطباع أن بوكروفسك أو كراسنوارميسك تواجه مصيرًا مشابهًا بدرجة مذهلة لما حدث في ماريوبول عام 2022، وباخموت عام 2023، والأخطر في المسألة أن ما تبقى من المقاومة الأوكرانية داخلها ينتظره المصير نفسه الذي واجهه مَن كان في ماريوبول وباخموت.
ما يجري في بوكروفسك يمثل “التحول من مرحلة السيطرة التكتيكية إلى التمكين العملياتي الكامل”، هذا ما يقوله خبراء عسكريون مستقلون ومحترمون، أقرأ لهم لفهم الواقع الميداني بلا تزييف ولا تجميل. وحسب ما فهمته من تحليلاتهم المبنية على معلومات وبيانات رصد موضوعية، فإن تكتيك التطهير الحضري المنهجي الذي يعتمده الجيش الروسي يعكس -بوضوح- مستوى من النضج القتالي لم يكن موجودًا لدى الجيش الروسي في المراحل الأولى من الحرب.
كما أن قدرات الوحدات الروسية على التقدم في بيئة عمرانية كثيفة، مع الحفاظ على خطوط الإمداد والتغطية النارية، توضح أن القيادة الميدانية الروسية باتت تملك السيطرة الكاملة على الإيقاع العملياتي هناك.
ما فهمته أيضًا أن معركة بوكروفسك تهدف إلى التفكيك التدريجي للبنية الدفاعية الأوكرانية في منطقة الدونباس بكاملها؛ لأن الضغط المتوازي الذي تقوم به القوات الروسية في محوري دونيتسك وخاركوف ليس مصادفة ميدانية؛ بل هو خطة تهدف إلى إنهاك الاحتياطي الأوكراني على امتداد الجبهة، فضلًا عن منع إعادة التموضع الدفاعي؛ لذلك باتت القوات الأوكرانية اليوم -تنفيذًا لأوامر القيادة في كييف- تدافع عن خطوط رمزية أكثر منها عملياتية، وهو ما يجعل أي انهيار محلي قابلًا للتحول إلى انهيار إستراتيجي عام.
وعلينا أن نقول إن ما ذكرته أعلاه ليست مقاربة روسية حصرًا، ففي تقرير صدر عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، عقد الباحثون فيه مقارنة للوضع في بوكروفسك ومعركة باخموت، اعتبروا أن سقوط بوكروفسك سيكون “أكثر تأثيرًا إستراتيجيًّا”؛ لأنه يعني فقد كييف آخر عقدة مواصلات رئيسة في دونيتسك؛ ومن ثم سيؤدي ذلك إلى تفكك الجبهة الشرقية برمتها.
تقرير المعهد الفرنسي ذهب كذلك إلى أن الغرب قد يضطر بعد ذلك إلى “الانتقال من مرحلة الدعم المفتوح لأوكرانيا إلى مرحلة إدارة الخسائر”، أي إلى سياسة تهدف إلى احتواء الانهيار، وليس منعه.
قراءة أخرى تقول لنا إن معركة بوكروفسك تتجاوز رمزية باخموت؛ لأنها ستشكل لحظة إعادة رسم ميزان القوى تمامًا في الميدان الأوكراني بكامله، بمعنى أن سقوط هذه المدينة في يد الجيش الروسي سيجعل الجيش الأوكراني ينتقل من وضع الدفاع عن الأراضي إلى الدفاع عن الوجود ذاته، بما يعني أن الحرب ستدخل طورًا جديدًا تستخدم فيه أدوات الضغط الاقتصادي والسياسي بدلًا من المواجهة المباشرة.
ستكون بوكروفسك الحد الفاصل بين حرب المواقع وحرب الإرادات.
وعلى هذه الخلفية الميدانية يبدو المشهد الأوروبي مرتبكًا؛ فبينما يراقب ترمب الوضع الميداني وهو في انتظار الإعداد لانتخابات التجديد النصفي بعد عام تقريبًا، ما زالت العواصم الأوروبية، وخصوصًا لندن ووارسو، تدفع باتجاه استمرار المواجهة العسكرية إلى آخر مدى ممكن، انطلاقًا من منطق ضرورة استنزافي صريح يهدف إلى إنهاك موسكو إلى أبعد مدى، حتى لو كان الثمن انهيار كييف، وهذا هو نموذج كلاسيكي لحروب الوكالة الممتدة، كما تشرحها لنا كل الأدبيات السياسية والعسكرية، حيث تصبح حياة الجنود الأوكرانيين مجرد متغير في معادلة توازن القوى الأوروبية.
أما في الداخل الأوكراني، فقد باتت الأزمة السياسية تسابق التدهور الميداني، فالمعارضون للرئيس الأوكراني يستخدمون تصريحات زيلينسكي القديمة التي تعود إلى عام 2014، حين دعا إلى سحب القوات من منطقة إيلوفايسك لإنقاذ الأرواح، لتصويره الآن قائدًا ضل طريقه وتحول إلى رهينة حسابات القوى الخارجية. ومع تصاعد الخسائر في دونيتسك، وتحديدًا في بوكروفسك وكوبيانسك، تزداد الضغوط عليه لإثبات أن أوكرانيا لا تزال قادرة على المقاومة، مع أن الميدان يشير إلى عكس ذلك تمامًا.
بالمجمل يمكننا القول إن السياق العام -وفقًا لمعطيات التحليل التي لدينا حتى لحظة كتابة هذه السطور- يوحي بأن موسكو لم تعد تتحدث بجدية عن مفاوضات؛ بل عن تثبيت واقع جديد على الأرض، فتذكير لافروف بتفاهمات أنكوريدج خلال لقاء بوتين وترمب في ألاسكا لا يمكن قراءته إلا على أنه رسالة إلى واشنطن بأن الفرصة التي ضاعت لن تتكرر إلا بشروط روسية.
ويبدو أن الكرملين يستعد لتحويل النصر الميداني المحتمل في بوكروفسك إلى نقطة انطلاق لصياغة معادلة أمنية جديدة تمتد من بحر أزوف حتى حدود إقليم زاكارباتيا (إقليم يقع في جنوب غرب أوكرانيا، وتحدّه من الشمال بولندا، التي تعتبره جزءًا من أراضيها التاريخية ومنطقة لفوف أو لفيف بالأوكرانية، ومن الجنوب رومانيا، ومن الشمال الشرقي منطقة إيفانو- فرانكوفسك الأوكرانية، ومن الغرب المجر وسلوفاكيا)، بحيث تصبح فكرة الحياد الأوكراني مطلبًا دوليًّا، لا روسيًّا فقط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير