أبحاث ودراسات

خط دوران.. جذور النزاع الأفغاني- الباكستاني وتأثيره في التوازن الإقليمي بجنوب آسيا


  • 16 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: foreignpolicy

يُعد الصراع العسكري بين أفغانستان وباكستان واحدًا من أكثر النزاعات تعقيدًا في تاريخ جنوب آسيا، حيث تمتد جذوره إلى عصر الاستعمار البريطاني، ويستمر حتى اليوم بوصفه عاملًا رئيسًا في تشكيل الديناميكيات الأمنية الإقليمية. يركز هذا الصراع على خط دوران، الخط الحدودي الذي رسمته بريطانيا عام 1893 لفصل إمارة أفغانستان عن الهند البريطانية، والذي أصبح بعد استقلال باكستان عام 1947 حدًّا دوليًّا غير معترف به من جانب كابُل. هذا الخط، الذي يمتد إلى أكثر من 2600 كيلو متر، لا يقسم أراضي فحسب؛ بل يقسم شعوبًا وثقافات، خاصة قبائل البشتون التي تعيش على الجانبين، مما يجعله مصدرًا للتوترات العسكرية المتكررة والنزاعات الحدودية.

في سياق تاريخي، يعكس الصراع صراعًا أعمق بشأن الهوية الإثنية والسيادة، حيث رفضت أفغانستان الاعتراف بخط دوران كحدود دولية، معتبرة إياه اتفاقًا قسريًّا فرضته بريطانيا لأغراض إستراتيجية خلال “اللعبة الكبرى” بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية. هذا الرفض أدى إلى سلسلة من الاشتباكات العسكرية، بدءًا من الغارات الحدودية في الأربعينيات من القرن الماضي وصولًا إلى الاشتباكات الدامية في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، التي أسفرت عن عشرات القتلى وإغلاق الحدود، مما يبرز استمرارية النزاع كعامل مزعزع للاستقرار. تداعيات هذا الصراع لا تقتصر على الجانبين، بل تمتد إلى الأمن الإقليمي في جنوب آسيا، حيث يتداخل مع التوترات بين الهند وباكستان، ويؤثر في تدفق اللاجئين، والإرهاب عبر الحدود، والاقتصادات المحلية. في هذا الظرف التاريخي والجيوسياسي المُعقد، يبرز العامل الهندي بوصفه عاملًا حاسمًا، إذ تسعى نيودلهي إلى تعزيز نفوذها في كابل لمواجهة إسلام آباد، مما يحول النزاع الأفغاني- الباكستاني إلى جزء من المنافسة الإقليمية الأوسع.

تفكيك تاريخي للصراع الأفغاني- الباكستاني

بدأ السياق التاريخي للصراع الأفغاني- الباكستاني مع الحروب البريطانية- الأفغانية في القرن التاسع عشر، حيث سعى البريطانيون إلى إنشاء منطقة عازلة أمام التوسع الروسي. الحرب الأنجلو- أفغانية الأولى (1839- 1842) انتهت بهزيمة البريطانيين، مما دفع إلى إعادة التفكير في الإستراتيجية، ثم جاءت الحرب الثانية (1878- 1880)، التي أدت إلى معاهدة غندامك، حيث تنازلت أفغانستان عن مناطق حدودية لصالح الهند البريطانية. في عام 1893، وقع الدبلوماسي البريطاني مورتيمر دوران اتفاقًا مع أمير أفغانستان عبد الرحمن خان، رسم خطًا يفصل المناطق تحت السيطرة البريطانية عن أراضي أفغانستان، مع التركيز على منع التدخل المتبادل. كان الاتفاق قصيرًا، يتكون من صفحة واحدة، وحُدِّد من خلال مسح مشترك بين عامي 1894 و1896، لكن الأفغان لم يعدّوه حدودًا دائمة، بل ترتيبًا مؤقتًا للنفوذ.

أكدت معاهدة راولبيندي عام 1919، بعد الحرب الأنجلو- أفغانية الثالثة، على الخط كحدود، وعُدِّلَ قليلًا عام 1921 قرب ممر خيبر. مع استقلال باكستان عام 1947، ورثت إسلام آباد الاتفاقيات البريطانية، معتبرة الخط حدًّا دوليًّا بناءً على مبدأ “التمتع بالحيازة القانونية”، لكن أفغانستان رفضت ذلك، مطالبة بـ”بشتونستان” كدولة مستقلة للقبائل البشتونية المقسمة. في عام 1949، عقد مجلس كبير أفغاني أعلن أن الخط “خياليّ”، وغير ملزم، بعد قصف باكستاني لقرية أفغانية ردًّا على هجمات حدودية. تصاعد التوتر في الخمسينيات، حيث حاولت أفغانستان دعم الثوار البشتون في باكستان، مما أدى إلى إغلاق الحدود وانسحاب الدبلوماسيين.

في الستينيات، اندلعت اشتباكات كبرى في ممر خيبر، حيث قصفت القوات الباكستانية الجوية مواقع أفغانية، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية في سبتمبر (أيلول) 1961، بعد دعم كابُل انتفاضة في بهجور. كانت هذه الفترة مملوءة بالدعاية المعادية، حيث اتهمت أفغانستان باكستان بقمع البشتون، في حين رأت إسلام آباد في كابُل تهديدًا لسيادتها. مع غزو السوفيت أفغانستان عام 1979، تحولت باكستان إلى مركز للمجاهدين، مدعومة من الولايات المتحدة، مما أدى إلى انتهاكات جوية وبرية متبادلة، مثل قصف أفغاني لمناطق باكستانية عام 1984، أسفر عن مقتل 32 شخصًا. انسحاب السوفيت عام 1989 أدى إلى حرب أهلية في أفغانستان، ودعم باكستان للطالبان في التسعينيات، الذين رفضوا الاعتراف بالخط دوران، معتبرين الحدود “غير إسلامية”.

في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع حرب الولايات المتحدة على الإرهاب، زادت الانتهاكات، حيث استخدمت باكستان الخط كحاجز ضد التمرد، لكن “طالبان” عاد إلى العمل من الجانب الباكستاني، مما أدى إلى اشتباكات، مثل تلك في “أنغور أدا” عام 2007، حيث هدمت القوات الأفغانية سياجًا باكستانيًّا. بناء سياج حدودي باكستاني بدءًا من عام 2016، اكتمل بنسبة 98% بحلول 2023، أثار توترات إضافية، مع إغلاقات متكررة للمعابر، مثل تورخام وتشامان، مما أدى إلى خسائر اقتصادية تصل إلى ملايين الدولارات.

في السنوات الأخيرة، مع عودة طالبان إلى السلطة عام 2021، تصاعد الصراع، حيث اتهمت باكستان كابُل باستضافة حركة طالبان باكستان (TTP)، مما أدى إلى غارات جوية باكستانية في باكتيا عام 2024، أسفرت عن مقتل عشرات، واشتباكات في كونار عام 2025، حيث قُتل مسؤول أفغاني. هذا التاريخ يظهر كيف تحول خط دوران من اتفاق استعماري إلى مصدر للعنف المستمر، يعوق أي تقارب بين البلدين.

أبعاد الصراع الأفغاني- الباكستاني

تتجلى تداعيات الصراع العسكري الأفغاني- الباكستاني في أبعاد متعددة، اقتصادية واجتماعية وأمنية، تجعلها تهديدًا إقليميًّا مستمرًا. على الصعيد العسكري، أسفرت الاشتباكات عن خسائر بشرية فادحة، على سبيل المثال، في يونيو (حزيران)- يوليو (تموز) 2011، أدى قصف باكستاني لمناطق أفغانية إلى مقتل 42 مدنيًّا، في حين ردت أفغانستان بقصف أسفر عن مقتل 4 جنود باكستانيين. في الفترة الأخيرة، أدت الاشتباكات في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، خاصة في سبين بولدك وكرام، إلى مقتل عشرات الجنود والمدنيين، مع إعلان وقف إطلاق نار مؤقت لمدة 48 ساعة بعد تبادل إطلاق نار دامٍ. هذه الاشتباكات ليست عرضية؛ وإنما جزء من نمط يشمل غارات جوية وانتهاكات جوية، كتلك التي نفذتها باكستان في باكتيكا عام 2024، مما أثار انتقادات أفغانية ووعودًا بالانتقام.

اقتصاديًّا، يعوق الصراع التجارة عبر الحدود، حيث يُعد خط دوران ممرًّا حيويًّا للصادرات الأفغانية إلى باكستان، وإغلاق المعابر، مثل تشامان في 2017، أدى إلى خسائر تصل إلى 90 مليون دولار للاقتصاد الأفغاني في أسابيع قليلة. التهريب، الذي يشكل مصدر دخل رئيسًا للقبائل، يتفاقم بسبب السياج الباكستاني، مما يعزز الاقتصاد غير الشرعي للمخدرات والأسلحة، حيث ينتج أفغانستان 93% من الأفيون العالمي، ويتدفق معظمها عبر باكستان.

اجتماعيًّا، يفاقم النزاع أزمة اللاجئين؛ حيث استقبلت باكستان ملايين الأفغان خلال الحرب السوفيتية، لكنها أعادت ترحيل نحو مليون منذ عام 2023، مما أثار توترات إنسانية، واتهامات بالانتهاكات. هذا الترحيل يزيد الضغط على المجتمعات الحدودية، حيث تعاني قبائل البشتون والبلوش الانقسام العرقي، مما يغذي الحركات الانفصالية، مثل تحريك طالبان باكستان، وجيش تحرير بلوشستان. أمنيًّا، يُعد الخط ملاذًا آمنًا للإرهابيين. بعد عام 2001، أدى التمرد الطالباني إلى زيادة الهجمات عبر الحدود، مع استخدام الولايات المتحدة طائرات بدون طيار من أفغانستان لاستهداف باكستان، مما أثار غضبًا شعبيًّا.

في عام 2025، أدى الصراع إلى تصعيد هجمات طالبان في باكستان، حيث ارتفع عدد القتلى بنسبة 45%، وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي، مع اتهامات متبادلة باستضافة الجماعات الإرهابية. هذه التداعيات تتجاوز الحدود، حيث يؤثر النزاع في الاستقرار بآسيا الوسطى، ويجعل جنوب آسيا منطقة عرضة للتطرف، مع تعزيز دور باكستان كـ”عمق إستراتيجي” ضد الهند، لكنه يعود عليها بالسلب من خلال التمرد الداخلي.

العامل الهندي في الصراع الأفغاني- الباكستاني

يُشكل العامل الهندي في الصراع الأفغاني- الباكستاني عنصرًا حاسمًا، يعكس المنافسة الجيوسياسية بين نيودلهي وإسلام آباد، حيث تسعى الهند إلى تحييد نفوذ باكستان في كابُل لتعزيز أمنها الإقليمي. تاريخيًّا، دعمت الهند التحالف الشمالي ضد طالبان في التسعينيات، واستثمرت ثلاثة مليارات دولار في مشروعات أفغانية قبل عام 2021، بما في ذلك تدريب الجيش، والبنية التحتية، مما أثار غضب طالبان، الذين هاجموا مصالح هندية، مثل السفارة في كابُل عام 2009.

بعد عودة طالبان، أغلقت الهند سفارتها، لكنها أعادت فتح بعثة فنية عام 2022، وقدمت مساعدات إنسانية، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 عينت كابل سفيرًا في نيودلهي. تصاعد التقارب في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، مع زيارة وزير الخارجية الطالباني أمير خان إلى الهند، مما أدى إلى إعلان إعادة فتح السفارة الكاملة في كابل، واتفاقيات بشأن التعدين، والتعليم، والرحلات الجوية. يدفع هذا التقارب براغماتية؛ إذ ترى الهند في طالبان “شرًّا أقل” مقارنة بـ”داعش خراسان”، وتسعى إلى منع أفغانستان من أن تكون قاعدة للإرهاب ضد الهند، خاصة بعد إدانة طالبان لهجوم في كشمير عام 2025. كما يهدف إلى تعزيز الاتصال الإقليمي عبر ميناء چابهار في إيران، لتجاوز باكستان في التجارة مع آسيا الوسطى.

فيما يتعلق بطالبان، يوفر التقارب شرعية دبلوماسية، وتنويعًا اقتصاديًّا، خاصة مع تراجع المساعدات الغربية، ويُضعف باكستان التي اتهمت الهند بإثارة التوترات من خلال دعم الانفصاليين البلوش. هذا الدور يُفاقم التوترات بين الهند وباكستان، حيث يُرى في إسلام آباد على أنه محاولة للالتفاف حول “العمق الإستراتيجي” الباكستاني، مما يجعل الصراع الأفغاني جزءًا من المنافسة النووية في المنطقة. ومع ذلك، يبقى التقارب محدودًا بسبب الاختلافات الأيديولوجية، مثل قيود طالبان على المرأة، لكنه يُعيد تشكيل التحالفات، محولًا أفغانستان إلى حليف محتمل للهند ضد باكستان.

خاتمة: انعكاسات الصراع الأفغاني- الباكستاني على الأمن الإقليمي

في سياق الأمن الإقليمي في جنوب آسيا، يُعد الصراع الأفغاني- الباكستاني، مع تدخل العامل الهندي، نموذجًا لكيفية تشكيل الخطوط الاستعمارية للمعقدات الأمنية الإقليمية. خط دوران، إلى جانب خط رادلكليف (بين الهند وباكستان)، وخط ماكماهون (بين الهند والصين)، تُعيد إنتاج التوترات العرقية والقومية، مما يخلق دوامة من الاعتماد المتبادل والعداء. في المنطقة، يتداخل النزاع مع المنافسة الهندية- الباكستانية على كشمير، حيث يُستخدم نفوذ باكستان في أفغانستان لدعم الجماعات المعادية للهند، في حين تسعى نيودلهي إلى حلفاء في كابُل لموازنة ذلك. دخول الصين عبر الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني يُعقد الأمر، حيث ترى الهند فيه محاصرة، ويُشجع طالبان على صفقات نفطية مع بكين عام 2023. هذا الثالوث الأفغاني- الباكستاني- الهندي يُولد تهديدات غير تقليدية، مثل تدفق المخدرات واللاجئين، والإرهاب عبر الحدود، مما يُضعف الاستقرار الإقليمي، ويعوق التنمية. لمواجهة ذلك، يتطلب الأمر حوارًا إقليميًّا يعترف بالإرث الاستعماري، ويُعزز التعاون في مكافحة الإرهاب، لكن المنافسات الحالية تحول دون ذلك.

في الختام، يُبرز الصراع الأفغاني- الباكستاني، الذي يستمر في إنتاج دورات من العنف والتوترات الإقليمية، كيف يظل الإرث الاستعماري لخط دوران قيدًا يقيد الاستقرار في جنوب آسيا، مع تداعيات تتجاوز الحدود لتشمل الأمن الإقليمي بكامله. قد يُعيد دور الهند كعامل توازن رسم الخريطة الجيوسياسية، من خلال تقاربها المتزايد مع طالبان، لكن هذا التقارب وحده لا يكفي لكسر الدائرة؛ إنما يتطلب السلام اعترافًا مشتركًا بخط دوران كأساس للحوار، وجهودًا ملموسة للتنمية المشتركة، مثل مشروعات الطاقة والتجارة عبر الحدود، بالإضافة إلى آليات إقليمية لمكافحة الإرهاب تتجاوز الاتهامات المتبادلة. من دون هذه الخطوات المسؤولة، سيظل النزاع مصدرًا للعنف المستمر، يهدد بتحويل جنوب آسيا إلى برميل بارود ينفجر؛ لذا يجب على القادة في كابُل وإسلام آباد ونيودلهي التحرك نحو اتفاق دائم، كضرورة حتمية لمستقبل المنطقة بأسرها.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع