
أولًا- خصوصية الاجتماع وتوقيته
شهد الكرملين مساء 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 اجتماعًا نادرًا من حيث الشكل والمضمون، برئاسة الرئيس فلاديمير بوتين، وحضور وزير الدفاع أندريه بيلواوسوف، وقيادات المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية.
هذا الاجتماع اكتسب أهميته -في رأيي- من ثلاثة أبعاد متشابكة:
اختيار بوتين لهذا التوقيت الدقيق يكشف أن الهدف لم يكن اتخاذ قرار ميداني بقدر ما كان إعادة ضبط الرسالة الإستراتيجية الروسية تجاه التوازن النووي العالمي.
ثانيًا- مضمون الاجتماع
إذا انتقلنا من نقطة التوقيت والخصوصية إلى المضمون، فسنرى أنه حاول إظهار التوازن بين الالتزام والتحضير، وما أقصده هو الإشارة إلى العبارات الافتتاحية لوزير الدفاع أندريه بيلواوسوف، ذي الخلفية الاقتصادية، وتحديدًا العبارة الصريحة: “أرى أنه من المناسب البدء فورًا في التحضير لإجراء تجارب نووية شاملة”.
الوزير عطف على ذلك بالقول إن: “انسحاب الولايات المتحدة من نظام الوقف الاختياري للتجارب النووية سيقوّض الاستقرار الاستراتيجي”؛ ولذلك يوصي بالتحضير الفوري للتجارب في أرخبيل نوفايا زيمليا، الموقع التاريخي للتجارب السوفيتية، والإشارة تتحدث عن نفسها.
ردّ بوتين كان أكثر إثارة بتأكيده الالتزام بمعاهدة الحظر الشامل، مع التحذير في الوقت نفسه من أن أي خرق غربي سيقابَل “بإجراءات ردعية متكافئة”.
اللافت هنا ليس مضمون التصريحات فحسب؛ بل توزيع الأدوار داخل القيادة الروسية؛
هذا التوازن يعكس ما يمكن وصفه بعقيدة روسية جديدة يمكن تسميتها بـ”الردع المُتحكَّم فيه”، أي إبقاء البنية النووية في حالة استعداد دائم، دون خرق المعاهدات أو الانجرار إلى سباق تسلح معلن.
ثالثًا- القراءة المؤسسية والإعلامية في الداخل الروسي
الصحف والمواقع الروسية الرئيسة التي علقت سريعًا على الاجتماع، والتي طالتها يدي، فسر بعضها الاجتماع بأنه “اختبار للشفافية النووية”، ورسالة للغرب بأن موسكو قادرة على الجمع بين الردع والانضباط القانوني.
والبعض اعتبر أن لجوء الكرملين إلى العلنية يخدم هدفين: طمأنة الداخل، وتحدي واشنطن في آنٍ واحد.
قراءة أخرى رأت أن إدخال وزير الدفاع ذي الخلفية الاقتصادية في صلب القرار النووي يمثل “دمجًا للاقتصاد في منظومة الردع”، وأنا أتفق بشدة مع هذا الطرح، فالتجارب النووية ليست نزهة للاقتصاد؛ بل عملية عالية التكلفة. ومع ذلك فهي أيضًا إشارة واضحة إلى أن الردع لم يعد وظيفة عسكرية صرفة؛ بل إستراتيجية وطنية تعبر جميع القطاعات.
والجانب المالي في هذا الخصوص يبرز إلى المقدمة؛ لأن إعادة تأهيل البنية التحتية في نوفايا زيمليا ومراكز الأبحاث في ساروف تتطلب استثمارات ضخمة، لكنها من جهة ثانية قد تحفز الاقتصاد العلمي، وتدعم الصناعات المدنية المتقدمة، على غرار مقولة “رب ضارة نافعة”.
