“الأمم المتحدة ومجلس الأمن ماتا بالفعل، لكن يبقى فقط إعلان الوفاة”، هذه المعاني جاءت في الأحاديث الجانبية الخاصة للوفود التي شاركت في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والحديث يخص -على نحو رئيس- عجز مجلس الأمن الدولي عن القيام بالمهمة الرئيسة له، وهي الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، فخلال الحرب الإسرائيلية على غزة أفشل “الفيتو” الأمريكي كل الجهود لوقف الحرب، أو حتى إدانة إسرائيل، وهو ما أدى إلى إحباط شعوب العالم، وتراجع ثقتها بالأمم المتحدة ومجلس الأمن.
الشلل في أداء مجلس الأمن الدولي دفع البعض إلى المطالبة بتفكيك الأمم المتحدة ومجلس الأمن بعد اندلاع نحو 54 صراعًا ونزاعًا مسلحًا منذ إعلان تأسيس الأمم المتحدة في 24 أكتوبر (تشرين الأول) بمدينة سان فرانسيسكو الأمريكية عام 1945، ولم يطرأ أي تعديل أو تطوير على أداء مجلس الأمن منذ عام 1965 عندما زيد عدد الدول غير الدائمة من 6 إلى 10 دول.
لكن على الجانب الآخر، هناك دعوات عاقلة وحكيمة تقول إن إضعاف المؤسسات الدولية، مثل “عصبة الأمم”، أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وإن العمل على إصلاح مجلس الأمن الدولي أفضل من تفكيكه. ومنذ عام 1992 كانت هناك دعوات كثيرة لإصلاح مجلس الأمن، لكنها فشلت ليس فقط لحسابات الدول الخمس الكبرى “الدائمة العضوية” في مجلس الأمن ومعادلاتها؛ بل بسبب الصراع والتنافس بين الدول الساعية أن يكون لها عضوية دائمة في أي توسعة قادمة لمجلس الأمن الدولي، الذي يتكون حاليًا من 15 دولة، 5 دول دائمة العضوية (الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والصين”، وتتمتع بحق النقض (الفيتو)، و10 دول “غير دائمة العضوية” ليس لهم حق النقض (الفيتو)، وكل عام تُنتخَب 5 دول غير دائمة العضوية لمدة عامين، تمثل مختلف قارات العالم، منها 3 دول إفريقية، و3 من آسيا، و2 من أمريكا اللاتينية، ودولة من الكتلة الشيوعية السابقة شرق أوروبا، ودولة من غرب أوروبا، ويحتاج تمرير القرار إلى موافقة 9 دول، سواء أكانت دائمة أم غير دائمة العضوية، بشرط ألا تستخدم دولة من “الخمس الكبار” حق النقض (الفيتو). ومع أن الطبيعي هو تنفيذ جميع القرارات التي تستند إلى الفصل السادس أو السابع من ميثاق الأمم المتحدة فإن القرارات التي تستند إلى “الفصل السابع” تكون ذات قوة أكبر؛ لأنه يمكن لمجلس الأمن أن يشكل قوة عسكرية دولية لتنفيذ القرار الصادر بموجب الفصل السابع، كما حدث عندما رفض صدام حسين الانسحاب من الكويت، فشُكِّلَ تحالف ضم 36 دولة لطرد جيش صدام من الكويت؛ ولهذا لا تترتب على قرارات المجلس تداعيات عقابية إلا إذا اعتُمدت بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فما الأسباب التي تمنع إصلاح مجلس الأمن؟ وما السيناريوهات التي يمكن من خلالها تحسين مجلس الأمن الدولي وتطويره؟
جرت مياه كثيرة في نهر الأمم المتحدة منذ تأسيسها قبل 80 عامًا، وكانت الدول في ذلك الوقت موزعة على 3 فئات؛ الأولى هي الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والدول المتحالفة معها، والثانية الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية، وهي اليابان وألمانيا، والثالثة هي الدول التي كانت تحت سيطرة هؤلاء وهؤلاء. ولا تعود الدعوات إلى إصلاح مجلس الأمن إلى الإخفاق والشلل اللذين يعانيهما المجلس فحسب؛ بل إلى المستجدات الجديدة على الساحة الدولية، فكثير من الدول التي كانت تحت الاستعمار وقت تأسيس الأمم المتحدة باتت دولًا فاعلة في النظام الدولي الجديد، فاليوم دول مثل ألمانيا واليابان، وهي الدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية تطالب بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، فاليابان هي ثاني مساهم في تمويل الأمم المتحدة بعد الولايات المتحدة بنسبة تصل إلى نحو 10% من الموارد المالية التي تصل إلى الأمم المتحدة، في حين أن ألمانيا ضمن أكبر 10 دول تساهم في تمويل الأمم المتحدة، وهناك خلاصة يعرفها الجميع تقول إن الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية على النازية تريد الحفاظ على مصالحها وتفوقها السياسي بعدم منح “الفيتو” لدول جديدة، وخير شاهد على هذا الأمر أنه عندما وُسِّعَت العضوية في مجلس الأمن عام 1965 لم تُوسَّع “العضوية الدائمة”، واقتصرت الزيادة فقط على الأعضاء “غير الدائمين”؛ ولهذا هناك من يدعو إلى زيادة عدد الدول “الدائمة العضوية” من 5 إلى 11 مقعدًا، لكن بشرط ألا يكون للدول الجديدة استخدام حق النقض “الفيتو”، وقبلت الولايات المتحدة -لأول مرة- مبدأ إصلاح مجلس الأمن عندما وافق الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن في سبتمبر (أيلول) 2022 على إمكانية إدخال تعديلات على عمل مجلس الأمن الدولي، لكن الخطوة الأكبر نحو إصلاح مجلس الأمن طُرحت في 22 سبتمبر (أيلول) 2023 ضمن ما يسمى “بوثيقة المستقبل”، التي تتكون من 20 صفحة، و56 مسارًا وطريقًا لتفعيل أداء مجلس الأمن الدولي الذي تأسس عندما كان أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة 51 دولة، واليوم بات عدد أعضاء الأمم المتحدة 193، ويزداد الزخم الداعي إلى إصلاح مجلس الأمن في ظل ظهور وتنامي أخطار جديدة تحيط بالبشرية، إلى جانب أهوال الحرب، وهي الأوبئة والجوائح التي باتت تحصد أرواحًا أكثر من تلك التي تحصدها الحروب، وتحتاج أي رؤية لإصلاح مجلس الأمن إلى موافقة مجلس الأمن نفسه على هذه الرؤية، ثم تعزيزها بعد ذلك بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة، لكن عملية إصلاح مجلس الأمن تواجه سلسلة من التحديات، منها:
أولًا- عملية تجميلية
يخشى البعض، خاصة من دول “الجنوب”، أن تنتهي الدعوات إلى إصلاح مجلس الأمن إلى عملية شكلية تجميلية، دون مشاركة حقيقية في صنع القرار على المستوى الدولي، فبينما تؤيد بعض الدول، مثل الولايات المتحدة، ضم دول دائمة العضوية إلى مجلس الأمن دون منحها حق النقض (الفيتو)، تدعو دول من الجنوب العالمي، مثل البرازيل، إلى أن تحظى الدول الجديدة بالمزايا نفسها التي يتمتع بها “الخمس الكبار” في مجلس الأمن، لكن واشنطن ومعها لندن تخشيان من منح “حق النقض” لدول في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية أن يتحول ذلك لصالح روسيا والصين وعالم الجنوب، حيث تعتقد الولايات المتحدة أن الدول المرشحة للعضوية الدائمة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية هي دول قريبة من روسيا والصين.
ثانيًا- الصراعات النائمة
تؤثر “الصراعات الجيوسياسية النائمة” على مواقف الدول بشأن إصلاح مجلس الأمن، فالصين غير متحمسة لضم الهند إلى العضوية الدائمة لمجلس الأمن، وترى الصين أنها تتفوق على غريمتها الهند بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، بالإضافة إلى الخلاف الحدودي بين الهند والصين على منطقة لاداخ، وتصويت الهند في آخر عقدين من الزمن لصالح الأجندة الغربية في مجلس الأمن، خصوصًا عندما كان الأمر يتعلق بالصين. كما أن انضمام اليابان الحليفة للولايات المتحدة بشكل دائم في مجلس الأمن أمر لا تقبله روسيا والصين، حيث توجد خلافات جيوسياسية بين طوكيو وموسكو على “جزر الكوريل”، وهناك خلافات على جزر سينكاكو بين الصين واليابان، وحصول اليابان على العضوية الدائمة بهذه المشكلات “الجيو- سياسية” غير مقبول من الصين وروسيا، وهما دولتان دائمتا العضوية، ويمكن أن تستخدما حق النقض (الفيتو) إذا تضمنت أي عملية لإصلاح مجلس الأمن انضمام اليابان إلى المجلس، خصوصًا أن اليابان تستضيف نحو 46 ألف جندي أمريكي، والعشرات من القطع الحربية والقواعد العسكرية الأمريكية، فضلًا عن أن كلًا من روسيا والصين تعارضان أيضًا انضمام ألمانيا إلى مجلس الأمن بصفة دائمة، لأن كلًا من بكين وموسكو تعتقدان أن الدول الأوروبية لها تمثيل كافٍ في المجلس من خلال عضوية 3 دول أوروبية، هي روسيا وفرنسا وبريطانيا.
ثالثًا- مظالم الجنوب
كل المقترحات المقدمة حتى الآن لا يمكن أن تعوض عالم الجنوب -خاصة إفريقيا- عن الظلم التاريخي الذي تعرضت له منذ تأسيس الأمم المتحدة، فوفق وثائق محادثات سان فرانسيسكو لعام 1944، كان هناك تفكير لضم مصر إلى عضوية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك ضُمَّت فرنسا بدلًا من مصر؛ ولهذا أصبحت إفريقيا وأمريكا اللاتينية دون أي عضوية دائمة منذ عام 1946، واليوم تطالب الدول الإفريقية بزيادة مشاركتها في مجلس الأمن بـ3 مقاعد دائمة، و5 مقاعد غير دائمة، ليس فقط لتعويض إفريقيا عن هذا الظلم التاريخي؛ بل أيضًا لأن إفريقيا تضم 54 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ومن ثم فهي الكتلة الثانية بعد الكتلة الآسيوية، في حين أن كل ما طُرح على إفريقيا حتى الآن هو دولتان دائمتا العضوية، و3 دول غير دائمة العضوية.
رابعًا- صراع المرشحين
رغم عدم الاتفاق النهائي على أي شيء حتى اليوم بشأن الدول التي يمكن قبولها أو رفضها ضمن توسعة مجلس الأمن فإن السباق والتنافس، بل الضرب تحت الحزام، بدأ في جميع القارات من أجل الفوز بالعضوية الدائمة؛ ولهذا شكلت كل من البرازيل وألمانيا واليابان والهند ما يسمى “بالرباعي الدولي” لدعم بعضهما بعضًا على الساحة الدولية من أجل الفوز بالعضوية الدائمة، حتى لو كان على حساب باقي الدول في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
خامسًا- قيود الفيتو
طرحت بعض الدول رؤية تقوم على “تقييد” استخدام حق النقض (الفيتو) بحيث يكون الاستخدام في أضيق الحدود، ولا يعطل جهود المجتمع الدولي في العمل الاستباقي لوقف الحروب، أو الضغط على الدول المتحاربة لوقف الحرب بعد اندلاعها، لكن هذه الآراء تظل مرفوضة حتى اليوم؛ نظرًا إلى خشية الدول الخمس الدائمة العضوية من فقدان النفوذ والتأثير في الساحة الدولية في حالة “تقييد” حق النقض “الفيتو”.
سادسًا- توسيع الصلاحيات
هناك قناعة لدى الجميع أن ما يهدد البشرية ليس فقط الحروب؛ بل الأوبئة والجوائح، وضرورة أن يكون هناك دور لمجلس الأمن في التوزيع العادل للقاحات والأمصال أوقات الجوائح، ومعاقبة الدول التي قد تتعمد نقل الجوائح إلى الدول والشعوب الأخرى، لكن حتى الآن لا يوجد اتفاق على “الآليات” التي يمكن أن تكون متاحة لمجلس الأمن لتحقيق هذا الهدف، لا سيما أن هذا الأمر يتعلق بشكل الأنظمة الحاكمة، فعلى سبيل المثال، كان نظام الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن متحمسًا لإصدار قرارات مثل تحريم استخدام الفحم بداية من عام 2040 للحفاظ على البيئة، في حين أن الرئيس الحالي دونالد ترمب يعتبر الطاقة النظيفة “مجرد هراء”، كما قال في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، وكل هذا يجعل الاتفاق على رؤية موحدة لتوسيع صلاحيات مجلس الأمن أمرًا بعيد المنال.
المؤكد أن إصلاح مجلس الأمن بات ضرورة في ظل العجز الكامل عن أداء مهامه، وهو ما أدى إلى تراجع ثقة شعوب العالم في الأمم المتحدة بكل مؤسساتها، وهو ما يحتاج إلى إرادة وسمو سياسي للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وهو المهمة الأولى لمجلس الأمن.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.