مقالات المركز

قراءة في خطاب بوتين بمنتدى "فالداي" بسوتشي

هل روسيا نمر من ورق؟!


  • 4 أكتوبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: news.mail.ru

هل روسيا فعلًا نمر من ورق كما وصفها ترمب مؤخرًا بعد لقاءاته على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكما درجت بعض الأوساط الغربية على تصويرها منذ بداية الحرب في أوكرانيا؟

في خطابه المفاهيمي في منتدى “فالداي” الدولي للحوار في سوتشي، 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، وفي حديثه مع جمهور عريض من علماء السياسة وخبرائها من الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، أجاب بوتين عمليًّا عن هذا السؤال.

روسيا لا تواجه أوكرانيا وحدها، بل تواجه الناتو كله، بكل أنواع أسلحته وعتاده وخبرائه ومستشاريه العسكريين، ومع ذلك لم تفقد المبادرة في الميدان، بل يمتلك جيشها زمام المبادرة الإستراتيجية، وقدم الأدلة بالأرقام، فضلًا عن ذلك، لم تنهر تحت العقوبات؛ اقتصادها لم يسقط، جيشها لم يتفكك، ودبلوماسيتها لم تُعزل.

هذه العبارة أعلاه هي كلام الرئيس الروسي، ومنها أنطلق في التحليل. لقد صاغ بوتين بوضوح في هذا الخطاب والنقاش الذي تلاه الإطار الإستراتيجي للصراع الحالي، واصفًا إياه بأنه مواجهة مع الناتو.

قالها قيصر روسيا المعاصر، الذي رفض أن يُوصَف بالقيصر خلال النقاش، وأصر على تعريف نفسه بأنه رئيس روسيا.. (ونقطة).

قال بوتين إن روسيا تواجه الناتو، وهذا التصور -في رأيي- يمكن اعتباره في سياق خطاب الرئيس الروسي ليس توصيفًا إعلاميًّا، بل هو تثبيت للمعادلة الإستراتيجية.

فالمواجهة انطلاقًا من هذا التصور لم تعد حربًا روسية أوكرانية، بل صارت حربًا روسية أطلسية. والنتيجة المترتبة على ذلك أن كل ضربة أوكرانية على روسيا تراها موسكو والكرملين وبوتين ضربة من الناتو، وكل رد روسي موجه إلى التحالف بكامله.

هذا التوصيف، الذي لم يأتِ على لسان محلل سياسي أو مراقب عسكري؛ بل من فم رأس الدولة الروسية، المتزعم لمعركة كسر الهيمنة الأحادية للغرب في شؤون العالم السياسية والاقتصادية، يفتح الباب لتوسيع الردع، ويمنح الكرملين شرعية أمام الداخل لتبرير حرب طويلة ومكلفة؛ ولذلك كان الاقتصاد أيضًا عنصرًا أساسيًّا في حديث بوتين. فمنذ عام 2022 جُمدت أصول روسية، وفرضت عقوبات واسعة، بل غير مسبوقة في التاريخ، وكان التقدير الغربي، حزمة بعد أخرى، أن الاقتصاد الروسي سينهار سريعًا.

لكن بوتين في فالداي، كان له رأي آخر، فقال إن روسيا أعادت توجيه صادرتها شرقًا وجنوبًا، وعززت حضورها في بريكس، ووسعت شبكاتها المالية البديلة، فارتفع الإنتاج العسكري والصناعي الداخلي رغم الحصار، وهذا ما تؤكده بالفعل بيانات الهيئات الدولية؛ فقد بلغ معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الروسي 4.1% بختام عام 2024، بعدما تراجع بشدة عام 2022 على إثر الصدمة. وهذا الرقم أعلى بأضعاف من معدلات النمو في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو.

وهنا أستطيع القول -بوصفي مراقبًا من الداخل الروسي- أن الغرب أخطأ في حساب مرونة البنية الروسية، وقدرة الدولة على امتصاص الصدمات، بل لا يزال يمني النفس بذلك، وهو لا يزال مخطئ؛ فروسيا فعلًا لم تُكسر اقتصاديًّا ولا ماليًّا، على الأقل حتى الآن، بل استمرت، وتواصل تمويل الحرب، والأهم توسيع نشاطها التجاري خارج الدوائر الغربية المأزومة.

على المستوى العسكري، كان بوتين حريصًا على تقديم صورة دقيقة، فتحدث بالأرقام والأماكن والمحاور والجبهات. قال إن قوات مجموعة “المركز” دحرت القوات الأوكرانية ودفعتها إلى الوراء عن طريق تكتيك القضم البطيء، وهو ما أشرت إليه أكثر من مرة في مقالات سابقة.

وفي دونيتسك، رمز العملية العسكرية، تحقق مجموعة الشرق تقدمًا ملموسًا كل يوم، وقدم أرقامًا لافتة لخسائر الجيش الأوكراني (بالطبع لا نستطيع التحقق منها)، فقال إنه في سبتمبر (أيلول) وحده تكبدت القوات الأوكرانية 44 ألفًا وسبعمئة جندي، نصفهم خسائر نهائية، بمعنى أنهم قتلى، والباقي مصابون إصابات بالغة تحول دون قدرتهم على القتال. وأضاف أنه خلال الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى أغسطس (آب) من العام الجاري، سُجلت 150 ألف حالة فرار من الجيش الأوكراني مقابل 160 ألفًا تم تجنيدهم.

هذه الأرقام بالطبع تقدمها وتؤكدها القنوات الروسية الرسمية، وهي -إن صدقت- تضعف الخطاب الغربي الذي يحاول تصوير الجبهة الأوكرانية بالمستقرة. ومغذى رسالة بوتين بالطبع أن “النمر الورقي” ليس روسيًّا؛ بل أوكرانيًّا، والناتو من ورائها.

بوتين كان حريصًا كذلك على الإشارة إلى التحول في طبيعة الحرب الحديثة، وهذا ما أثبتته حرب أوكرانيا، فالحرب لم تعد حرب دبابات، بل حرب استنزاف نارية- تقنية. والمقصود أن الدبابة لم تعد أداة اختراق، بل كأنها مدفعية متحركة، فالحرب باتت تحكمها المسيرات، والمدفعية الدقيقة، والدفاع الجوي، والحرب الإلكترونية.

وقد فرض هذا التحول في طبيعة الحرب على الجيش الروسي إعادة تشكيل تكتيكاته بسرعة، وسرعة التكيف مع بيئة المسيرات والألغام هو الذي منح موسكو القدرة على الحفاظ على زمام المبادرة. وهذه أيضًا نقطة مركزية في نفي مقولة “نمر من ورق”.

لم يفوّت الرئيس الروسي ملف “توماهوك”، الذي أصبح حديث الساعة في الإعلام العالمي، ودوائر التحليل السياسي والعسكري خلال هذا الأسبوع. أكد بوتين أن إدخال “توماهوك” لن يغير المعادلة القائمة على الأرض، والأسباب واضحة: فالصاروخ يحتاج إلى منصات إطلاق، ودعم استخباري واستطلاعي أمريكي مباشر. وهو صاروخ خطير نعم، لكنه قديم، والوصف هنا لبوتين، ومساره تحت الصوتي يجعله قابلًا للاعتراض، وفضلا عن كل ذلك، فأثره سيكون تراكميًّا لا فاصلًا.

لكن الأهم -وفقًا لبوتين- أن “توماهوك” هو سلاح سياسي، بمعنى أن إدخاله يعني تورطًا أمريكيًّا مباشرًا. وهنا يمكن أن نفهم كلام بوتين على أن واشنطن إذا مضت بالفعل في هذا المسار، فستتلاشى حينئذ القدرة على التمييز بين “دعم” و”مشاركة” مباشرة في الصراع، والرد الروسي في هذه الحالة -وأقتبس هنا من تصريحات بوتين- “سيكون عن طريق توسيع بنك الأهداف، وشن ضربات أشد داخل أوكرانيا”، والرسالة للأوروبيين أيضًا: “أي انخراط إضافي ستدفعون ثمنه سياسيًّا وأمنيًّا”.

البحر الأسود وأسطول الظل

في رأيي بوصفي مراقبًا لخطاب بوتين، فإن كل ما ذكرته أعلاه -على أهميته- لا يقلق الرئيس الروسي مثلما يقلقه ويغضبه ما بدأ يتعرض له “أسطول الظل”. هذا ما لمسته، على قدر فهمي لعقل بوتين ونفسيته، وتعابيره خلال الحديث عن هذه المسألة، فبوتين خصص محورًا كاملًا في خطابه للبحر الأسود، وفي النقاش التالي للخطاب كان أكثر وضوحًا وحدة.

الهجمات الأوكرانية، المدعومة استخباريًّا وتوجيهًا غربيًّا بالطبع، والقرصنة ضد سفن أسطول الظل، لم تعد حوادث منفصلة. انفجر بوتين عند تناول حادثة توقيف فرنسا لإحدى الناقلات مؤخرًا بوصفها عملية “قرصنة” غير قانونية، وذهب أبعد من ذلك ليقول إن أي استهداف متواصل لهذه السفن هو عمل “عدائي” سيتم الرد عليه عسكريًّا.

أسطول الظل هو شبكة حيوية لنقل النفط، والسلع أيضًا، بعيدًا عن رقابة الغرب، وقد شكل متنفسًا رئيسًا للاقتصاد الروسي خلال السنوات الثلاث الماضية، وضربه يعني تهديد اقتصاد الدولة؛ لذلك كان بوتين شديد الوضوح في تحذيره (تهديده) الهجمات على الأسطول، ومحاولات القرصنة تفتح جبهة بحرية جديدة، وتجبر روسيا على تعزيز ردعها البحري.

ما فهمته من تحذيرات بوتين أن موسكو ترى أن أي مشاركة استخبارية غربية في هذه العمليات ستكون مبررًا لتوسيع نطاق الرد، والرد ليس ضروريًّا أن يكون تقليديًّا، والبحر الأسود -على وجه الخصوص- مرشح ليصبح ساحة صراع علني، بعد أن كان مجالًا للضغط غير المباشر.

انطلاقًا من خطاب بوتين ونقاشه مع خبراء “فالداي”، الخميس 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، يمكنني استخلاص خمسة محاور ركز بوتين على إبرازها حتى ينقلها هؤلاء إلى نخبهم الفكرية، ومسؤوليهم السياسيين، ومجتمعاتهم، لعل أذنًا مصغية تسمعها:

1- تدخل الغرب حوّل الميدان الأوكراني إلى حرب استنزاف طويلة، لكن التقدم الروسي واضح، وإن كان بطيئًا.

2- الاقتصاد لم ينهر، وسوف تستمر روسيا في الالتفاف على العقوبات، وتوسيع المسارات الآسيوية والجنوبية.

3- في السياسة: المواجهة باتت مواجهة علنية ومفتوحة مع الناتو تحت شعار “روسيا ليست نمرًا من ورق؛ وإنما دُبٌ كاسر”.

4- ملف “توماهوك” سوف يحدد مستوى التصعيد المقبل، مع الولايات المتحدة أولًا، وبالتبعية الناتو وأوروبا.

5- البحر الأسود، بسبب أفعال مثل التي قامت بها فرنسا، مرشح بقوة لأن يصبح جبهة ساخنة رئيسة في المواجهة، خصوصًا بعد تحذيرات بوتين الشديدة اللهجة بشأن أسطول الظل.

وختامًا أقول إن ما استخلصته إجمالًا من خطاب الرئيس الروسي ونقاشه الذي امتد 4 ساعات -حسب فهمي الشخصي طبعًا- أنه يمهد الرأي العام الداخلي والخارجي لحرب طويلة، وأن الحديث عن مواجهة الناتو بأسره هي توطئة وتمهيد لمعادلة ردع أشمل تنص على ما يلي: كل تصعيد أطلسي جديد سوف نقابله بتصعيد روسي متناسب، وربما مزلزل؛ لذلك يصبح خطاب فالداي -في رأيي- بمنزلة وثيقة مفاهيمية إستراتيجية، لا مجرد وصف وتوصيف. روسيا في نظر بوتين ليست نمرًا ورقيًّا. إنها قوة صمدت أما الناتو بكامله اقتصاديًّا وعسكريًّا، ولم تصمد فقط؛ بل احتفظت بمبادراتها العسكرية والاقتصادية، وكذلك الدبلوماسية، وأثبتت قدرتها على التكيف.

والرسالة النهائية واضحة: هذه الحرب لن تُحسم سريعًا، بل ستبقى حرب استنزاف طويلة، وفي كل جولة من جولاتها تؤكد موسكو والكرملين وبوتين أنها ما زالت قادرة ليس فقط على الصمود؛ بل الرد.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع