تُعدّ كازاخستان واحدة من الدول البارزة في آسيا الوسطى، حيث تجمع بين موقع جيوسياسي إستراتيجي وثروات طبيعية ضخمة، مما يجعلها لاعبًا مهمًّا في السياسة الإقليمية والدولية. في السنوات الأخيرة، برزت إمكانية انضمام كازاخستان إلى اتفاقيات إبراهيم (السلام الإبراهيمي)، وهي الاتفاقيات التي توسطت فيها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية. مع أن كازاخستان تمتلك بالفعل علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل منذ عام 1992، فإن انضمامها إلى هذه الاتفاقيات قد يكون خطوة رمزية تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والإستراتيجي. في هذا السياق، يبرز العامل التركي بوصفه عنصرًا مؤثرًا في ديناميكيات العلاقات الإقليمية، حيث تؤدي تركيا دورًا محوريًّا في تعزيز النفوذ التركي في آسيا الوسطى، مما قد يؤثر في قرارات كازاخستان. يهدف هذا المقال إلى استعراض دوافع كازاخستان للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، مع التركيز على العامل التركي ودوره في تشكيل السياسة الخارجية لكازاخستان، وتحليل السياق الجيوسياسي الأوسع الذي يحيط بهذه الخطوة.
تُعدّ كازاخستان من أكبر الدول المنتجة للنفط والغاز في آسيا الوسطى، وهي مورد رئيس للنفط إلى إسرائيل. إلى جانب أذربيجان، تُشكل كازاخستان أحد أكبر موردي النفط لإسرائيل، مما يجعل العلاقات الاقتصادية بين البلدين ذات أهمية إستراتيجية. الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم قد يعزز هذه العلاقات من خلال فتح أسواق جديدة وتسهيل الاستثمارات الإسرائيلية في كازاخستان، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والأمن السيبراني. إسرائيل، المعروفة بتطورها التكنولوجي، تقدم حلولًا مبتكرة في إدارة الموارد المائية والزراعة، وهي مجالات حيوية لكازاخستان التي تسعى إلى تنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد على النفط والغاز.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى كازاخستان إلى تعزيز دورها بوصفها مركزًا تجاريًّا إقليميًّا من خلال “الممر الأوسط”، وهو طريق تجاري يربط آسيا بأوروبا عن طريق بحر قزوين وأذربيجان وتركيا. هذا المشروع، الذي تدعمه تركيا بقوة، يمكن أن يستفيد من التعاون مع إسرائيل، التي تمتلك خبرات في اللوجستيات والتكنولوجيا. الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم قد يوفر لكازاخستان إمكانية الوصول إلى شبكة استثمارية أوسع تشمل الولايات المتحدة، والدول العربية الموقعة على الاتفاقيات، مما يعزز مكانتها كمركز اقتصادي إقليمي.
تعتمد كازاخستان سياسة خارجية “متعددة المتجهات” تهدف إلى تحقيق التوازن بين القوى الكبرى، مثل روسيا والصين والولايات المتحدة. هذه السياسة تتيح لها الاستفادة من التعاون مع مختلف الأطراف دون الوقوع في تبعية أحادية. في هذا السياق، يُعد تعزيز العلاقات مع إسرائيل جزءًا من هذا التوازن، حيث تُعدّ إسرائيل حليفًا إستراتيجيًّا للولايات المتحدة، مما يمنح كازاخستان قناة لتعزيز علاقاتها مع واشنطن.
تواجه كازاخستان ضغوطًا من روسيا والصين، اللتين تمتلكان نفوذًا كبيرًا في آسيا الوسطى. الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم قد يكون وسيلة لكازاخستان لتعزيز تحالفاتها مع الغرب، خاصة في ظل التوترات الإقليمية المرتبطة بإيران ودعمها لأرمينيا في نزاع ناغورنو- كاراباخ. إسرائيل، التي تُعد منافسًا رئيسًا لإيران في المنطقة، قد توفر دعمًا إستراتيجيًّا لكازاخستان في مواجهة التحديات الإقليمية، خاصة في مجالات الأمن والاستخبارات.
تمتلك كازاخستان علاقات وثيقة مع إسرائيل في مجال الأمن والدفاع، حيث استفادت من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية، ومنها الطائرات بدون طيار، والأنظمة الأمنية. الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم قد يعزز هذا التعاون، مما يتيح لكازاخستان الوصول إلى أحدث التقنيات العسكرية والاستخباراتية. كما أن إسرائيل، بفضل علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، يمكن أن تؤدي دور الوسيط في تعزيز العلاقات العسكرية بين كازاخستان والغرب، مما يساعد في تقليل الاعتماد على روسيا في هذا المجال.
تضطلع تركيا بدور محوري في آسيا الوسطى من خلال منظمة الدول التركية، التي تضم كازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان. تهدف هذه المنظمة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين الدول الناطقة باللغات التركية، وتُعدّ أداة رئيسة لتوسيع النفوذ التركي في المنطقة. تركيا، التي كانت أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تربطها علاقات وثيقة مع كازاخستان، خاصة في المجالات الاقتصادية والعسكرية.
في سياق اتفاقيات إبراهيم، يمكن لتركيا أن تضطلع بدور محفز لانضمام كازاخستان إلى الاتفاقيات، خاصة إذا تمكنت أنقرة من تحسين علاقاتها مع إسرائيل. على الرغم من التوترات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، خاصة بعد أزمة أسطول الحرية لغزة عام 2010، فإن العلاقات بين البلدين شهدت محاولات تحسين، مع إعادة تبادل السفراء عام 2022. إذا نجحت تركيا في تحقيق تقدم في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فقد تشجع كازاخستان على الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم كجزء من إستراتيجية إقليمية أوسع.
يُعدّ “الممر الأوسط”، الذي يربط آسيا بأوروبا عن طريق بحر قزوين، أحد المشروعات الإستراتيجية التي تدعمها تركيا وكازاخستان وأذربيجان. يهدف هذا المشروع إلى تقليل الاعتماد على روسيا وإيران في التجارة الدولية، وهو ما يتماشى مع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني. تركيا، بفضل موقعها الجغرافي وعلاقاتها مع كازاخستان، تضطلع بدور رئيس في تطوير هذا الممر، مما يجعلها شريكًا حيويًّا في أي مبادرة إقليمية تشمل كازاخستان. الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم قد يعزز هذا المشروع من خلال جذب استثمارات إسرائيلية وغربية، مما يعزز النفوذ التركي والكازاخستاني في المنطقة.
تواجه كازاخستان وتركيا تحديات مشتركة من إيران، التي تنظر إلى النفوذ التركي في آسيا الوسطى بعين الريبة. تخشى إيران أن يؤدي تعزيز العلاقات بين كازاخستان وإسرائيل إلى تقوية تحالف غربي في المنطقة، مما يهدد مصالحها الجيوسياسية. تركيا، التي تدعم أذربيجان بقوة في نزاع ناغورنو- كاراباخ، ترى في إيران منافسًا إقليميًّا، خاصة بسبب دعم طهران لأرمينيا. هذا التوتر يدفع كازاخستان إلى البحث عن حلفاء جدد مثل إسرائيل، التي تشارك تركيا مخاوفها من النفوذ الإيراني.
على الرغم من الدوافع الاقتصادية والإستراتيجية، فإن كازاخستان تواجه عددًا من التحديات التي قد تعوق انضمامها إلى اتفاقيات إبراهيم؛ أولًا: العلاقات مع روسيا، التي لا تزال تملك نفوذًا كبيرًا في آسيا الوسطى، قد تتأثر سلبًا إذا أبدت كازاخستان تقاربًا واضحًا مع إسرائيل والغرب. ثانيًا: التوترات الإقليمية المرتبطة بالحرب في غزة قد تجعل الانضمام إلى الاتفاقيات خطوة حساسة، خاصة في ظل الموقف التركي الداعم للفلسطينيين. أردوغان، الذي أعلن قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع إسرائيل في مايو (أيار) 2024، قد يعارض أي تحرك كازاخستاني نحو التطبيع إذا استمر التوتر بين أنقرة وتل أبيب. بالإضافة إلى ذلك، فإن المطالب الأمريكية، مثل اشتراط إتمام اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا شرطًا لانضمام كازاخستان إلى الاتفاقيات، قد تعقد العملية، خاصة في ظل التوترات المستمرة حول ناغورنو- كاراباخ.
تُظهر دوافع كازاخستان للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم مزيجًا من الاعتبارات الاقتصادية والجيوسياسية والأمنية. تسعى كازاخستان إلى تعزيز اقتصادها وتنويع تحالفاتها الدولية، مع الاستفادة من العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة لتحقيق التوازن في مواجهة النفوذ الروسي والصيني. العامل التركي يؤدي دورًا حاسمًا في هذا السياق، حيث تعزز منظمة الدول التركية والممر الوسطي التعاون بين كازاخستان وتركيا، مما قد يشجع على تطبيع أوسع مع إسرائيل إذا تحسنت العلاقات التركية- الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن التحديات الإقليمية، ومنها التوترات مع إيران، والموقف التركي من القضية الفلسطينية، قد تعوق هذه العملية. في النهاية، يعتمد نجاح انضمام كازاخستان إلى اتفاقيات إبراهيم على قدرتها على التوفيق بين مصالحها الوطنية والضغوط الإقليمية والدولية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.