تقدير موقفمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

هل يملك مقومات إسقاط النظام الإيراني من الداخل؟

جيش العدل وتكتيكات الاختراق


  • 3 أغسطس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: alarabiya

يُنظر إلى حركة جيش العدل بوصفها تهديدًا مركبًا يتجاوز العمل المسلح إلى كونه مشروعًا إقليميًّا، وربما دوليًّا، لتفكيك الهوية الوطنية الإيرانية وإضعاف الدولة من الداخل، حيث تتشابك العقيدة السلفية الجهادية للحركة والانتماء العرقي البلوشي في تشكيل منظومة أيديولوجية تنسجم مع أهداف قوى إقليمية ودولية، ومن هذا تكشف القراءة المعمقة لهجمات جيش العدل الأخيرة في نهاية يوليو (تموز) المنصرم عن تطور نوعي في تكتيكات الحرك من الكمائن التقليدية إلى الهجمات المعقدة والمنسقة، مع قدرة على اختيار توقيتات سياسية حساسة، واستخدام دعاية إعلامية عالية التأثير، ويشير ذلك إلى تطور في البنية التنظيمية والاستخباراتية للحركة، وتفاعلها الديناميكي مع التوازنات الداخلية والخارجية المحيطة بإيران. في مقابل هذا يُظهر رد الفعل الإيراني ارتباكًا بين المقاربة الأمنية الصلبة، والمطالب الاجتماعية المشروعة للسكان المحليين، وهو ما قد يعزز مستقبل النشاط المسلح في الجمهورية الإيرانية في ظل الجدل الدائر بشأن انهيار النظام، وتقسيم البلاد وفقًا للنزعات الإثنية والدينية.

جذور جيش العدل

تعد حركة جيش العدل من أبرز التنظيمات المسلحة السنية المناوئة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في محافظة سيستان وبلوشستان ذات الأغلبية السنية، التي تعد ثاني أكبر محافظة في إيران من حيث المساحة، وتشترك في حدود برية طويلة نحو 1200 كيلومتر مع كل من أفغانستان وباكستان، وفي هذا السياق تأسس جيش العدل عام 2012 -الذي يطلق عليه الإيرانيون اسم جيش الظلم- بقيادة عبد الرحيم ملازاده، المعروف باسم صلاح الدين فاروقي، بعد تفكيك جماعة جند الله وإعدام زعيمها عبد الملك ريغي عام 2010، وجاءت النشأة في لحظة فراغ تنظيمي في المشهد المسلح البلوشي، حيث استغل فاروقي الحاضنة الاجتماعية البلوشية الساخطة على النظام لتجنيد عناصر جديدة، مستفيدًا من الحدود المفتوحة مع باكستان، ومن الطبيعة الجغرافية الصعبة في مناطق سراوان، وخاش، وإيرانشهر.

تبنت حركة جيش العدل مزيجًا من المرجعيات السلفية الجهادية المتشددة، المستمدة من أدبيات ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ممزوجة بخطاب قومي بلوشي مضاد للدولة، وترى هذه الأدبيات أن الجمهورية الإسلامية تمثل نظامًا يضطهد السنة، ويهمش الأقليات العرقية، وعلى رأسها البلوش، حيث تستخدم الحركة مفردات تنتمي إلى فكر تنظيم القاعدة، مثل الجهاد ضد المرتدين، والردة، ودار الكفر، والتمكين، وإقامة الدولة الإسلامية، ويدعو جيش العدل إلى نسخة هجومية من الجهاد، تُشرع استهداف الشيعة كمقدمة لتحرير السنة في إيران، وتربط هذه الدراسات فكر الجماعة بفكر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، خاصة في تبرير سفك الدماء، وتصنيف كل مخالف على أنه مرتد.

