بعد أقل من شهرين على إعلان طهران إفشال مشروع ممر زانجيزور، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نجاحه في التوصل إلى إطار تفاهم بين أرمينيا وأذربيجان في التاسع من أغسطس (آب) الجاري، لا ينهي التوتر القائم بين البلدين حول الممر فحسب؛ بل يضمن للولايات المتحدة الأمريكية نصيبًا من المكاسب الإستراتيجية لهذا التفاهم من خلال مقترح أمريكي تحت اسم “طريق ترمب للسلام والازدهار الدولي” لربط نخجيفان ببر أذربيجان، ثم لتركيا عبر جنوب أرمينيا، بمشاركة تشغيلية أمريكية طويلة الأمد. وفي ضوء هذا، يُمثل الممر المقترح نقطة تحول في خريطة النفوذ بالقوقاز بما يزيد تأثير واشنطن وباكو، ودعمًا محتملًا لأنقرة، ويضع طهران أمام فقدان جزئي لموقعها بوصفها قناة عبور، وإطار نفوذ شمالي، ما يفرض أسئلة جوهرية، لعل أبرزها: لماذا ترفض إيران هذا الممر؟ وما دلالات اللغة العدائية التي استخدمتها الجمهورية الإسلامية لرفض هذا المقترح؟ والأهم: هل تنجح طهران من خلال ما تمتلكه من آليات سياسية وأدوات تنفيذية في الرد على هذا التهديد المتعدد الأبعاد؟
جاء رد طهران على إعلان الممر سريعًا وحاد اللهجة، فبعد ساعات من إعلان واشنطن توقيع إطار السلام، وخطط الممر المقترح، وصف مستشار المرشد الإيراني الأعلى للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي الممر بأنه لن يصبح ممرًا لترمب؛ بل مقبرة لمرتزقته، وأن إيران ستمنع إنشاء الممر الأمريكي في القوقاز، سواء بالتعاون مع روسيا أو بدونها، معلنًا أن طهران ستمنع أي تغير جيوستراتيجي على حدودها؛ لأن الوجود الأمريكي في جنوب القوقاز يشكل تهديدًا مباشرًا للمصالح الإيرانية، لكن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان سارع إلى نفي هذا التقييم في اليوم التالي، وأكد -خلال اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان- أن خطة السلام تأخذ أيضًا آراء إيران في الحسبان، مشيرًا إلى أن المسار المخطط له لن يقطع وصول إيران إلى أرمينيا، في حين أصدرت بعض قيادات الحرس الثوري تصريحات حادة تحذر من تداعيات أمنية، وتضع احتمالات الرد في خانة الخيارات المتاحة، فأعلن علي باقري كني، عضو المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، أن الجمهورية الإسلامية لن تتجاهل بسهولة قضية زانجيزور. وعلى الصعيد غير الرسمي، وجّهت الصحف الإيرانية، مثل صحيفة كيهان -تحت إشراف المرشد الأعلى علي خامنئي- انتقادات لاذعة إلى الممر الأمريكي المقترح، ووصف مقالها الافتتاحي الاتفاق على بناء ممر زانجيزور بأنه خيانة عظمى، ولا ينبغي أن يمر دون رد من الجمهورية الإسلامية. في مقابل هذا تبنت إيران لاحقًا نبرة أكثر تحفظًا في بعض القنوات الرسمية، حيث شددت وزارة الخارجية الإيرانية على أن أي طريق عبور يجب أن يحترم سيادة الدول.
تُظهر ردود فعل طهران تجاه المقترح الأمريكي لإنشاء ممر ترمب للسلام والازدهار الدولي بين أرمينيا وأذربيجان مزيجًا من القلق الإستراتيجي والرفض السياسي، حيث ترى إيران أن الممر إذا أُنجز بصيغته المقترحة بمشاركة أمريكية، وإدارتها جزءًا من تشغيله لمدة 99 عامًا، يهدد نفوذها الإقليمي، وقدرتها على الاحتفاظ بدورها كقطب عبور محوري إلى القوقاز وأوروبا، هذا القلق يدفع طهران إلى تقييم خيارات دبلوماسية واقتصادية وأمنية لاحتواء أو منع تنفيذ الممر بحسب الموارد الممكنة لها، فالخطاب الإيراني على الصعيد الرسمي وغير الرسمي جمع بين الإنذار الرادع والصارم من جهات مقربة من المرشد والمؤسسات الأمنية، وتأكيدات دبلوماسية رسمية لضرورة احترام السيادة وعدم تحويل المسارات إلى قواعد نفوذ أجنبية، مع فتح قنوات تفاوض مع يريفان لتعديل الصيغة؛ بهدف إرسال إشارة ردع إلى الولايات المتحدة وحلفائها مع إبقاء قنوات الخروج الدبلوماسي مفتوحة تجنبًا لتصعيد لا تريده طهران في الوقت الراهن.
غير أن تهديدات إيران القوية لفظيًّا لا تعني تصعيدًا عسكريًّا فوريًّا؛ فطهران تدرك كلفة مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها؛ لذلك تلك النبرة الحادة غالبًا ما تستخدم كوسيلة ردع، في حين أن الخطاب الدبلوماسي الرسمي أكثر موثوقية كقناة عمل بهدف فتح قنوات على غرار زيارات مسؤولين ومحادثات مع يريفان. يكشف هذا التناقض عن نهج مزدوج للجمهورية الإسلامية؛ حيث تظهر طهران مقاومة قوية من خلال رفع درجة اللهجة والاستعداد لردع الخارج، لكنها تترك مساحة للحل من خلال الأجهزة الدبلوماسية، ما يعكس رغبة طهران في رفع التكلفة السياسية والتنفيذية للممر أمام الغرب وأذربيجان، وتهدئة الرأي العام الإيراني، لكنها لا تبدو راغبة بالدخول في صدام عسكري واسع في ظل البيئة المحلية والإقليمية الشديدة التعقيد.
تمتلك طهران علاقات وثيقة مع دول جنوب القوقاز؛ فتاريخيًّا كانت طهران فاعلًا مهمًّا في الشرق القوقازي من خلال علاقات تجارية واتصالات طائفية وإثنية، فضلًا عن اتفاقات أمنية مرحلية مع باكو ويريفان، كما استفادت إيران من دورها كطريق عبور، سواء لنقل البضائع أو لخطوط أنابيب وشبكات طاقة إقليمية؛ ما منحها أوراق تأثير في جيرانها، لكن دخول الولايات المتحدة إلى تلك الساحة من خلال تشغيل وعقود طويلة لجزء حيوي من بنية العبور الجغرافية، يُعد تحولًا في معادلة النفوذ التقليدية في المنطقة، وهو ما سيلقى بتبعات مباشرة على الأمن القومي الإيراني في عدة أبعاد، تتضح فيما يلي:
بناءً على عناصر القوة النسبية لطهران، تتوافر أمامها مجموعة أدوات قد تبدو محدودة يمكن أن تضغط بها على دول جنوب القوقاز والولايات المتحدة لتعطيل هذا الممر وتقليل الخسائر المحتملة، أو على أقل تقدير توظيف الممر في المفاوضات الجارية بشأن برنامجها النووي، وتتضح أبرز تلك الآليات فيما يلي:
محصلة القول أن موقف إيران الرافض والحذر من ممر ترمب هو موقف مُتوقع سياسيًّا وإستراتيجيًّا، فطهران تواجه مشكلة مركبة تتمثل في فقدان جزء من موقعها كقناة عبور ونفوذ محلي، خاصةً إذا حُول المشهد لصالح بنية عابرة تديرها قوى غربية، إذ يغير الممر المقترح قواعد اللعبة في جنوب القوقاز لصالح مشهد أكثر تنافسية وتأثيرًا أمريكيًّا، ويضع طهران في موقف دفاعي، لكن الخيارات العملية لطهران محدودة؛ فالمواجهة العسكرية مرتفعة التكلفة، وقد تسفر عن رد غربي وإقليمي، وعزل اقتصادي إضافي لا تستطيع الجمهورية الإسلامية تحمل تبعاته، في حين أن المنافع من احتواء المشروع قد تكون أفضل على صعيد النفوذ والرمزية؛ لذلك فالسيناريو الأكثر واقعية لإيران هو السير بمزيج من الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، مع إبقاء أدوات الرد العسكرية خيارًا ثانويًّا للاستخدام كتهديد رادع، ما لم تشعر بتغير ملموس في التوازن الذي يهدد وجودها الأمني مباشرة، خاصة أن هذا النهج يتسق مع العقيدة الأمنية الإيرانية، ومقتضيات الموقف الراهن.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.