ومع ذلك، ومن واقع قراءة لعبة الأدوار التي أشرت إليها أعلاه، يمكننا أن نفترض أن بوتين لا ينوي تجاوز المعاهدات الدولية؛ بل يسعى إلى رفع الكفاءة التقنية دون خرق التوازنات، أو على الأقل ألا يكون هو المبادر بخرق التوازنات، خصوصًا في الوضع الحالي، وخصوصًا أمام الصين والهند وشركاء آخرين.
لكن ما يمكننا الإقرار به بلا شك أو تردد أن هذا الاجتماع في الكرملين هو إعادة إدخال للعنصر النووي في الخطاب العام الروسي، على نحو لا لبس فيه بعد سنوات من التهميش الإعلامي؛ ما يعكس تطبيع فكرة الردع كأداة دفاعية يومية.
رابعًا- التحليل الإستراتيجي
من قراءة الموقف الروسي بعين التحليل يبدو أن موسكو بصدد الانتقال من مفهوم الردع النووي التقليدي إلى ما يمكن تسميته بالردع المتعدد الأبعاد، أي الذي لا يكتفي بمجرد التلويح بالنووي، فإعلان التجارب المحتملة، وهي تجارب تفجير نووي، ليس هدفًا عسكريًّا، بل هو -على الأغلب- من حيث الشكل والمضمون والتوقيت عبارة عن رسالة جيوسياسية تهدف إلى:
هذا التحول يعني أن السلاح النووي يعود مجددًا ليكون عنصر ضغط سياسي واقتصادي، وليس فقط وسيلة عسكرية.
وبهذا الشكل يمنح إعلان الجاهزية للتجارب الكرملين هامشًا أوسع في التفاوض، دون الحاجة أو اللجوء إلى تصعيد فعلي.
خامسًا- الانعكاسات الاقتصادية على الأوضاع والسياسية الداخلية
رغم الطبيعة العسكرية للملف، فإن أبعاده الاقتصادية لا تقل أهمية، فروسيا تواجه ضغوطًا متزايدة ومتنوعة:
من البدهي بالطبع أن نتوقع أن التحضيرات التقنية للتجارب قد توفر آلاف فرص العمل في القطاعات العلمية والتقنية، فضلًا عن إنعاش الصناعة النووية المدنية، مثلما وفرت مثلًا الحرب في أوكرانيا مئات الآلاف من فرص العمل للمتعاقدين للقتال الطوعي، برواتب مغرية، مع وزارة الدفاع الروسية.
لكن في المقابل، لا يجب أن نغفل أن أي انزلاق فعلي إلى سباق تسلح جديد سوف يثقل -بلا شك- كاهل الموازنة؛ ومن ثم سيقلص القدرة على تمويل البرامج الاجتماعية التي أشرنا إليها.
داخليًّا، يوظف الكرملين هذا الملف في تعزيز الهوية الدفاعية الوطنية، من خلال خطاب حماسي لكنه هادئ اللهجة، يربط بين السيادة والقدرة على الرد؛ وهنا يتضح البعد النفسي للردع: إقناع المواطن الروسي بأن بلاده بالرغم من كل التهديدات والتصعيد هي “محصّنة”، وأن أي ضغط خارجي لن يؤدي إلى تراجعها، أو إضعاف قدراتها.
سادسًا- كيف جاء التفاعل الغربي والأطلسي؟
اتجهت ردود الفعل الأوروبية الأولية -وفقًا لما طالته يدي، خصوصًا السريعة منها التي جاءت من بروكسل ووارسو- نحو الحذر. في المقابل، تلتزم واشنطن بالصمت الرسمي حيال تصريحات بيلواوسوف، مكتفية بإعادة تأكيد التزامها بالحفاظ على بنية الردع المتبادل”، لكن الأوساط التحليلية الأمريكية تتخوف، أو لنقل تنظر بجدية إلى تحول موسكو من “الردع اللفظي” إلى “الردع القابل للتنفيذ”؛ ما قد يفرض على الناتو إعادة تقييم وضعه النووي في أوروبا.
سابعًا- التقدير العام
إذا تحدثنا من منظور علم العلاقات الدولية، يمكن اعتبار اجتماع الكرملين مؤشرًا على ولادة جيل ثالث من الردع الروسي، يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسة:
١- الردع الرمزي، وهو يتحقق من خلال إحياء الخطاب النووي في الفضاء العام لتأكيد الشرعية السيادية.
٢- الردع التقني والفني، وذلك من خلال إعادة تفعيل البنية البحثية والعلمية بما يضمن الجاهزية دون التجربة.
٣- الردع السياسي والاقتصادي، من خلال استخدام السلاح النووي بوصفه عنصر ضغط لتعديل ميزان القوى في مواجهة العقوبات.
هذه المقاربة البوتينية تعبر -من وجهة نظري- عن عقلانية روسية جديدة لا تسعى إلى سباق تسلح كلاسيكي، تدرك أنها غير قادرة عليه الآن، بل تدخل في سباق على إعادة تعريف القوة نفسها، بحيث تصبح القدرة على التحكم في التصعيد أهم من التصعيد نفسه.
ثامنًا- تقييم المخاطر والفرص
المخاطر:
١- احتمال سوء تفسير الرسائل الروسية من جانب الغرب، وتحويلها إلى ذريعة لتوسيع النشاط العسكري الأطلسي.
٢- الضغط المالي الداخلي في حال تحول التحضيرات إلى برنامج مكلف طويل الأمد.
٣- إمكانية فتح سباق نووي إقليمي يشمل الصين، وكوريا الشمالية، والولايات المتحدة.
الفرص:
١- تعزيز صورة روسيا كقوة مسؤولة تحافظ على التزاماتها القانونية، لكنها لا تسمح بتهميشها.
٢- خلق حالة وطنية بشأن مشروع علمي وصناعي يعيد الثقة بالقدرات الذاتية.
٣- استخدام الجاهزية النووية ورقة تفاوضية في ملفات الطاقة والعقوبات والتوازن الأوروبي.
تاسعًا- تقدير موقف
يظهر اجتماع الكرملين أن موسكو دخلت مرحلة الردع ما قبل التجربة، وهي مرحلة انتقالية تُبقي فيها روسيا على التزامها القانوني، لكنها ترفع سقف الجاهزية إلى الحد الذي يجعل أي تحرك أمريكي غربي محفوفًا بالمخاطر.
وبهذا المعنى، لا تُعلن موسكو أو تطلق سباق تسلح؛ بل تدير ما يمكن تسميته بسباق الإدراك والتصور مع الغرب، أقصد سباق السيطرة على الصورة الذهنية للقوة. فالردع هنا لا يقوم على التفجير؛ بل على القدرة على الإقناع بأن التفجير ممكن في أي لحظة؛وبذلك لا تصبح معادلة الردع الروسية الجديدة معادلة عسكرية بحتة؛ بل منظومة مركبة وشاملة توظف الاقتصاد والعلم والإعلام والقانون الدولي كأدوات تكاملية لردعها؛ وبهذا تتحول روسيا من دولة دفاعية إلى فاعل إستراتيجي يعيد تعريف مفهوم الأمن الدولي من موقع المبادر لا المتلقي، الذي كانت تشغله أكثر من ثلاثة عقود.
في ضوء كل ما ذكر أعلاه، يمكن القول إن اجتماع 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يشكل نقطة تحول جديدة في هندسة الردع العالمي، لحظة انتقال روسيا من مرحلة الصمود إلى مرحلة فرض الإيقاع، في ملف إستراتيجي بالغ الخطورة، وهي مرحلة تتطلب مراقبة دقيقة؛ لأن أي خلل في ضبط الإيقاع بين الالتزام والمعاينة الفنية والتقنية قد يضع العالم أمام صورة المواجهة النووية الكاملة بجد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير