تعيش إسرائيل أزمة كبيرة منذ عام 2005، وأطلق البعض على هذه الأزمة “عقدة شارون”، وهي التي تعني هروب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة في سبتمبر (أيلول) 2005 تحت تأثير ضربات المقاومة. ومنذ ذلك الوقت، كانت هناك أسئلة كثيرة ولجان تحقيق تحقق في الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى الانسحاب من قطاع غزة. حتى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قال في البيت الأبيض في لقائه الأخير مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: “لا أعرف لماذا انسحبت إسرائيل من غزة” عام 2005؟
ومع أنها تسيطر بالفعل على نحو 60% من مساحة قطاع غزة التي لا تزيد على 360 كم، فإن الحكومة الإسرائيلية صوتت لصالح احتلال غزة، والسيطرة الكاملة على جميع مدن ومخيمات القطاع الذي يمتد من بيت لاهيا شمالًا حتى رفح الفلسطينية جنوبًا، ومن حدود إسرائيل في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب. وتهدف تل أبيب إلى تحقيق 6 أهداف رئيسة، وهي: نزع سلاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خصوصًا الأسلحة التي يمكن استخدامها في مهاجمة إسرائيل، أو تكرار سيناريو “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. ويرتبط بهذا الهدف هدف أكبر، وهو نزع كل الأسلحة من جميع الفصائل في قطاع غزة، وتدمير القدرات العسكرية للفصائل المسلحة، مثل الجهاد الإسلامي، وألوية الناصر صلاح الدين، وشهداء الأقصى، وغيرها، بمعنى نزع أي سلاح وقتل أي قيادي يمكن أن يشكل خطرًا على إسرائيل خلال العقدين المقبلين. والهدف الثالث هو استعادة الأسرى الإسرائيليين، سواء أكانوا أحياء أم جثثًا، وتشير كل تقديرات المخابرات الإسرائيلية إلى أن هناك نحو 20 رهينة على قيد الحياة، في حين قُتل نحو 36 خلال الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ 22 شهرًا. ورابع الأهداف التي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو -والمتطرفون معه- إلى تحقيقها هو فرض “سيطرة أمنية كاملة” على القطاع عن طريق محاصرة المدن الفلسطينية، مثل غزة وخان يونس ودير البلح ورفح، والاقتراب الشديد من المخيمات التي ترى حكومة نتنياهو أن المخطوفين الإسرائيليين يقبعون فيها. ويتحقق هذا الهدف بمزيد من شق “المحاور الأمنية” التي تقطع أوصال القطاع من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، مثل “محور فيلادلفيا” أقصى جنوب القطاع، و”محور موارج” الذي يطوق مدينة رفح من الشمال، ومحور “نتساريم” الذي يفصل شمال غزة ومحافظتي غزة والشمال عن محافظات الوسط في خان يونس ودير البلح. ومن شأن كل هذا -وفق الخطة الجديدة التي وافق عليها مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بعد نقاشات استمرت 10 ساعات- أن يقود إلى الهدف الأكبر، وهو إنهاء حكم حماس -عسكريًّا ومدنيًّا- الذي بدأ منذ عام 2006، وبعد ذلك تسليم إدارة قطاع غزة إلى جهة عربية أو دولية، بمعنى أن إسرائيل تريد السيطرة الأمنية الكاملة دون وجود أي بقايا أو جذور للمقاومة. لكن الهدف السادس، الذي لم يأتِ مباشرة في الأحاديث الإسرائيلية التي تلت إقرار الخطة، هو طرد الفلسطينيين من القطاع وتهجيرهم إلى خارج غزة. وهذا الأمر كان واضحًا بقوة عندما رفض وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الموافقة على البند الخاص “باليوم التالي” بعد العملية؛ لأن هذا البند لا يشير بوضوح إلى تهجير الفلسطينيين حسب رغبة الوزيرين، في حين أراد باقي وزراء الحكومة إبقاء هذا الهدف بعيدًا حتى لا تتعرض الحكومة الإسرائيلية لضغوط من الدول العربية والغربية.
وهذه الخطة التي تطلق عليها الحكومة الإسرائيلية “سيطرة أمنية” وليس “احتلالًا”، تهدف من وراء ذلك التنصل من كل الواجبات والمسؤوليات التي تقع على الدولة المحتلة، وهو ما يعني أن إسرائيل سوف تواصل عرقلة دخول المساعدات الإنسانية والطبية إلى القطاع. فهل تنجح إسرائيل هذه المرة رغم فشلها في جميع محاولاتها السابقة، وآخرها كانت عملية “عربات جدعون”؟ وماذا ينتظر الجيش الإسرائيلي في غزة بعد الخسائر غير المسبوقة خلال نحو عامين من الحرب؟ ولماذا تريد إسرائيل نقل نحو مليون فلسطيني من أماكنهم حتى 7 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل؟
تجهيز 6 فرق عسكرية كاملة لاحتلال قطاع غزة يعني أن الحكومة الإسرائيلية غير معنية بالسلام والاستقرار في المنطقة، وأن مشروعها الوحيد هو “مشروع حرب” لإطالة زمن الحرب على الأقل حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول) 2026. وفي هذا تقويض لحل الدولتين، ولحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، الذي يضم الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
وتؤكد كل الشواهد أن هذا القرار سوف يتحول إلى “كابوس” ومستنقع جديد ونوعي على جميع المستويات لرئيس الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي، وهذا الكابوس يمكن أن يأخذ خسائر نوعية على 10 مسارات رئيسة، وهي:
أولًا- السيناريو المثالي لحماس
وفق تقديرات عدد من قادة الجيش الإسرائيلي الحاليين والسابقين، فإن احتلال قطاع غزة هو أكثر الأمنيات التي تتمناها حركة حماس وباقي فصائل المقاومة. ووفق كل الحسابات العسكرية والميدانية، فإن أي التحام إسرائيلي مباشر بفصائل المقاومة سوف ينتج عنه خسائر بشرية غير مسبوقة في صفوف الجيش الإسرائيلي في ظل مؤشرات كثيرة تقول كلها إن جيش الاحتلال سوف يخسر بعد أن نجحت المقاومة بتكتيكاتها الجديدة في تكبيد الجيش الإسرائيلي نحو 40 جنديًا قُتلوا في عملية “مراكب جدعون” دون أن ينجح هذا الجيش في الوصول إلى أسير واحد. وكل التقديرات تشير إلى أن الدخول بـ6 فرق عسكرية كاملة إلى قطاع غزة سوف يعني مزيدًا من الخسائر في أرواح جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما أشار إليه -بوضوح- رئيس الأركان الإسرائيلي أيال زامير، وحاول خلال ساعات طويلة من النقاش تقديم خطة بديلة، لكن في النهاية وافقت الحكومة على خطة نتنياهو الاحتلالية بعد أن كان زامير يريد فقط السيطرة على بعض المواقع لمزيد من الضغط على حماس لتسليم الرهائن.
ثانيًا- قتل الرهائن
هناك تعليمات واضحة من قيادة كتائب عز الدين القسام “لفرق الظل” التي تحرس الرهائن الإسرائيليين بقتل الرهائن في حالة اقتراب قوات أو عناصر من الجيش الإسرائيلي منهم. ووفق عدد من المخابرات الغربية، فإن لدى حماس تكنولوجيا تجعلها تعرف تمامًا اقتراب الجيش الإسرائيلي من أماكن الرهائن، وهذه التكنولوجيا هي التي أفشلت كل خطط إسرائيل بكل الدعم المخابراتي الغربي من الوصول إلى الرهائن خلال 22 شهرًا؛ ولهذا فإن النتيجة المؤكدة لاحتلال المناطق المكتظة بالسكان في غزة هو قتل نحو 20 رهينة إسرائيلية على قيد الحياة، وكل المعلومات التي نشرها الجيش الإسرائيلي كانت تقول بوجود هؤلاء الرهائن في مناطق المخيمات التي يحتمي بها الفلسطينيون، وإن الذهاب إلى هذه المناطق يؤكد أن نتنياهو غير مهتم بحياة الرهائن.
ثالثًا- فضح نيات اليمين
احتلال غزة دون الاكتراث بحياة الرهائن يكشف ويفضح النيات الحقيقية لإسرائيل بأن هدفها طوال الشهور الماضية لم يكن نجدة الرهائن أو استعادتهم؛ بل تدمير القطاع، وكسر روح المقاومة، والتضحية بالرهائن الذين لم يكونوا يومًا ما في حسابات نتنياهو، بل كانوا مجرد لافتة للحملة الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، وهذا قد يفسر التعنت الإسرائيلي في المفاوضات؛ فرغم الأفكار المبدعة التي قدمها الوسيطان المصري والقطري للتوصل إلى صفقة، فإن حكومة نتنياهو كانت تفعل كل شيء من أجل التنصل من أي اتفاق، وتجلى هذا بوضوح في العودة إلى القتال في 18 مارس (آذار) الماضي، رغم صمود الهدنة شهرين بداية من 19 يناير (كانون الثاني) الماضي.
رابعًا- الجبهات الأخرى
احتلال غزة لا يحتاج إلى الاستعانة بتعبئة قوات الاحتياط فقط؛ بل أيضًا الفرق العسكرية التي تعمل في جبهات أخرى، وحذر الجيش الإسرائيلي من هذا الخيار؛ لأن الجبهات الأخرى لا تزال مفتوحة، ويمكن أن تتعرض إسرائيل لضربات موجعة من جديد في هذه الجبهات، وهذا له تأثير كبير في سكان إسرائيل القريبين من تلك الجبهات؛ فعلى سبيل المثال، لا يستطيع نحو 100 ألف إسرائيلي العودة إلى بلدات الشمال؛ لأن الجبهة مع جنوب لبنان لا تزال مفتوحة.
خامسًا- تعميق الخسائر الدبلوماسية
لا شك أن خسائر إسرائيل الدبلوماسية منذ بداية الحرب تفوق كل خسائر تل أبيب منذ عام 1948، واحتلال غزة سوف يعمق هذه الخسائر على مستوى علاقات إسرائيل مع الجميع، بداية من الدائرة العربية والشرق أوسطية وصولًا إلى الدائرة الأوروبية. واحتلال إسرائيل لقطاع غزة يدفع الحكومات المترددة في الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى حسم قرارها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في شهر سبتمبر (أيلول) القادم، حيث تنوي 15 دولة -على الأقل- إعلان اعترافها بدولة فلسطين في الاجتماع الرفيع المستوى الذي تستضيفه الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) القادم.
سادسًا- خلاف جديد مع واشنطن
رغم انزعاج الولايات المتحدة من رفض حماس الاقتراحات الأمريكية، فإن واشنطن لن تكون متحمسة لمغامرة إسرائيلية جديدة بعد فشل كل المغامرات والعمليات الإسرائيلية في القطاع منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وعندما سئل الرئيس ترمب عن احتلال غزة، لم يؤكد دعمه للعملية كما كان في السابق، بل تعهد بتقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة، وهو ما يعني ضمنيًّا عدم توافق أمريكي إسرائيلي على هذه الخطوة. وبعد تصويت مجلس الوزراء الإسرائيلي على احتلال غزة، قال البيت الأبيض إنه لن يدعم ضم أجزاء من قطاع غزة إلى إسرائيل، وهو ما يعني أن هذه الخطوة التي يرفضها قادة الجيش والمعارضة في إسرائيل لا تجد تأييدًا كبيرًا في البيت الأبيض.
سابعًا- أهداف معلقة
احتلال غزة يؤكد أن إسرائيل لم تحقق أي شيء من الأهداف التي أعلنها نتنياهو في بداية الحرب على القطاع، فجميع الأهداف التي يسعى نتنياهو إلى تحقيقها من احتلال غزة سبق له أن أعلنها يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 عندما بدأ العدوان على غزة، وهو ما يقول إن إسرائيل لم تتحرك إلى الأمام نحو تحقيق أي هدف رغم كل الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية التي لحقت بها.
ثامنًا- غلاف غزة
كانت كل التقديرات الإسرائيلية تقول إن نحو 55 ألفًا من سكان غلاف غزة سوف يعودون إلى بيوتهم ومدارسهم في شهر سبتمبر (أيلول) أو أكتوبر (تشرين الأول) المقبلين عندما تبدأ الدراسة في إسرائيل، ومن شأن بدء حملة جديدة كبيرة هدفها احتلال القطاع أن يعني عدم عودة كل هؤلاء إلى بلدات غلاف غزة ومدنه حتى تنتهي هذه العملية التي قدّر لها بعض القادة العسكريين في إسرائيل نحو عامين آخرين، وهو ما يعني مزيدًا من النزيف الاجتماعي، وعدم عودة الحياة الطبيعية إلى كل مناطق جنوب إسرائيل.
تاسعًا- خسائر اقتصادية
احتلال غزة يعني استمرار الحرب مدة طويلة قد تستمر عامين آخرين، وفي هذا كارثة حقيقية على الاقتصاد الإسرائيلي المتهالك، الذي يعاني غياب الحيوية، وتعطل المواني كما يحدث في إيلات وحيفا، وهي خسائر لم يعد الاقتصاد الإسرائيلي وأصحاب الشركات قادرين على تحملها بعد تقديرات تقول إن إسرائيل تخسر نحو 35 مليار دولار في الحرب سنويًّا.
عاشرًا- اليوم التالي لاحتلال غزة
لا تملك إسرائيل أي تصور لمرحلة ما بعد احتلال غزة، وهل الهدف هو الحصول فقط على الرهائن وبعد ذلك الخروج؟ أم الهدف هو الاستمرار في احتلال القطاع على غرار ما كان قبل اتفاقية المعابر في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، وعودة الاستيطان إلى غزة من جديد؟ لا توجد مؤشرات حقيقية على الأرض تشير إلى استعداد أطراف عربية أو دولية لإدارة القطاع بعد الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني أن الخطوة الإسرائيلية ما هي إلا “قفزة جديدة في الهواء”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.