تقدير موقف

زيارة مودي الطارئة إلى اليابان


  • 2 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: buzzalerts.in

في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم، أصبحت العلاقات الثنائية بين الدول الكبرى أداة حيوية لتعزيز الأمن الاقتصادي، ومواجهة التحديات التجارية. في هذا السياق، تكتسب زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى اليابان في عام 2025 أهمية إستراتيجية كبيرة، حيث تهدف إلى تعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين من خلال تأمين تعهدات استثمارية تتجاوز 68 مليار دولار، والتوصل إلى اتفاق للأمن الاقتصادي يركز على التعاون في مجالات أشباه الموصلات، والمعادن الإستراتيجية، والذكاء الاصطناعي. تأتي هذه الزيارة في وقت حرج؛ حيث تفرض إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رسومًا جمركية مرتفعة على الواردات؛ مما يدفع الهند إلى البحث عن شراكات اقتصادية بديلة لتخفيف الضغوط التجارية، وتعزيز التنافسية الاقتصادية.

السياق الاقتصادي والجيوسياسي للزيارة

التحديات التجارية الناتجة عن سياسات ترمب

منذ بداية ولايته الثانية في يناير (كانون الثاني) 2025، كثّف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سياساته الحمائية، معلنًا فرض رسوم جمركية تصل إلى 300% على واردات أشباه الموصلات و25-50% على السلع الهندية؛ ردًا على استمرار الهند في شراء النفط الروسي. هذه الرسوم تهدف إلى حماية الصناعات الأمريكية، وتعزيز التصنيع المحلي، لكنها أثارت قلقًا كبيرًا في الأسواق العالمية، خاصة في الدول الآسيوية التي تعتمد على تصدير التكنولوجيا والسلع إلى الولايات المتحدة. تمثل هذه الرسوم للهند تهديدًا مباشرًا لقطاعاتها الصناعية، لا سيما المنسوجات والمجوهرات، التي تواجه خطر فقدان آلاف الوظائف نتيجة تراجع القدرة التنافسية في السوق الأمريكية.

في مواجهة هذه التحديات، تسعى الهند إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية لتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية. اليابان، بصفتها ثالث أكبر اقتصاد عالمي، وشريكًا استراتيجيًّا في التحالف الرباعي (Quad) إلى جانب الولايات المتحدة وأستراليا، تمثل وجهة مثالية لتعزيز التعاون الاقتصادي. تاريخيًّا، كانت العلاقات الهندية-اليابانية قوية، مدعومة باتفاقيات تجارية واستثمارية، مثل الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) الموقعة في 2011، التي أسهمت في زيادة حجم التجارة الثنائية إلى 129 مليار دولار في 2024.

الأمن الاقتصادي بوصفه أولوية إستراتيجية

في ظل التوترات التجارية العالمية، أصبح مفهوم الأمن الاقتصادي محورًا أساسيًّا في السياسات الدولية. يشير الأمن الاقتصادي إلى قدرة الدول على حماية مصالحها الاقتصادية من خلال ضمان استقرار سلاسل التوريد، والوصول إلى الموارد الحيوية، وتطوير القدرات التكنولوجية. بالنسبة للهند واليابان، يتركز التعاون في هذا المجال على ثلاثة قطاعات رئيسة: أشباه الموصلات، والمعادن الإستراتيجية، والذكاء الاصطناعي، التي تشكل أساس الصناعات المتقدمة والاقتصاد الرقمي. أشباه الموصلات -على سبيل المثال- هي العمود الفقري للصناعات التكنولوجية، من الأجهزة الإلكترونية إلى السيارات الكهربائية.

تعتمد الهند اعتمادًا كبيرًا على الواردات من تايوان وكوريا الجنوبية؛ مما يجعلها عرضة لاضطرابات سلاسل التوريد، كما حدث خلال النقص العالمي في 2021- 2022. اليابان تسعى إلى استعادة مكانتها بوصفها مركزًا لتصنيع الرقائق من خلال استثمارات ضخمة، مثل دعمها مصنع TSMC في كيوشو بقيمة 3.2 مليار دولار. أما المعادن الإستراتيجية، مثل الليثيوم والكوبالت، فهي ضرورية لصناعة البطاريات والطاقة المتجددة، ويواجه كلا البلدين تحديات في تأمين إمدادات مستدامة في ظل التنافس العالمي مع الصين.

الذكاء الاصطناعي -من ناحية أخرى- يمثل مستقبل الاقتصاد الرقمي. تشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي سيضيف )15.7( تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي بحلول 2030، مع حصة كبيرة في المنطقة العربية وحدها تصل إلى )320( مليار دولار. تسعى الهند إلى أن تصبح مركزًا عالميًّا للذكاء الاصطناعي من خلال إستراتيجيات مثل”IndiaAI Mission”، في حين تستثمر اليابان بكثافة في هذا المجال، كما يتضح من استثمار “سوفت بنك” بقيمة ملياري دولار في “إنتل”.

أهداف زيارة مودي إلى اليابان

تعد التعهدات الاستثمارية محور الزيارة، حيث تسعى الهند إلى جذب استثمارات يابانية تتجاوز (68) مليار دولار لدعم قطاعاتها الصناعية والتكنولوجية. هذه الاستثمارات تأتي في إطار “مبادرة اليابان للاستثمار في أمريكا”، التي تشمل أيضًا استثمارات بقيمة (550) مليار دولار في الولايات المتحدة، مما يعكس طموح اليابان لتعزيز نفوذها الاقتصادي في الأسواق الرئيسة. ستُوجه الهند هذه الاستثمارات إلى بناء مصانع لأشباه الموصلات، وتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وتأمين إمدادات المعادن الحيوية.

تاريخيًّا، كانت اليابان مستثمرًا رئيسًا في الهند، حيث بلغت استثماراتها التراكمية (38.2) مليار دولار بين عامي 2000 و2023، مع تركيز على قطاعات السيارات والبنية التحتية. تشمل المشروعات البارزة خط السكك الحديدية العالي السرعة بين مومباي وأحمد آباد، المدعوم بقروض يابانية ميسرة بقيمة (12) مليار دولار. الاستثمارات الجديدة المتوقعة خلال زيارة مودي ستركز على القطاعات ذات الأولوية الإستراتيجية؛ مما يعزز قدرة الهند على مواجهة الرسوم الأمريكية من خلال تعزيز التصنيع المحلي، وتقليل الاعتماد على الواردات.

توقيع اتفاق الأمن الاقتصادي

من المتوقع أن تُتوج الزيارة بتوقيع اتفاق للأمن الاقتصادي يهدف إلى تعزيز التعاون في ثلاثة مجالات رئيسة:

  1. أشباه الموصلات: يهدف الاتفاق إلى إنشاء شراكات لتصنيع الرقائق في الهند، مع الاستفادة من خبرة اليابان في هذا المجال. تشمل الخطط إمكانية إنشاء مصانع مشتركة مع شركات مثل TSMC، التي تلقت دعمًا حكوميًّا يابانيًّا كبيرًا. هذا التعاون سيقلل اعتماد الهند على الواردات، ويعزز قدرتها التنافسية في مواجهة الرسوم الأمريكية.
  2. المعادن الإستراتيجية: يسعى الاتفاق إلى تأمين إمدادات المعادن الحيوية من خلال استثمارات يابانية في قطاع التعدين الهندي، بالإضافة إلى التعاون في إعادة التدوير وتطوير تقنيات استخراج مستدامة. هذا الجانب حيوي لدعم صناعات البطاريات والطاقة المتجددة في كلا البلدين.
  3. الذكاء الاصطناعي: يشمل الاتفاق إنشاء مراكز بحث مشتركة لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على التطبيقات في القطاعات الصناعية والصحية. الهند، التي تمتلك قاعدة مواهب تكنولوجية ضخمة، واليابان، التي تتمتع ببنية تحتية متقدمة، يمكن أن تشكلا قوة دافعة في هذا المجال.

تعزيز الشراكة الإستراتيجية في إطار التحالف الرباعي

تتجاوز زيارة مودي الأهداف الاقتصادية إلى تعزيز الشراكة الإستراتيجية في إطار التحالف الرباعي. هذا التحالف، الذي يضم الهند واليابان والولايات المتحدة وأستراليا، يهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. التعاون الاقتصادي بين الهند واليابان يعزز هذا التحالف من خلال تطوير سلاسل توريد مرنة ومستقلة عن الصين، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والمعادن الحيوية.

 تسهم التعهدات الاستثمارية اليابانية في تعزيز النمو الاقتصادي في الهند من خلال خلق فرص عمل جديدة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة. على سبيل المثال، إنشاء مصانع لأشباه الموصلات سيوفر آلاف الوظائف، ويقلل الاعتماد على الواردات؛ مما يعزز الأمن الاقتصادي. كما أن الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي ستدعم الشركات الناشئة الهندية، التي تشهد نموًّا سريعًا في هذا المجال، وتعزز مكانة الهند بوصفها مركزًا تكنولوجيًّا عالميًّا. ومع ذلك، تواجه الهند تحديات في استيعاب هذه الاستثمارات، منها الحاجة إلى تحسين البنية التحتية، وتسهيل بيئة الأعمال. الإصلاحات التنظيمية الأخيرة، مثل قانون الرقائق الهندي، تهدف إلى جذب المستثمرين الأجانب، لكن هناك حاجة إلى مزيد من الشفافية والاستقرار السياسي لضمان نجاح هذه الشراكات.

بالنسبة لليابان، تمثل الاستثمارات في الهند فرصة لتوسيع أسواقها، وتقليل الأخطار المرتبطة بالاعتماد على السوق الأمريكية، خاصة في ظل الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب. اليابان، التي تعاني تحديات ديموغرافية، مثل شيخوخة السكان، تستفيد من الوصول إلى قوة العمل الشابة في الهند، وقاعدة المستهلكين الضخمة. كما أن التعاون في أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي يعزز القدرة التنافسية للشركات اليابانية، مثل “سوفت بنك” و”توشيبا”، في الأسواق العالمية.

التداعيات على التجارة العالمية

على المستوى العالمي، ستسهم الشراكة الهندية- اليابانية في إعادة تشكيل سلاسل التوريد، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والمعادن الحيوية. من خلال تقليل الاعتماد على الصين، يمكن لهذا التعاون أن يسهم في خلق نظام تجاري أكثر تنوعًا ومرونة. ومع ذلك، قد يؤدي تصعيد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة إلى تعقيد هذه الديناميكيات، حيث تسعى الهند واليابان إلى تحقيق توازن بين التعاون مع الولايات المتحدة في إطار التحالف الرباعي، والحفاظ على مصالحهما الاقتصادية.

التحديات

على الرغم من الفرص الكبيرة التي تقدمها زيارة مودي، فإن هناك تحديات يجب معالجتها لضمان نجاح الشراكة:

  1. التحديات التنظيمية: يتطلب جذب الاستثمارات اليابانية إصلاحات تنظيمية في الهند لتسهيل الأعمال، وتقليل البيروقراطية. اليابان -من جانبها- تحتاج إلى ضمان أن استثماراتها في الهند ستحقق عوائد مالية مستدامة.
  2. التوترات الجيوسياسية: التوازن بين التعاون مع الولايات المتحدة والحفاظ على علاقات اقتصادية مع الصين يمثل تحديًا كبيرًا، وأي تصعيد في التوترات بين الصين والهند أو اليابان قد يؤثر في استقرار سلاسل التوريد.
  3. المنافسة العالمية: تواجه الهند واليابان منافسة شديدة من دول مثل كوريا الجنوبية وتايوان في قطاع أشباه الموصلات، ومن الصين في الذكاء الاصطناعي، ويتطلب التفوق في هذه المجالات استثمارات مستمرة في البحث والتطوير.

تمثل زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى اليابان في عام 2025 خطوة إستراتيجية لتعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين في مواجهة التحديات التجارية الناتجة عن سياسات ترمب الحمائية. كما تؤكد هذه الزيارة أهمية التعاون الدولي في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية، وتسلط الضوء على دور الهند واليابان بوصفهما قوتين صاعدتين في النظام التجاري العالمي. هذه الشراكة لن تعزز النمو الاقتصادي في البلدين فحسب؛ بل ستسهم أيضًا في إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، وتعزيز الأمن الاقتصادي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذه الأهداف معالجة التحديات التنظيمية والجيوسياسية، والاستثمار المستمر في الابتكار التكنولوجي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع