أبحاث ودراسات

النفوذ عبر الذرة.. هل يتحول مشروع المفاعلات النووية في إيران إلى أداة للهيمنة الروسية؟


  • 7 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: france24

في إطار إستراتيجية روسيا لتوظيف خبرتها النووية كأداة نفوذ على غرار التحركات الأخيرة المشابهة في إثيوبيا والنيجر، وقبل أيام من تفعيل آلية الزناد رسميًّا على إيران، اختارت موسكو وطهران تعميق شراكتهما من خلال توقيع مذكرة تفاهم نووية تحمل في طياتها أبعادًا تتجاوز مجال الطاقة المدنية. هذه الاتفاقية ليست مجرد مشروع لبناء مفاعلات نووية، بل تمثل انعكاسًا لتحول أعمق في طبيعة العلاقة بين الطرفين من تعاون تقني متقطع إلى تحالف إستراتيجي يربط الأمن بالاقتصاد والسياسة بالطاقة، حيث تزداد أهمية هذه الشراكة في ظل الضغوط الغربية المتزايدة على الطرفين؛ ما يجعلها أداة لتحدي موازين القوى التقليدية في المنطقة، ومن ثم تفتح هذه الخطوة الباب أمام تساؤلات كثيرة لعل من أبرزها: هل تمنح الاتفاقية الجديدة إيران استقلالية أكبر في مواجهة الغرب، أم أنها تكريس لاعتماد طويل المدى على موسكو؟ وهل تسعى روسيا من خلال هذا المشروع إلى بناء نفوذ دائم في الشرق الأوسط يوازن خسائرها في أوروبا، أم أن طهران هي المستفيد الأكبر من توظيف الدعم الروسي لتعزيز مكانتها الإقليمية؟ بهذه الأسئلة وغيرها، يصبح التحالف الروسي الإيراني في إطار الاتفاق الجديد نقطة اختبار حقيقية لمعادلات القوة في الشرق الأوسط، وعنوانًا لصراع الشرق والغرب في مرحلة يعاد فيها تشكيل قواعد اللعبة الدولية.

الأبعاد الإستراتيجية للتعاون النووي بين إيران وروسيا

بدأ التعاون النووي بين إيران وروسيا في تسعينيات القرن الماضي مع مشروع محطة بوشهر، الذي شكل أول تجسيد عملي لشراكة تقنية إستراتيجية بين الطرفين، ورغم العراقيل الفنية والضغوط الدولية وقعت روسيا وإيران اتفاقية لمواصلة بناء المحطة في 1992، وأصرت موسكو على استكمال المشروع، وتزويد إيران بالخبرة والوقود النووي اللازم. وفي سبتمبر (أيلول) ٢٠١١ رُبطت أول وحدة طاقة بالشبكة، وسُلِّمت رسميًّا إلى إيران في سبتمبر (أيلول) ٢٠١٣؛ ما جعل موسكو الشريك الأبرز لطهران في مجال التكنولوجيا النووية. هذا الإرث التأسيسي خلق أرضية من الثقة المتبادلة في الملفات العلمية والتقنية، وأظهر لإيران أن روسيا قادرة على تلبية احتياجاتها في المجالات التي يرفض الغرب التعاون فيها مع إيران.

غير أن تنامي العقوبات الغربية على إيران أدى دورًا محوريًّا في دفع طهران نحو الشرق وتعزيز اعتمادها على موسكو، فمع كل جولة من العقوبات الأمريكية والأوروبية، تراجعت فرص إيران في الحصول على المعدات والخبرات من الأسواق الغربية، في حين ظلت روسيا مستعدة -بحذر- لملء هذا الفراغ، ومن هذا برزت روسيا بوصفها نافذة إيران إلى التكنولوجيا النووية، ليس فقط كمزود للمفاعلات، بل أيضًا كضامن لاستمرار تطوير قدراتها النووية المدنية في ظل القيود المفروضة.

وترسيخًا لهذا الدور، وفي إطار تنفيذ اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين البلدين، وقعت شركة إيران هرمز الممثلة لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية وشركة روساتوم الروسية على صفقة بناء أربعة مفاعلات نووية من الجيل الثالث في منطقة سيريك بمقاطعة هرمزجان جنوبي إيران بقيمة 25 مليار دولار في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) المنصرم يهدف توليد كل وحدة نحو 1255 ميجاوات من الكهرباء، حيث تبلغ القدرة الإجمالية للوحدات الأربع نحو 5020 ميجاوات، وتزامن هذا التعاون النووي مع توقيع معاهدات اقتصادية وتجارية ودفاعية شاملة، هذا التشابك المتعدد الأبعاد يعكس تحول العلاقة من مجرد تعاون نووي معزول إلى شراكة متكاملة تشمل الطاقة والأمن والبنية التحتية، وهو ما يعزز الرؤية الإيرانية بأن المستقبل يكمن في التوجه شرقًا لبناء بدائل عن الغرب.

يكشف تاريخ التعاون بين البلدين أن التعاون الروسي عادةً ما يشمل عناصر معقدة؛ تصميمات، وإمدادات وقود، وخبرات تشغيلية وصيانة. هذا النمط يولد لدى الدولة المتلقية -إيران- فوائد فورية، لكنه ينسج معها تبعية تقنية؛ لأن استمرار التشغيل والقدرة على تحديث الأنظمة مرتبطة بخدمات ومكونات خارجية لا يمكن استبدالها بسرعة، فالسيطرة على دورة الوقود والتشغيل تصبح مفتاحًا للنفوذ، ويرتبط هذا بالعقود التي تُبرمها شركات مثل روساتوم، حيث تتضمن بنودًا طويلة الأمد عن تزويد الوقود، وإدارة النفايات، وحق التشغيل أو الدعم التقني الممتد. هذه الآليات تمنح الطرف الروسي قدرة على ربط استمرار الخدمة بمستوى التعاون السياسي أو بتسويات مالية وقانونية؛ ما يجعل العقد نفسه أداة ضغط محتملة.

لا تكتفي روسيا بتصدير مفاعل؛ بل تبني علاقات مؤسسية عبر شبكات تمويل وشراكات صناعية وتدريب كوادر، وهذا يُحول البنية التحتية الطاقية إلى شبكة علاقات سياسية، حيث إن قدرة موسكو على التأثير لا تأتي من بند واحد، بل من تراكم عقود، وصلات مالية وقانونية متقاطعة تربط اقتصاد إيران بمؤسسات روسية على مدى عقود. هذا الأسلوب فعال، لا سيما عندما يكون الشريك الغربي غير متاح بسبب العقوبات، ومن منظور إستراتيجي إقليمي، فإن مشروع نووي جديد يدعم رواية طهران بشأن قدرتها على بناء بنيات مدنية متقدمة، وهو ما يرفع ثقلها التفاوضي في مواجهة خصوم إقليميين وغربيين. في المقابل، تستخدم موسكو هذا النفوذ لإظهار أنها اللاعب القادر على كسر عزلة طهران؛ ومن ثم تكتسب موطئ قدم جيوسياسي في منطقة تعد محورًا لحركة الطاقة العالمية، وهو ما يعيد رسم خرائط المصالح في الخليج والشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة.

مكاسب طهران

إن الاتفاق الذي أعلنته طهران وموسكو لبناء أربعة مفاعلات نووية في أواخر سبتمبر (أيلول) المنصرم، يجب قراءته ليس بوصفه صفقة طاقة فحسب؛ بل أداة جيواقتصادية وسياسية يمكن لإيران تحويلها إلى سلسلة مكاسب إستراتيجية، تتمثل أبرزها فيما يلي:

  1. أمن طاقي واستقلالية في التوليد الكهربائي: أول وأثرى مكاسب طهران من المشروع هو زيادة القدرة الكهربائية المستقرة وتنويع مصادر الطاقة، فبناء مفاعلات نووية إضافية يخفض الاعتماد الداخلي على النفط والغاز للتوليد الكهربائي؛ ما يحرر كميات أكبر من الوقود التقليدي للتصدير، ويقلل حساسية الاقتصاد الوطني لصدمات أسواق الطاقة، ما يعزز الاستقرار الصناعي، ويمنح الدولة هامشًا للحركة أكبر في السياسات الاقتصادية والمالية، كما سيُولد المشروع فرصًا استثمارية محلية وأجنبية لشركات مقاولة وخدمات لوجستية وشركات مواد بناء متخصصة، ويوفر وظائف مباشرة وغير مباشرة، ويحفز نموًا في قطاعات هندسية وصناعية مرتبطة بالطاقة.
  2. تكثيف رأس المال التكنولوجي وبناء القدرات البشرية: الاتفاقيات مع شركة روساتوم الروسية تنطوي على نقل معرفة فنية وبرامج تدريب ومشروعات بنية تحتية مصاحبة من خلال بناء شبكات ومحطات تحويل وإدارة نفايات؛ ما يخلق فرصة لإعادة بناء قاعدة تقنية محلية وتدريب مهندسين ومشغلين وتطوير صناعات داعمة، وعلى المدى المتوسط يمكن أن تستثمر طهران هذه السعة البشرية في مشروعات صناعية طاقة مكثفة، مما يرفع القيمة المضافة للاقتصاد الإيراني، ومع ذلك يبقى شرط نقل التكنولوجيا عمليًّا رهين بنود العقود، ودرجة التزام الطرف الروسي.
  3. تعزيز الموقف التفاوضي في مواجهة الضغوط والعقوبات: في سياق عودة التوتر الدولي وإعادة فرض آلية الزناد، تشكل شراكات إستراتيجية واسعة مع قوى كبرى ورقة تفاوضية مهمة لطهران، حيث إن امتلاك مشروع نووي مدني يدعم رواية الدولة بأنها ليست معزولة اقتصاديًّا، وأن لديها شركاء جيوسياسيين مستعدين للتعامل، ما يمد المفاوض الإيراني بوقائع واقتصادية وسياسية يطرحها في أي حوار دولي، وهو ما يعزز قدرة إيران على امتصاص ضغوط خارجية وفتح قنوات بديلة للتعاون الاقتصادي.
  4. خلق بدائل مؤسسية ومالية لتجاوز عزلة النظام المالي الدولي: لا يقتصر المشروع الروسي على بُعد فني؛ بل يرتبط بأطر تمويلية وشبكات تبادل تجاري ومصرفي بديلة؛ ما يساعد إيران على تقليل تكلفة العزلة المالية، بما ينسجم مع توجهات طهران للانخراط في مؤسسات إقليمية بديلة تسهل استمرارية السلع والخدمات الأساسية في أثناء العزلة الإقليمية والدولية.
  5. ترسيخ الشراكة مع موسكو كشبكة تأمين جيوسياسي: تأتي الصفقة النووية ضمن حزمة علاقات إستراتيجية أوسع بين طهران وموسكو عبر معاهدة الشراكة لمدة 20 عامًا، واتفاقيات التعاون العسكري والتقني بين البلدين؛ لذلك تُعد المفاعلات جزءًا من شبكة تأمين تتيح لطهران نفاذًا إلى سوق روسي واسع وتقاسم مصالح أمنية وسياسية، ما يخفف من ضغط العزلة المفروضة عليها من الغرب، ويمنحها أداة توازن في مواجهة سيناريوهات أمنية إقليمية.

المخاوف الإيرانية

يثير الاتفاق الجديد بين موسكو وطهران بشأن المفاعلات النووية الإيرانية مجموعة من المخاطر الإستراتيجية ذات الأمد المتوسط والطويل، قد تتحول إلى عامل ضغط خارجي يقيد هامش القرار الإيراني خلال السنوات المقبلة، من أبرزها التالي:

  • الاعتماد التقني والهيمنة على دورة الوقود: تتضمن العقود النموذجية لمشروعات المفاعلات عناصر تشغيلية وتمويلية طويلة الأمد، فإذا بقيت هذه الوظائف الأساسية في يد طرف واحد، وهي شركة روساتوم الروسية، فإن قدرة إيران على إدارة تلك الدورة على نحو مستقل تصبح محدودة؛ ما يخلق نفوذ لقدرة الطرف المزود على إبطاء أو تعديل الإمدادات التقنية كأداة للضغط السياسي، أو لإعادة التفاوض على شروط أوسع. هذه الديناميكية تزيد هشاشة سيادة القرار الإيراني، خاصةً في وقت التوتر مع روسيا.
  • الابتزاز الاقتصادي والسياسي: تمثل المشروعات الكبرى أيضًا شبكات مالية وقانونية من خلال التسويات، والقروض، وعقود توريد طويلة الأمد؛ لذا فإن ربط جزء مهم من الاستثمارات الإشرافية والتمويلية بمزود واحد قد يمنح الطرف الروسي قدرة على ربط استمرار المشروعات بشروط سياسية أو اقتصادية لاحقة، كربط مشروعات تالية بتبادل نفطي، أو ربط ترتيبات مالية بشروط سياسية في ظل وجود عقوبات دولية، وقيود على النظام المالي الدولي.
  • التسريبات التقنية: عند توقيع بنود لنقل تقنية، فإن الأساليب العملية لنقل المعرفة قد تبقى مقيدة أو مصحوبة بشرطيات تشغيلية تعوق التوطين الكامل، وهذا يعني أن ما يبدو نقل تقنية قد يكون فعليًّا نقلًا جزئيًّا يترك إيران تعتمد على خبرات خارجية للتحديثات المستقبلية؛ ما يخلق قيود في جدولة التحديثات، أو الوصول إلى قطع الغيار اللازمة.
  • تحويل المشروع إلى ورقة في النزاعات الدولية: الصفقة تأتي في ظرف إقليمي ودولي مضطرب؛ ما يعني أن أي توتر بين موسكو والغرب، أو بين طهران وأطراف إقليمية، قد ينعكس مباشرة على مصير المشروع، كذلك فإن احتمال أن تُستهدَف البنى التحتية النووية سياسيًّا أو عسكريًّا من خلال حملات عرقلة، أو خيارات تصعيدية، يجعل المشروع شديد الحساسية.
  • التأثير في التوازنات الإقليمية: إعلان مشروع نووي واسع النطاق يشعل ردود فعل إقليمية ودولية؛ فدول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة قد تعيد ضبط سياساتها الأمنية والدبلوماسية لمواجهة هذا المشروع وانعكاساته؛ ما يرفع خطورة استهداف المصالح الإيرانية والروسية، ويعرقل الجهود الإيرانية لاستعادة العلاقات مع دول جوارها خاصة دول الخليج.
  • تضارب المصالح بين روسيا وإيران: العلاقات الروسية الإيرانية ليست تحالفًا متكافئًا؛ لكل طرف أولوياته وأدوات نفوذه، قد تتصادم مصالح موسكو مع مصالح طهران، فتجد إيران نفسها في مواجهة موازنة اختيارات روسية مضطربة، أو إعادة توجه إستراتيجي من جانب موسكو، لا سيما إذا تغيرت سياساتها الخارجية بسبب الحرب في أوكرانيا. في هذا السيناريو، يصبح استمرار الاعتماد على بنى تحكم روسية مخاطرة إستراتيجية للجمهورية الإسلامية.
  • خلاف داخلي: قد يعزز الاتفاق النووي الحالي بين إيران وروسيا من الانقسام السياسي الداخلي بين التيار الأصولي الذي سيروج للصفقة بوصفها دليل نجاح سياسة التوجه شرقًا، في حين ينتقد التيار الإصلاحي بنودًا عدة في الصفقة، لا سيما المخاوف المرتبطة بفقدان سيادة القرار الإيراني، أو عدم إتاحة فرص نقل تكنولوجيا حقيقية، وهو ما قد يولد ضغوطًا سياسية داخلية تؤثر في استمرارية المشروع، ما قد يؤدي إلى تحويل ملف تقني إلى أزمة شرعية خاصة في ظل تنامي الانتقادات للسياسة الخارجية الإيرانية الحالية.
  • توسيع نطاق العقوبات الثانوية: الاندماج الإيراني العميق مع شركات مملوكة للدولة مع دولة مثل روسيا تخضع بدورها لعقوبات قد يعرض مشروعات إيران لشمولية عقوبات ثانوية، أو قيود على شركائها التجاريين من دول ثالثة؛ ما يعرقل الوصول إلى تمويل دولي، أو معدات صيانة متقدمة، كما أن تزايد استهداف الأطر المالية قد يقوض قدرة إيران على إدارة التزاماتها المالية المتعلقة بالمشروع.

الارتدادات الإقليمية والدولية

تحمل هذه الصفقة انعكاسات عدة على أكثر من صعيد؛ إذ تُعد ذريعة لإعادة ترتيب المصالح المحلية والإقليمية والدولية، وتفتح مجالات جديدة للسياسة الخارجية الإيرانية مع أخطار وفرص متشابكة؛ فعلى الصعيد الإقليمي يمثل اتساع التعاون النووي الروسي الإيراني تهديدًا مباشرًا لدول الجوار الإقليمي، خاصة دول الخليج التي قد تفسر المشروع في إطار تعزيز قدرات الدولة الإيرانية المدنية والتقنية؛ ما يستدعي مراجعات أمنية خليجية لمواجهة الخطوات الإيرانية، كما أن الصفقة ترسخ معاهدة الشراكة الشاملة بين البلدين؛ ما يشير إلى توطيد محور أوسع بين طهران وموسكو -وربما مع الصين- في مجالات أمنية وبحرية مستقبلية؛ ما يمنح إيران موقعًا أكثر ثقلًا داخل شبكة جيوسياسية بديلة عن الإطار الغربي، ما يعزز قدرتها على المناورة الإقليمية وبسط النفوذ في المنطقة.

بالإضافة إلى هذا، فإن ازدياد الاعتماد على بنى نووية يرفع قيمة أهداف البنية التحتية للإرهاب، أو الضربات السيبرانية والاستخباراتية؛ لذلك قد تُكثف إيران استثماراتها في حماية هذه المنشآت، وربما تلجأ إلى التعاون مع شركاء آسيويين في برامج حماية، أو من خلال ضمانات أمنية مع روسيا، وهذا يزيد تداخل الأبعاد المدنية والعسكرية في السياسات الداخلية للجمهورية الإسلامية.

على الصعيد العالمي، فإن الصفقة جاءت في ظل بيئة دولية متوترة بشأن الملف النووي الإيراني؛ ما قد يُعطي دوافع للدول الغربية لفرض عقوبات إضافية، أو فرض قيود ثانوية على شركاء إيرانيين، لا سيما إذا رأت الدول الأوروبية أن هذا التعاون يُضعف تأثير الضغوط، أو يسهل تفادي العقوبات. فضلًا عن هذا، فإن تحويل البنية التحتية الحيوية لإيران إلى شبكة مشتركة مع روسيا يمنح موسكو قدرة نفاذ مؤسسي طويل الأمد، ليس فقط كموفر معدات؛ بل كضامن لعمليات التشغيل والتمويل، ما يعطي روسيا ورقة إستراتيجية يمكنها استخدامها في موازين القوى مع لاعبين آخرين، ويضع إيران في موقع تبعية تقنية جزئية ما لم تُدرج آليات توطين سريعة وفعالة.

وفي السياق نفسه، يضع أي توسع نووي إيراني في الفترة الحالية المجتمع الدولي أمام تحديات للتمييز بين برامج نووية مدنية وأخطار الانتشار النووي، خاصة في ظل نظرة وكالة الدولية للطاقة الذرية السلبية إلى تحركات إيران؛ ما قد يفضي إلى عزلة دبلوماسية متزايدة، ولعل الانعكاس الدولي الأهم لتلك الصفقة بين إيران وروسيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفتح مجال أكبر لتنسيق متعدد الأطراف، يشمل الصين ودولًا أخرى تبحث عن بدائل للنظام الاقتصادي الغربي؛ ما قد يؤدي إلى شبكات بديلة للتمويل والتجارة، وهو ما يدفع ديناميكية التكتلات الدولية بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية، مع ما يترتب على ذلك من إعادة لهندسة العلاقات الدولية.

محصلة القول أن الصفقة النووية الجديدة بين إيران وروسيا تتجاوز إطار التعاون التقني بين البلدين لتتحول إلى نقطة ارتكاز في المشهد الإستراتيجي الإيراني داخليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، فمن جهة، تمنح الاتفاقية طهران دفعة سياسية واقتصادية مهمة في مواجهة العقوبات الغربية، خاصة بعد بدء تفعيل آلية الزناد، وتوفر لها بنية تحتية نووية مدنية تُعزز مكانتها التفاوضية وقدرتها على المناورة، حيث تسعى إيران إلى استثمار الصفقة بوصفها أداة لإعادة صياغة توازنات القوة في الشرق الأوسط ، ومن جهة أخرى، تكشف عن أخطار مرتبطة بتكريس التبعية التكنولوجية لموسكو، وما قد يترتب على ذلك من قدرة روسية على التأثير في القرار الإيراني من خلال التحكم في مسارات الدعم الفني والوقود النووي، فقد تستخدمها موسكو ورقةً لتعزيز نفوذها في الخليج، وربط حضورها الأمني بمشروعات إستراتيجية طويلة المدى؛ ومن ثم فإن نجاح إيران في استثمار الاتفاق يتوقف على قدرتها على إدارة تلك المعادلة بذكاء، وتوظيف الصفقة أداة تمكين، وليس قيدًا جديدًا يحدّ من استقلالية قرارها الإستراتيجي.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع