في سياق التوترات الإقليمية المتسارعة في الشرق الأوسط، شهد شهر سبتمبر (أيلول) 2025 تطورًا دراماتيكيًّا أعاد تشكيل المعادلة الجيوسياسية للمنطقة. في التاسع من سبتمبر (أيلول)، نفذت إسرائيل ضربة جوية مباغتة على العاصمة القطرية الدوحة، استهدفت قيادات رفيعة في حركة حماس كانت تعقد اجتماعًا لمناقشة اقتراح وقف إطلاق النار الذي رعتْه الولايات المتحدة. أسفرت الضربة عن مقتل ستة أشخاص، منهم أعضاء في حركة حماس، وأحد حراس الأمن القطريين، مما أثار موجة من الغضب الإقليمي والدولي، واعتُبرت انتهاكًا صارخًا لسيادة قطر بوصفها دولة مضيفة لقاعدة عسكرية أمريكية رئيسة. هذه الحادثة لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل كانت إشارة إلى تصعيد إسرائيلي يتجاوز الحدود الإقليمية التقليدية؛ مما دفع الدول العربية والإسلامية إلى عقد قمة طارئة في الدوحة في 15 سبتمبر (أيلول).
في أعقاب هذه القمة، وتحديدًا في 17 سبتمبر (أيلول) 2025، وقع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بصفته رئيسًا للوزراء، ومحمد شهباز شريف، رئيس وزراء باكستان الإسلامية، اتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك (Strategic Mutual Defense Agreement – SMDA). هذه الاتفاقية، التي تنص على اعتبار أي عدوان على إحدى الدولتين عدوانًا على الأخرى، تمثل تتويجًا لشراكة تاريخية تعود إلى عقود، لكنها تأتي اليوم كرد فعل مباشر على الضربة الإسرائيلية، تعزيزًا للردع الإقليمي، وتأكيدًا للتضامن الإسلامي. يأتي هذا التوقيع في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تحولات جيوسياسية سريعة، حيث يواجه التحالف السعودي- الباكستاني تحديات من التصعيد الإسرائيلي، والعاملين الهندي والإيراني، والضغوط الأمريكية للحفاظ على التوازن الإقليمي.
السياق التاريخي للشراكة السعودية- الباكستانية
تعود العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان الإسلامية إلى عام 1947، مع إقامة باكستان كدولة إسلامية مستقلة، حيث رأت السعودية فيها شريكًا طبيعيًّا في مواجهة التحديات الإقليمية. منذ ذلك الحين، تطورت الشراكة إلى أبعاد متعددة تشمل الجوانب الاقتصادية، والثقافية، والعسكرية، مدعومة بروابط دينية قوية تجسد التضامن الإسلامي. في الستينيات، وقعت الدولتان بروتوكولًا دفاعيًّا عام 1967، أعيد تعزيزه عام 1982، يشمل تدريبات عسكرية مشتركة، ووجودًا باكستانيًّا في السعودية، خاصة بعد أزمة احتلال الحرم المكي عام 1979، حيث شاركت القوات الباكستانية في استعادة السيطرة.
مع رؤية السعودية 2030، التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان، امتدت الشراكة إلى مجالات الطاقة والاستثمار، حيث بلغ حجم التجارة بينهما 11 مليار دولار عام 2006، وارتفع إلى أكثر من 2.8 مليار دولار في الاتفاقيات لعام 2024. عسكريًّا، شاركت باكستان في تدريبات عسكرية مشتركة عام 2015، وأصبح الجنرال الباكستاني المتقاعد رحيل شريف قائدًا للتحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب عام 2017، الذي يضم 42 دولة إسلامية.
كما أن السعودية دعمت باكستان ماليًّا، بما في ذلك قروض نفطية، ومساعدات في الكوارث الطبيعية، مقابل تعاون عسكري يشمل تدريب آلاف الضباط السعوديين في باكستان. هذه الشراكة ليست خالية من التحديات؛ فقد شهدت توترات، مثل إنهاء السعودية قرضًا نفطيًّا عام 2019 بسبب انتقادات باكستانية لمنظمة التعاون الإسلامي بشأن قضية كشمير. ومع ذلك، في ظل التوترات الإقليمية الحالية، مثل الحرب في غزة والتصعيد الإسرائيلي بالمنطقة، عادت الشراكة إلى الواجهة كأداة للردع. الضربة الإسرائيلية على قطر، بوصفها حليفة سعودية ضمن مجلس التعاون الخليجي، أعادت إحياء هذه الروابط، محولة إياها من تعاون تقليدي إلى تحالف إستراتيجي يهدف إلى مواجهة التهديدات المشتركة.
الآثار الجيوسياسية لاتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك
تُعد اتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك (SMDA) بين المملكة العربية السعودية وباكستان نقطة تحول في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط وجنوب آسيا. هذه الاتفاقية، التي جاءت كرد فعل مباشر على الضربة الإسرائيلية على قطر، لا تقتصر على تعزيز التعاون الثنائي بين الرياض وإسلام آباد، بل تحمل آثارًا بعيدة المدى تشمل إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وإعادة تقييم الاعتماد على القوى الغربية، وتأثيرات محتملة على التوازنات الدولية، نوضحها كالتالي:
أولًا- على المستوى الإقليمي: تمثل الاتفاقية خطوة كبيرة نحو تعزيز الردع المشترك في مواجهة التهديدات الخارجية، خاصة بعد أن كشفت الضربة الإسرائيلية على قطر عن هشاشة الأمن الخليجي. من خلال التزام كل من السعودية وباكستان باعتبار أي هجوم على إحداهما هجومًا على الأخرى، تكتسب دول الخليج -خاصة قطر- طبقة إضافية من الحماية. هذا الالتزام قد يشجع على تفعيل آليات الدفاع المشترك ضمن مجلس التعاون الخليجي، مثل قوة “درع الجزيرة”، مع إمكانية دمج باكستان كشريك عسكري إستراتيجي. قدرات باكستان العسكرية، بما في ذلك جيشها البالغ قوامه 650 ألف جندي، وترسانتها النووية المقدرة بنحو 170 رأسًا نوويًّا، تضفي ثقلًا عسكريًّا على التحالف، مما يعزز قدرة المنطقة على مواجهة تهديدات محتملة من إسرائيل، أو إيران. بالإضافة إلى ذلك، فإن التعاون في مجالات الاستخبارات والصناعات الدفاعية -كما تنص الاتفاقية- قد يؤدي إلى تطوير قدرات صاروخية ودفاعية مشتركة، مما يقلل الاعتماد على الأنظمة الغربية، مثل “باتريوت” الأمريكية، التي أثبتت محدوديتها في مواجهة هجمات متقدمة.
ثانيًا-تؤثر الاتفاقية على ديناميكيات العلاقات مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة. الضربة الإسرائيلية على قطر، التي تستضيف قاعدة “العديد” الجوية الأمريكية، كشفت عن فجوة في الثقة بين دول الخليج وحليفتها التقليدية واشنطن، التي فشلت في منع الهجوم، أو تقديم ضمانات فورية لاحتوائه. هذا الفشل دفع السعودية إلى البحث عن شراكات بديلة، حيث تبرز باكستان حليفًا موثوقًا به بفضل تاريخها العسكري، واستقلاليتها النسبية عن النفوذ الغربي. ومع ذلك، فإن الاتفاقية قد تثير قلق الولايات المتحدة، خاصة بسبب الشائعات عن دعم السعودية السابق لبرنامج باكستان النووي، مما قد يُنظر إليه على أنه تهديد لسياسة منع الانتشار النووي الأمريكية. في الوقت نفسه، تسعى السعودية إلى الحفاظ على علاقتها مع واشنطن، خاصة في ظل توقيع قطر اتفاقية دفاع جديدة مع الولايات المتحدة بعد الضربة. هذا التوازن الدقيق يعني أن الاتفاقية السعودية- الباكستانية قد تكون محاولة للضغط على واشنطن لتقديم ضمانات أمنية أقوى، بدلًا من الانفصال الكامل عن النفوذ الأمريكي.
ثالثًا-تؤثر الاتفاقية في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث تعزز الموقف العربي- الإسلامي ضد التصعيد الإسرائيلي. الضربة على قطر، التي استهدفت قيادات حماس، أثارت مخاوف من أن تكون إسرائيل قد تبنت سياسة استهداف خارجي أوسع، مما يهدد استقرار المنطقة. من خلال الاتفاقية، تعلن السعودية وباكستان دعمهما السياسي والعسكري للقضية الفلسطينية، خاصة في الأمم المتحدة، حيث تدعم باكستان باستمرار قرارات إدانة إسرائيل. هذا الموقف قد يعوق جهود التطبيع الإسرائيلي- العربي، التي كانت السعودية مُنفتحة عليها، خاصة أن تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن “انهيار الاتفاقيات” تعكس هذا التحول، حيث أدت الضربة إلى توحيد الدول العربية والإسلامية ضد إسرائيل، مما قد يدفع السعودية إلى إعادة تقييم شروط التطبيع المستقبلي.
رابعًا- من الناحية الاقتصادية: تقدم الاتفاقية فرصًا كبيرة لكلا الطرفين؛ باكستان، التي تعاني أزمة اقتصادية حادة مع ديون خارجية تتجاوز 130 مليار دولار، توفر لها الشراكة مع السعودية دعمًا ماليًّا محتملًا من خلال استثمارات في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والصناعات الدفاعية. أما السعودية فستستفيد من الخبرات العسكرية والتكنولوجية الباكستانية، خاصة في مجال الصواريخ والتدريب العسكري، مما يدعم رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط. هذا التعاون الاقتصادي قد يمتد ليشمل مشروعات مشتركة في إطار التحالف الإسلامي العسكري، مما يعزز التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية.
خامسًا- تؤثر الاتفاقية في العلاقات مع قوى إقليمية أخرى، خاصة الهند وإيران؛ فالهند، الحليفة الإستراتيجية لإسرائيل، قد تنظر إلى الاتفاقية على أنها خطوة معادية، خاصة مع التوترات المستمرة بين باكستان والهند بشأن كشمير، وهناك تصريحات سابقة من مسؤولين هنود أعربت عن قلق من تعزيز العلاقات السعودية- الباكستانية، خاصة إذا شملت نقل تكنولوجيا عسكرية متقدمة، وهذا قد يدفع الهند إلى تعميق تعاونها مع إسرائيل، مما يزيد تعقيد التوازنات الإقليمية. في الوقت نفسه، تثير الاتفاقية مخاوف إيران، التي ترى في التحالف السعودي- الباكستاني تهديدًا مباشرًا لنفوذها في المنطقة، خاصة مع دعم إيران حركات مثل الحوثيين، وحزب الله. ومع ذلك، فإن باكستان، التي تحافظ على علاقات دبلوماسية مع إيران، قد تسعى إلى تجنب التصعيد المباشر مع طهران، من خلال التركيز على الردع ضد إسرائيل بدلًا من المواجهة الإقليمية.
أخيرًا- قد تمهد الاتفاقية الطريق لتشكيل تحالف إسلامي أوسع، يشبه “الناتو الإسلامي” الذي اقترحه رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف. هذا التحالف، الذي قد يضم دولاً مثل قطر، وتركيا، ومصر، يهدف إلى مواجهة التحديات الأمنية المشتركة، لكنه يواجه عقبات مثل الخلافات الداخلية بين الدول الأعضاء، والضغوط الدولية. على سبيل المثال، قد تواجه تركيا، التي أدانت الضربة الإسرائيلية بشدة، تحديات في التوفيق بين عضويتها في الناتو ودعمها تحالفًا إسلاميًّا. كما أن دمج باكستان في هذا التحالف يتطلب موازانات سياسية دقيقة لدول مثل الإمارات العربية المتحدة، التي تحافظ على علاقات دبلوماسية مع إسرائيل والهند.
التحديات والأخطار المستقبلية لاتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك
تواجه اتفاقية الدفاع الإستراتيجي المشترك (SMDA) بين المملكة العربية السعودية وباكستان، تحديات متعددة قد تؤثر في نجاحها واستدامتها. هذه التحديات تنبع من السياق الإقليمي والدولي المعقد، والتوترات الداخلية في كلا البلدين، فضلًا عن التداعيات المحتملة لتصعيد الصراعات الإقليمية، نوضحها كالتالي:
أولًا– يَبرز الضغط الدولي، خاصة من الولايات المتحدة، تحديًا رئيسًا. مع أن الاتفاقية تُعد استجابة لتراجع الثقة بالحماية الأمريكية بعد الضربة الإسرائيلية على قطر، فإن السعودية تواجه تحديًا في الحفاظ على علاقتها الإستراتيجية مع واشنطن. الولايات المتحدة، التي وقّعت اتفاقية دفاع مع قطر بعد الهجوم، قد ترى في التحالف السعودي- الباكستاني تهديدًا لنفوذها، خاصة مع الشائعات بشأن تعاون نووي محتمل بين الرياض وإسلام آباد. هذا القلق قد يدفع واشنطن إلى فرض قيود على نقل التكنولوجيا العسكرية، أو الضغط على السعودية لتخفيف طموحاتها الإستراتيجية، مما قد يحد من فعالية الاتفاقية. كما أن أي تصعيد نووي أو صاروخي قد يثير ردود فعل دولية، بما في ذلك عقوبات محتملة من مجلس الأمن، خاصة إذا اعتبرت الاتفاقية تهديدًا لسياسة منع الانتشار النووي.
ثانيًا– التوترات الإقليمية تشكل خطرًا كبيرًا؛ فالاتفاقية، التي يُنظر إليها على أنها رد على التصعيد الإسرائيلي، قد تدفع إسرائيل إلى تعزيز قدراتها العسكرية، بما في ذلك تطوير صواريخ بعيدة المدى، أو تنفيذ ضربات استباقية. وهناك تصريحات إسرائيلية سابقة أشارت إلى استعدادها لاستهداف أي تهديد محتمل؛ مما قد يضع السعودية وباكستان في مواجهة مباشرة غير محسوبة.
ثالثًا– التحديات الداخلية في كلا البلدين تضيف طبقة أخرى من المخاطر. في باكستان، تواجه الحكومة انتقادات داخلية بسبب ما يُنظر إليه على أنه تبعية للسعودية، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد. أحزاب المعارضة، مثل حركة الإنصاف بقيادة عمران خان، قد تستغل الاتفاقية لاتهام الحكومة بالتفريط في السيادة الوطنية مقابل دعم مالي سعودي. هذا الاستقطاب الداخلي قد يحدّ قدرة باكستان على الالتزام الكامل بالاتفاقية، خاصة إذا تطلب الأمر نشر قوات، أو موارد عسكرية كبيرة. في السعودية، قد تواجه الاتفاقية تحديات من النخب الداخلية التي تفضل الاعتماد على التحالفات الغربية بدلًا من شراكة مع دولة تواجه تحديات اقتصادية وسياسية مثل باكستان. كما أن تركيز رؤية 2030 على التنويع الاقتصادي قد يتعارض مع تخصيص موارد كبيرة للتعاون العسكري.
رابعًا– تتطلب الاتفاقية إطارًا إقليميًّا أوسع لتكون فعالة، وهو تحدٍّ في ذاته؛ فالخلافات في المنطقة قد تمنع دمج الاتفاقية في تحالف إسلامي أوسع، مما يُضعف تأثيرها الإستراتيجي، ويعرضها لخطر العزلة الإقليمية.
خامسًا– هناك أخطار تتعلق بالتداعيات الاقتصادية والإستراتيجية لسباق تسلح محتمل؛ فتعزيز التعاون العسكري، خاصة في مجال الصواريخ والتكنولوجيا الدفاعية، قد يدفع دولًا أخرى في المنطقة، مثل إسرائيل والهند، إلى تسريع برامجها العسكرية؛ مما يزيد التوترات. فيما يتعلق بالسعودية، قد يؤدي الاستثمار الكبير في هذا التحالف إلى تحويل الموارد عن المشروعات الاقتصادية الداخلية، مما يثير تساؤلات عن استدامة التمويل. أما باكستان، فإن الاعتماد على الدعم السعودي قد يزيد هشاشتها الاقتصادية إذا لم يترافق مع إصلاحات داخلية.
سادسًا– هناك تحدٍّ يتعلق بإدارة التوقعات العامة والسياسية؛ ففي كلا البلدين، يُنظر إلى الاتفاقية على أنها رمز للتضامن الإسلامي، لكن أي فشل في تحقيق أهدافها، مثل حماية الأمن الإقليمي، أو دعم القضية الفلسطينية، قد يؤدي إلى ردود فعل شعبية سلبية.
في الختام، اتفاقية (SMDA) ليست مجرد استجابة للضربة الإسرائيلية على قطر؛ بل خطوة إستراتيجية لإعادة تعريف الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. من خلال تعزيز الردع، وتقليل الاعتماد على القوى الغربية، ودعم القضية الفلسطينية، تسعى السعودية وباكستان إلى فرض توازن جديد في المنطقة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الاتفاقية يعتمد على قدرتهما على إدارة التوترات مع القوى الإقليمية والدولية، مع الحفاظ على التوازن بين الطموحات الإستراتيجية والاستقرار الإقليمي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.