يرتبط خطاب جيش العدل بتيار الإسلام السياسي السني المتشدد، لكن مع إدماج واضح للنزعة العرقية البلوشية، حيث تستغل الحركة التمييز الواقع على البلوش من حيث الفقر البطالة، وغياب الخدمات الأساسية في البنية التحتية في سيستان وبلوشستان لتعبئة الرأي العام المحلي ضد النظام الإيراني، وتروج الحركة لرؤية سياسية مفادها أن الحكم الإيراني احتلال فارسي صفوي لأرض البلوش السنة، وأن استقلال بلوشستان هو حق طبيعي، ويُقدم هذا الخطاب بلغة قومية متطرفة أحيانًا، وأحيانًا أخرى دينية سلفية؛ ما يجعل الحركة تجمع بين بعدين: طائفي وديني، كما تربط المراكز الإيرانية، مثل المعهد العالي للدفاع الوطني والأبحاث الإستراتيجية في إيران، خطاب جيش العدل بخطاب جبهة تحرير بلوشستان، وبحركة طالبان باكستان، في مسعى إلى خلق تقاطع في الأهداف مع هذه الحركات.

وبالنظر إلى الهيكل التنظيمي لجيش العدل نجد أنه يتبنى تنظيمًا شبه هرمي، على شكل خلايا ميدانية غير مرتبطة مباشرة بقيادة مركزية واضحة، مما يصعب اختراقه أمنيًّا، حيث تقود الحركة لجنة مركزية تُعرف باسم مجلس الشورى، تضم صلاح الدين فاروقي، وبعض المساعدين المقربين، وتعتمد الحركة على ما يُعرف بـالعمل اللامركزي في تنفيذ العمليات، أي منح الخلايا الميدانية حرية تكتيكية عالية في اختيار الأهداف وتنفيذ الهجمات؛ ما يزيد مرونة الحركة، ويُضعف قدرة الأجهزة الإيرانية على التنبؤ بضرباتها، حيث تركزت العمليات الأولى لجيش العدل على نصب كمائن لدوريات الحرس الثوري، وتنفيذ عمليات اختطاف لجنود في مناطق حدودية، ثم نشر فيديوهات توثق الإعدام الثأري لهؤلاء الجنود، في رسالة رمزية للتحدي السياسي والطائفي. وتتهم الجمهورية الإسلامية الدول الإقليمية، خاصة باكستان وأفغانستان، بدعم جيش العدل، وتولي مهام التدريب العسكري لعناصره في معسكرات سرية داخل بلوشستان الباكستانية، بالتعاون مع فصائل طالبان، وبدعم لوجستي أفغاني.

وفي هذا السياق، يعتمد جيش العدل على الأداة الإعلامية لنشر فكره، حيث يتقن جيش العدل استخدام الإعلام الرقمي لتسويق عملياته، وتجنيد الأنصار، حيث تنتج الجماعة مقاطع دعائية توثق عملياتها ضد قوات الأمن، وتعرضها عبر قنوات تليغرام مشفرة، ومواقع على شبكة الدارك ويب، فيما ترتكز هذه الدعاية على خطاب ديني عنيف، يرتبط بترسيخ فكرة الشهادة والجهاد والثأر والتمكين، وتُرفق هذه المواد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية لإضفاء الشرعية على العمليات المسلحة، وغالبًا ما تصدر بيانات الحركة بصيغة بيان إلى الأمة السنية، بما يوحي بامتلاكها شرعية دينية واسعة؛ ما يجعل هذا النمط من الدعاية له أثر كبير في جذب الشبان في المناطق الحدودية، لا سيما في ظل ضعف حضور الدولة هناك.

القراءة العملياتية لهجمات جيش العدل

منذ تأسيسها عام 2012، تبنت الحركة نمطًا تصاعديًّا من الهجمات ضد القوات الإيرانية، مستندة إلى تكتيكات حرب العصابات والهجمات غير المتكافئة، مع استفادة ملحوظة من الدعم اللوجستي العابر للحدود. ويُلاحظ أن الهجمات لا تأتي عشوائيًّا، بل تحمل دلالات متعلقة بتوقيتاتها، وأهدافها، وموقع تنفيذها، ما يُظهر قدرة متزايدة على التنظيم والمناورة السياسية، تتضح فيما يلي:

أولًا- تطور أنماط الهجمات

  • المرحلة الأولى مرحلة التأسيس (2012 – 2015): خلال هذه المرحلة، اعتمد جيش العدل على كمائن الطرقات، ونصب عبوات ناسفة تستهدف الدوريات الإيرانية، خاصة قوات الباسيج والحرس الثوري، مع توثيق مصور لبعض العمليات، مثلما حدث في كمين في منطقة سراوان بأكتوبر (تشرين الأول) 2013، حيث أدى إلى مقتل 14 من حرس الحدود، وجاء بعد إعدام الحكومة عددًا من السجناء السنة في طهران، ما يربط الهجوم برد طائفي سياسي في إطار استغلال المشاعر الطائفية وغياب الوجود الأمني الكافي في المنطقة، لإرسال رسائل رمزية بشأن الثأر للسنة المضطهدين.
  • المرحلة الثانية مرحلة الانتشار وإثبات الوجود (2016 – 2019): أصبحت العمليات أكثر جرأة، مع اختطاف الجنود عبر الحدود الباكستانية، وتفجير سيارات مفخخة، على غرار اختطاف 12 عنصرًا من الحرس الثوري في ميرجاوة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، من خلال تعاون لوجستي مع طالبان باكستان، واستغلال تغلغل الجماعة في شبكات التهريب، وجاءت هذه العملية في إطار تصاعد التوتر الإيراني الباكستاني، وردود فعل داخلية غاضبة من ضعف الدولة في تأمين حدودها.
  • المرحلة الثالثة الهجمات النوعية والموجهة (2020 – 2025): شهدت هذه المرحلة تصعيدًا في الهجمات الانتحارية والهجمات على مقار الحرس الثوري، مع إظهار قدرة استخباراتية أعلى في تحديد الأهداف، كما جاء في هجوم انتحاري في فبراير (شباط) 2023 على حافلة للحرس الثوري في زاهدان، أسفر عن مقتل 27 عنصرًا. وفي يناير (كانون الثاني) 2024 نفذ جيش العدل تفجيرًا مزدوجًا قرب مقر الاستخبارات في خاش، وفي يونيو (حزيران) 2025 حدث هجوم على مركز تجمع لقوات الباسيج في إيرانشهر، وكل تلك العمليات استهدفت مؤسسات الدولة السيادية بدلًا من الدوريات فقط، ما يعكس نضوجًا في الأهداف التكتيكية للحركة.

ثانيًا- تحليل سياق العمليات المسلحة

  • ارتباط الهجمات بأحداث داخلية حساسة: غالبًا ما تأتي الهجمات بعد قرارات قضائية بإعدام من الأقلية السنية، أو قمع احتجاجات في الإقليم، فهجوم فبراير (شباط) 2023 تزامن مع إعدام ثلاثة من النشطاء السنة بتهم الإفساد في الأرض، ما اعتُبر رسالة انتقامية من جيش العدل.
  • استغلال الفترات الانتقالية للنظام: تتكثف الهجمات خلال فترات التغييرات الحكومية في طهران، أو الاستعداد للانتخابات، إذ يُحتمل ضعف التنسيق بين الأجهزة، حيث تصاعد الهجمات في صيف 2021 في أثناء انتقال السلطة إلى إبراهيم رئيسي.
  • التفاعل مع الأزمات الإقليمية: يتنامى عدد الهجمات عند تصاعد التوتر الإيراني الخليجي، أو مع التوتر مع الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، مثل تفجير فبراير (شباط) 2019 الذي تزامن مع قمة وارسو المعادية لإيران؛ ما دفع بعض المحللين الإيرانيين إلى الربط بين تحريك أدوات الإرهاب السنية والضغوط الدولية
  • التركيز على المواقع الجغرافية الصعبة، مثل الحدود الباكستانية في مناطق مثل ميرجاوة، وسراوان، وخاش؛ نظرًا إلى الطبيعة الجبلية الصعبة، ووجود طرق تهريب نشطة، فضلًا عن ضعف السيطرة الأمنية الإيرانية في العمق الحدودي.
  • توسيع الهجمات نحو الداخل: بدءًا من 2022، ظهرت هجمات في زاهدان وإيرانشهر، وهي مدن ذات رمزية إدارية كبيرة، في محاولة من جيش العدل لفرض الحضور داخل المدن، ونقل المعركة من الأطراف إلى القلب الإداري لإقليم بلوشستان.

ثالثًا- التكتيكات المستخدمة والقدرات العسكرية

  • الكمائن بالعبوات الناسفة: تُزرع على طرق مرور الحرس، وتُفجر عن بعد مع وجود فرق استهداف ثانوية، وهو ما يعد تكتيكًا كلاسيكيًّا في حروب العصابات يهدف إلى إلحاق خسائر رمزية، ورفع تكلفة التمركز الأمني.
  • الهجمات الانتحارية: تستخدم سيارات مفخخة أو أحزمة ناسفة، وغالبًا ما تُوجه نحو مقار ثابتة، أو مواكب أمنية؛ ما يشير إلى قرب الجماعة من نهج القاعدة وداعش، خاصة في الرمزية الدينية للهجوم.
  • الاغتيالات الفردية: يستهدف جيش العدل عناصر أمن محليين متعاونين مع الدولة، أو شيوخ عشائر داعمين للحكومة، بهدف خلق فراغ في الحاضنة الاجتماعية الموالية للدولة.
  • العمليات عبر الحدود: يُنفَّذ اختطاف أو إطلاق نار من داخل الأراضي الباكستانية، ما يبرز قدرة جيش العدل على التحرك العابر للحدود، والاستفادة من ضعف الجيش الباكستاني.

تحليل هجوم جيش العدل في يوليو 2025

نفذ عناصر تابعون لجيش العدل  في السادس والعشرين من يوليو (تموز) الماضي هجومًا استهدف مبنى القضاء في مدينة زاهدان بإقليم سيستان وبلوشستان، ثم امتد على نحو عشوائي نحو المواطنين الذين كانوا موجودين في محيط المكان، وقد حمل هذا الهجوم عدة دلالات بالغة الأهمية ترتبط أولاها بدلالة التوقيت، حيث وقع الهجوم يوم السبت مع بداية أسبوع العمل القضائي، ما يجعل الرسالة أكثر استفزازًا للنظام، لا سيما في ذروة الحضور الرسمي بالمؤسسات العدلية، واستغلال انخفاض الإجراءات الأمنية بعد عطلة نهاية الأسبوع، وهو تكتيك تكرر سابقًا في هجمات سابقة لتنظيمات متمردة في الإقليم، كما تزامن أيضًا مع تصاعد التوتر الطائفي بعد سلسلة من الإعدامات التي طالت نشطاء بلوش مؤخرًا، ما يضفي على الهجوم طابعًا انتقاميًّا مباشرًا، ما يرجح أن الهجوم كان محاولة لاستعادة المبادرة والرد المعنوي على الإجراءات الأمنية للنظام، في حين أن دلالة مكان الهجوم تتعلق برمزية مزدوجة؛ حيث تعد مدينة زاهدان العاصمة الإدارية والثقافية للبلوش السنة، وتشهد توترًا مستمرًا بين السكان المحليين والأجهزة الأمنية، ما يجعل الهجوم تأكيدًا لاستمرار جيش العدل في فرض حضوره الرمزي والميداني داخل معقل الصراع، والرسالة الثانية أن استهداف مؤسسة عدلية يعكس رفضًا لشرعية النظام القضائي الإيراني، واعتباره أداة قمع ضد النشطاء السنة والبلوش، كما أن القرب من الحدود الباكستانية يضفي على الهجوم دلالة أمنية إقليمية ترتبط بطرق التهريب وملاذات المقاتلين.

وتمثل الهدف المباشر للهجوم في تقويض صورة النظام الإيراني وقدرته على حماية المؤسسات السيادية داخل الدولة، ما يعزز صورة جيش العدل كقوة مقاومة قادرة على تنفيذ عمليات نوعية في قلب زاهدان. أما من ناحية إستراتيجية، فالهدف هو توسيع دائرة الاستنزاف الأمني لإيران في أطرافها الجغرافية الهشة، ولعل تكتيك الهجمة الأخيرة التي استخدم فيها جيش العدل أسلوب التفجير الانتحاري متبوعًا بإطلاق نار كثيف على قوات الحماية، هو تكتيك يجمع بين التشتيت والتدمير، ما يشير إلى سرعة التنفيذ، واختيار نقطة ضعف في محيط المبنى، فضلًا عن القدرة على تنسيق زمني دقيق بين التفجير والاشتباك، وهذا النمط يدل على تدريب مسبق ومعلومات استخباراتية محلية عن الثغرات الأمنية، إذ يُحتمل أن يكون قد سبق الهجوم استطلاع مكثف وتحضير لوجستي عن طريق خلايا نائمة داخل المدينة.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن تحليل الهجوم يستلزم التعرض للبيئة المحفزة له، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، حيث جاء الهجوم وسط تصاعد الاستياء في إقليم سيستان وبلوشستان نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية، وتصاعد القمع الأمني، وتهميش السنة والبلوش سياسيًّا واقتصاديًّا، كما تصاعدت في الفترة الأخيرة الاحتجاجات المناهضة للحرس الثوري في المنطقة، ما يجعل الهجوم استثمارًا في لحظة توتر شعبي، يتزامن مع تصاعد الحراك السني في الإقليم الشرقي لباكستان المجاور، حيث يُعتقد بوجود تداخلات لوجستية بين الحركات السنية المسلحة في كلا الجانبين، كما يأتي في وقت حساس دوليًّا، حيث تخوض إيران مفاوضات متوترة بشأن ملفها النووي، كما تواجه ضغوطًا غربية متزايدة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، والأهم أن خطر مواجهة إسرائيل عسكريًّا لا يزال قائمًا، والتهديد بإسقاط النظام السياسي في إيران واستهداف المرشد الأعلى علي خامنئي، في حين تحاول الجمهورية الإسلامية إعادة التموضع إقليميًّا بعد انكفاء مؤقت بسبب التطورات الأخيرة في سوريا والعراق واليمن، وانهيار فصائلها المسلحة في محور المقاومة، هذه العوامل تجعل أي هجوم نوعي ضد مؤسسات سيادية إيرانية ورقة ضغط مباشرة على النظام.

إستراتيجية النظام الإيراني تجاه جيش العدل

في مواجهة التصعيد المتواصل لهجمات حركة جيش العدل في إقليم سيستان وبلوشستان، تبنت الدولة الإيرانية مجموعة متشابكة من التكتيكات المضادة، اتسمت بتنوع المسارات بين العسكري والاستخباراتي والإعلامي والاجتماعي والدبلوماسي، ما يكشف عن تطور ملحوظ في أدوات الدولة من الرد التقليدي إلى تبني أنماط أكثر تعقيدًا ومرونة، وإن ظلت المعالجة الأمنية الغالبة هي الأداة المركزية للدولة، فمن الجانب العسكري والأمني نشرت إيران وحدات إضافية من الحرس الثوري في المناطق المضطربة، خاصة في سراوان وميرجاوة وخاش، وشمل ذلك إنشاء ألوية متخصصة في مكافحة التسلل وحرب العصابات، وتوسيع نطاق انتشار فيلق القدس داخل الإقليم للاستفادة من خبراته في البيئات المعقدة، كما أقامت الدولة مراكز مراقبة ثابتة على المرتفعات والمسارات الحدودية التي يُعتقد أن جيش العدل يستخدمها للتنقل، أو التسلل إلى الداخل.

بالتوازي مع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة توسيع استخدام إيران للطائرات المسيرة في رصد الحدود، وتنفيذ عمليات استخباراتية عالية الدقة، فقد استُخدمت هذه الطائرات في مسح مساحات شاسعة من الجبال، وتتبع أثر تحركات المجموعات المسلحة، فيما سُجّلت حالات استثنائية من القصف الدقيق عن طريق المسيرات داخل الأراضي الباكستانية لاستهداف معسكرات تدريب مزعومة للحركة، كما نفذ الحرس الثوري عمليات اغتيال نوعية لعدد من قادة جيش العدل داخل العمق الإيراني، في إطار ما يوصف بـالضربات الاستباقية.

وعلى المستوى الاستخباراتي، اتجهت وزارة الاستخبارات والأمن الوطني الإيراني (اطّلاعات) إلى بناء شبكات تجسس محلية داخل المجتمع البلوشي، اعتمادًا على التجنيد المالي، أو الضغط الأمني على بعض العناصر، وقد أسفرت هذه الشبكات عن تفكيك عدد من الخلايا النائمة، وضبط شحنات أسلحة ومتفجرات معدة للاستخدام، كما شملت التكتيكات المضادة للنظام الإيراني حربًا إلكترونية نشطة، تضمنت اختراق قنوات جيش العدل على تطبيقات التواصل الاجتماعي، وبث أخبار زائفة عن خلافات داخل القيادة، أو عن مقتل رموز ميدانية، وهو ما يندرج تحت ما تسميه طهران بـالحرب النفسية المعكوسة.

أما في البعد الإعلامي، فقد اعتمد النظام الإيراني على إستراتيجية الترويج للحركة على أنها امتداد لتنظيمي القاعدة وداعش، مع اتهامات دائمة بأنها أداة بيد السعودية وإسرائيل، وقد أدت وسائل الإعلام المرتبطة بالحرس الثوري، مثل تسنيم وفارس نيوز، دورًا مركزيًّا في توجيه خطاب يركز  على وصف عناصر جيش العدل بـالمرتزقة والتكفيريين، وربط عملياتهم بالتدخلات الإقليمية في اليمن وسوريا، كما وظف النظام رمزية الشهيد الشيعي، من خلال إقامة جنازات جماعية لعناصر الحرس الثوري الذين يُقتلون في الهجمات، في محاولة لحشد الداخل، وتبرير التشدد الأمني ضد جيش العدل.

حاولت الجمهورية الإيرانية على الصعيد الاجتماعي تقديم نفسها بوصفها طرفًا إنمائيًّا وليس فقط أمنيًّا، عن طريق إطلاق مشروعات بنى تحتية وخدمات أساسية في مدن الإقليم، مثل تحسين شبكات الكهرباء والمياه، وإنشاء مدارس ومساجد بإشراف الدولة في المدن البلوشية، كما سعت إلى استيعاب بعض رجال الدين السنة المعتدلين ضمن مجالس محلية وشورى استشارية؛ لإضفاء شرعية على خطاب الدولة في الداخل البلوشي، لكن هذه المبادرات ظلت محدودة النطاق، وغلب عليها الطابع الرمزي أو الموسمي؛ ما جعل أثرها الفعلي في تحسين علاقة الدولة بالمجتمع السني ضعيفًا.

في مقابل تلك الإستراتيجيات الداخلية، مارست طهران ضغوطًا دبلوماسية على باكستان لضبط الحدود ومنع تسلل المقاتلين، وسُيّرت دوريات مشتركة بين الحرس الثوري والجيش الباكستاني في بعض المناطق الحدودية. كما استخدمت إيران علاقاتها مع الصين والهند -بوصفهما مستثمرين أساسين في إقليم بلوشستان الباكستاني- لحث إسلام آباد على الحد من تساهلها مع وجود الحركة داخل أراضيها. ومع ذلك، تتهم طهران النظام باكستان بالتعاون مع تلك الحركة، أو على الأقل بغض الطرف عن وجود جيش العدل في العمق الباكستاني، وبالرغم من نجاح هذه التدابير في تقليص قدرة الحركة على شن هجمات كبيرة متتالية، فإن جيش العدل استطاع الحفاظ على نمط ضربات متقطعة وفعالة، كما حدث في الهجوم الأخير في 26 يوليو (تموز) المنصرم، مما يشير إلى استمرار تحدي الحركة للمنظومة الأمنية الإيرانية؛ ما يكشف عوار المقاربة الأمنية الحالية في ظل بقاء التربة السياسية والاجتماعية حاضنة للعنف نتيجة التمييز الطائفي، وغياب فرص التمثيل والمشاركة.

الارتدادات السياسية والأمنية على النظام الإيراني

تشكل هجمات جيش العدل في إيران وجهًا مركزيًّا لصراع سياسي متعدد الأبعاد، يتجاوز الطابع الأمني أو الطائفي العلني، فعلى المستوى الداخلي، تمثل هذه الهجمات تعبيرًا عن حالة تصدع سياسي في علاقة المركز بطرفه الشرقي، حيث يتلاقى التهميش الإثني والطائفي مع انسداد الأفق السياسي في إقليم سيستان وبلوشستان، وهو ما يُحول العنف المسلح إلى وسيلة لإعلان الاحتجاج على غياب الاعتراف والتمثيل داخل بنية الدولة المركزية، فمن منظور السياسة الداخلية الإيرانية، تعبر الهجمات عن أزمة بنيوية في آليات إدارة التنوع العرقي والديني داخل النظام السياسي، إذ يعاني أبناء الطائفة السنية البلوش من استبعاد شبه تام من المؤسسات السياسية والأمنية، فضلًا عن غيابهم عن هياكل صنع القرار المحلية والوطنية، وهو ما يُضعف شرعية الدولة في الإقليم، وتأتي هجمات جيش العدل لتضع هذه الأزمة في صدارة المشهد، عن طريق فرض حالة طوارئ أمنية متكررة تُحرج النظام أمام الداخل والخارج، وتُعيد طرح سؤال التمثيل مقابل الولاء في الهوامش الإيرانية.

وتمثل كل عملية هجومية تنفذها الجماعة رسالة سياسية مزدوجة؛ من جهة تأكيد حضور بديل غير رسمي للدولة في الإقليم، قادر على فرض قواعد اشتباك مستقلة، ومن جهة أخرى، تمثل تحديًا مباشرًا لهيبة المؤسسات السيادية، خاصةً الحرس الثوري والباسيج، في وقت تركز فيه القيادة الإيرانية على تصدير صورة الدولة القوية الموحدة؛ ومن ثم فإن جيش العدل يمارس من خلال هجماته شكلًا من أشكال السياسة من خارج النظام، حيث تتحول أدوات العنف إلى وسائل ضغط لتحقيق مطالب سياسية غير معلنة، أبرزها الاعتراف بالهوية السنية البلوشية، وتعديل نمط علاقة الإقليم بالمركز.

سياسيًّا أيضًا، شكلت هذه الهجمات عنصر توتر داخل النظام نفسه، إذ تُضعف موقف التيار المعتدل أو الإصلاحي الداعي إلى سياسات احتواء ومصالحة داخلية، وتدعم سردية المحافظين بأن المناطق السنية تحتاج إلى الحسم لا الحوا؛ وبذلك تتحول هجمات جيش العدل إلى عنصر فاعل في إعادة تشكيل الاصطفافات داخل النخبة السياسية الإيرانية، وتُستخدم أحيانًا لتبرير تعزيز القبضة الأمنية، وتوسيع صلاحيات الحرس الثوري، ما يُربك المشهد السياسي الداخلي، ويضعف احتمالات الإصلاح من الداخل.

أما على المستوى الخارجي، فإن التداعيات السياسية لهجمات جيش العدل تتجاوز البعد المحلي لتلامس التفاعلات الإقليمية والدولية، فإيران تنظر إلى هذه الهجمات بوصفها جزءًا من إستراتيجية الضغط غير المتكافئ التي تستخدمها أطراف إقليمية وغربية لإرباك أمنها الداخلي، واستنزافها على حدودها، وقد اتهمت طهران مرارًا من خلال تصريحات لمسؤولي الحرس الثوري كلًا من السعودية والإمارات والولايات المتحدة بدعم الحركة على نحو مباشر أو غير مباشر، أو غض الطرف عن أنشطتها انطلاقًا من الأراضي الباكستانية.

وفي هذا السياق، تصبح هجمات جيش العدل أداة في الحرب السياسية غير المعلنة ضد إيران، تُستخدم لتعطيل قدرتها على فرض هيمنتها في الشرق، وإشغالها بجبهة داخلية تستهلك الموارد والجهد، وتكتسب الهجمات رمزية سياسية أكبر حين تتزامن مع تصعيدات إقليمية كما يحدث حاليًا من التهديد بتشديد العقوبات الغربية للضغط على النظام الإيراني في إطار الاتفاقيات النووية، فضلًا عن آثار الحرب الدامية من إسرائيل والولايات المتحدة على قوى محور المقاومة الإيرانية؛ ما يضع جيش العدل أداة ضغط ضمنية على النظام الإيراني، كما يُفسر النظام كل تصعيد من جانب جيش العدل ضمن إستراتيجية إدارة الحزام السني، التي يرى أنها مدعومة من قوى خليجية وغربية لتطويق إيران من داخلها.

الخاتمة

يُفضي الاستعراض السابق إلى حقيقة جوهرية مفادها أن جيش العدل حالة فريدة من التمرد المحلي المسلح الذي يتجاوز التصنيفات التقليدية للحركات الانفصالية أو الجهادية، ليتقاطع مع تعقيدات السياسة الداخلية والتوازنات الإقليمية والدولية، ويجسد أزمة مزمنة في بنية الدولة الإيرانية نفسها، بين سردية الدولة المركزية الموحدة، وتعدد الهويات غير المعترف بها، خاصة في ظل هيمنة سردية طائفية على النظام السياسي والأمني، وغياب آليات تمثيل فعالة لأبناء الإقليم، لتتحول كل عملية هجومية إلى رسالة لإثبات الفشل المؤسسي للدولة في ضبط الأمن، واحتواء الأقليات العرقية والدينية، وتعطيل صورة الاستقرار التي تسعى طهران إلى تصديرها، ومن دون حلول سياسية حقيقية تتجاوز الإدانة الأمنية والرد العسكري، فإن هذه الهجمات ستستمر كأداة سياسية بديلة، تُهدد الاستقرار، وتُعيد إنتاج الانقسام في قلب الدولة الإيرانية،  وما لم تقم الدولة الإيرانية بإصلاحات عميقة في العلاقة مع البلوش السنة، وفي نمط توزيع السلطة والفرص والاعتراف بحقوق تلك الجماعات، فإن هذا التهديد سيظل يتجدد -حتى لو تغير اسمه وشكله- كمؤشر دائم على اختلال التوازن بين الدولة ومواطنيها في مناطقها الأبعد والأضعف، وقد يُوظف على المدى المنظور لتآكل النظام من الداخل.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع