تقدير موقف

أرمينيا وروسيا على مفترق التحالف.. لحظة “ألتاي” الفاصلة


  • 28 يوليو 2025

شارك الموضوع

شهدت منطقة جنوب القوقاز في السنوات الأخيرة تحولات جيوسياسية عميقة أعادت تشكيل توازن القوى الإقليمي؛ ففي أعقاب حرب ناغورني كاراباخ عام 2020، وما تلاها من تطورات، باتت العلاقات الروسية الأرمينية تمر بمرحلة دقيقة تتسم بالتوتر وعدم اليقين. وعلى خلفية هذه المتغيرات، جاء لقاء رئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان ونظيره الروسي ميخائيل ميشوستين في 24 يوليو (تموز) 2025 بجمهورية “ألتاي” الروسية، على هامش مؤتمر دولي عن البيئة. ورغم الطابع البيئي الظاهري لهذا الحدث، فإن انعقاد اجتماع ثنائي رفيع المستوى بين يريفان وموسكو في هذه الظروف يُضفي على اللقاء بعدًا إستراتيجيًّا يتجاوز البروتوكول الدبلوماسي المعتاد. وجدير بالذكر أن هذه التطورات تجري على خلفية مواجهة روسية- غربية أوسع نطاقًا (خاصة في ظل حرب أوكرانيا)؛ مما يزيد حساسية خيارات أرمينيا، ويجعل موازنتها بين الأطراف مهمة أكثر تعقيدًا.

لقد ارتبطت أرمينيا تاريخيًّا بعلاقات تحالف وثيقة مع روسيا، حيث شكلت موسكو الضامن الأمني التقليدي لأرمينيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، لكن السنوات القليلة الماضية حملت تحديات غير مسبوقة لهذا التحالف، خاصةً بعد حرب 2020 التي انتهت بتغيير جذري في معادلة الصراع لصالح أذربيجان. ومع انشغال روسيا بأزمات دولية أخرى، لا سيما حربها في أوكرانيا منذ 2022، وجدت أرمينيا نفسها أمام واقع إقليمي جديد يدفعها إلى البحث عن توازنات وتحالفات إضافية لحماية مصالحها الوطنية. في هذه الأجواء المشحونة، اكتسب لقاء باشينيان وميشوستين أهمية خاصة لأنه يأتي في وقت تسعى فيه كل من يريفان وموسكو إلى إعادة تقييم علاقتهما، ورسم معالم المرحلة المقبلة.

خلفية العلاقات الروسية الأرمنية منذ 2020

كانت روسيا الضامن الأمني والشريك الاقتصادي الأهم لأرمينيا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، فقد ارتبط البلدان بمعاهدة تحالف عسكري (منظمة معاهدة الأمن الجماعي)، وتكامل اقتصادي (الاتحاد الاقتصادي الأوراسي)، وانتشرت قاعدة عسكرية روسية في الأراضي الأرمينية، لكن حرب ناغورني كاراباخ عام 2020 شكّلت منعطفًا حرجًا في هذه العلاقة. خلال تلك الحرب تكبّدت أرمينيا هزيمة قاسية أمام أذربيجان المدعومة من تركيا، وتوسطت موسكو لإنهاء القتال من خلال اتفاق وقف إطلاق نار نشرت بموجبه قوات حفظ سلام روسية في كاراباخ. غير أن كثيرًا من الأرمن رأوا أن روسيا -رغم تعهداتها بوصفها حليفًا- لم تتدخل عسكريًّا لإنقاذ أرمينيا في لحظة مصيرية. هذا الشعور بخيبة الأمل زرع أولى بذور التوتر في التحالف الروسي الأرميني. وعلى الصعيد الداخلي، واجه باشينيان موجة احتجاجات ودعوات للاستقالة بسبب نتائج الحرب، لكنه نجح في تجديد شرعيته بفوز حزبه في انتخابات مبكرة منتصف 2021؛ مما ضمن بقاءه في السلطة، رغم بقاء المعارضة -خاصة الموالية لموسكو- بالمرصاد لسياساته.

في السنوات التالية، تفاقمت الشكوك المتبادلة؛ إذ شهدت حدود أرمينيا وأذربيجان مناوشات متكررة عامي 2021 و2022 دون أن تتدخل موسكو بحسم لدعم يريفان، واكتفت بالتصريحات والدعوات للحوار. وقد بلغ تذمر يريفان ذروته أواخر 2022 حين رفض باشينيان توقيع البيان الختامي لقمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، منتقدًا عجز المنظمة عن نصرة أرمينيا ضد الاعتداءات، ثم امتنعت يريفان في أوائل 2023 عن استضافة مناورات عسكرية مقررة لقوات المنظمة على أراضيها، في خطوة عكست مدى التوتر غير المسبوق بين أرمينيا وحلفائها التقليديين. تزامن ذلك مع انشغال روسيا بأزمتها الكبرى في أوكرانيا منذ 2022، مما صرف انتباهها وقدراتها عن جنوب القوقاز. في غضون ذلك، بدأت حكومة رئيس الوزراء نيكول باشينيان باتخاذ خطوات حذرة لتنويع شركائها الأمنيين والدوليين، فدعت بعثة مراقبة مدنية من الاتحاد الأوروبي إلى الحدود الأرمنية، وأجرت مناورات عسكرية محدودة مع الولايات المتحدة عام 2023، وأبدت استعدادها للمصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية رغم معارضة موسكو. رأت روسيا في هذه التحركات ابتعادًا خطيرًا من جانب يريفان عن مدارها التقليدي، واعتبرتها إجراءات “غير ودية”، خاصةً مع استمرار الخلافات بشأن كيفية التعامل مع التصعيد الأذربيجاني.

بلغ التوتر ذروته في خريف 2023 حين شنت أذربيجان عملية عسكرية خاطفة أنهت الوجود الأرميني في ما تبقى من كاراباخ. نزح عشرات الآلاف من الأرمن من الإقليم، وتبادلت يريفان وموسكو الاتهامات الضمنية بالمسؤولية. لم تمنع قوات حفظ السلام الروسية تقدم باكو، فاتهم مسؤولون أرمن موسكو بالتقاعس عن حماية حليفها، في حين لمّحت موسكو إلى أن سياسات باشينيان الغربية هي التي أضعفت أرمينيا، وأغرت أذربيجان بالهجوم. صرّح باشينيان أن اعتماد بلاده المطلق على روسيا في الأمن كان خطأً، وألمح إلى ضرورة إعادة النظر في منظومة التحالفات الأرمنية. بحلول مطلع 2024، باتت الثقة بين يريفان وموسكو شبه منعدمة: أرمينيا تشعر بأنها تُركت وحيدة في مواجهة خصومها، وروسيا مستاءة مما تعدّه انحيازًا أرمينيًّا للغرب، وتململًا من التحالف القديم. في ظل هذه الأجواء، أصبح التواصل المباشر بين قادة البلدين ضرورة ملحّة لاحتواء الانهيار في العلاقات، وجاء ترتيب لقاء باشينيان وميشوستين في صيف 2025 محاولةً لإعادة فتح قنوات الحوار، ومعالجة تراكمات السنوات السابقة.

التحولات في التوازن الإقليمي في جنوب القوقاز

أدت حرب 2020 ونتائجها إلى إعادة رسم خريطة القوى في جنوب القوقاز، فقد خرجت أذربيجان منتصرة، واستعادت أراضي واسعة، مستفيدة من دعم عسكري تركي عزز نفوذ أنقرة الإقليمي. في المقابل، وجدت أرمينيا نفسها أضعف عسكريًّا، وأكثر عزلة جغرافية مع استمرار إغلاق حدودها مع أذربيجان وتركيا. كما أن روسيا، التي كانت تقليديًّا اللاعب الخارجي الأقوى في المنطقة، تعرض نفوذها للاهتزاز؛ فإلى جانب انشغال موسكو بحرب أوكرانيا، وما نجم عنها من إنهاك اقتصادي وعسكري، برزت قوى أخرى تملأ الفراغ النسبي: الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة زادا انخراطهما في الوساطة بين أرمينيا وأذربيجان، فعقدت لقاءات قمة، ورعت مفاوضات سلام مباشرة بين الطرفين. كذلك برزت إيران بوصفها عاملًا إقليميًّا يحمي التوازن، فأعلنت بوضوح رفضها أي تغييرات جغرافية تمس الحدود الأرمنية- الأذرية، ونشرت قوات على حدودها الشمالية كتحذير ضمني.

هذا المشهد المتغير يعني أن أرمينيا لم يعد بوسعها الاتكال حصريًّا على مظلة روسيا الأمنية كما في الماضي، بل باتت تعتمد أيضًا على تواصلها مع الغرب والجوار الإقليمي لضمان مصالحها. وفي الوقت نفسه، أدركت موسكو أن جنوب القوقاز لم يعد ساحة نفوذ أحادية لها؛ بل صار ميدان تنافس معقد بينها وبين أنقرة والعواصم الغربية وحتى طهران. بناءً على ذلك، شعرت روسيا بالحاجة إلى ترسيخ حضورها مجددًا، وتفادي تهميشها في ترتيبات المنطقة المستقبلية. ضمن هذا الإطار، يمكن فهم حرص موسكو على دعوة باشينيان للقاء في ألتاي؛ فهي إشارة إلى أن الكرملين يسعى إلى استعادة زمام المبادرة في القوقاز عن طريق إصلاح علاقته بأرمينيا، بما يحول دون انجراف هذه الحليفة نحو معسكرات أخرى بشكل تام.

الأهداف المعلنة للقاء

في التصريحات العلنية، أكد الجانبان أن لقاء باشينيان وميشوستين ركز على تعزيز العلاقات الثنائية، ومناقشة التعاون ضمن التحالفات القائمة. شددت يريفان وموسكو على بحثهما وضع العلاقات الأرمنية الروسية الحالي، وسبل توسيع التعاون في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والعلاقات الاقتصادية الثنائية. أكد باشينيان خلال اللقاء أن أرمينيا مستمرة في العمل النشط ضمن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، في رسالة طمأنة واضحة إلى موسكو بأن يريفان لا تعتزم مغادرة هذا الفلك الاقتصادي. كما أبدى الطرفان اهتمامهما بإزالة العقبات أمام التجارة البينية، وزيادة حجم التبادل التجاري الذي شهد تراجعًا مؤخرًا.

وإلى جانب الاقتصاد، تناولت المباحثات قضايا قطاعية متنوعة، فتطرق الجانبان إلى مشروعات البنية التحتية الإقليمية، وكيفية تفعيلها بما يخدم البلدين (مثل ربط شبكات النقل والطاقة)، وكذلك التعاون العلمي والإنساني. كما حضر البعد البيئي في النقاشات بحكم انعقاد اللقاء على هامش مؤتمر الطبيعة في ألتاي، حيث تحدث باشينيان عن ضرورة تنسيق الجهود لحماية البيئة في المنطقة. وعلى الصعيد الدبلوماسي العام، حرص كلا الجانبين على إظهار أجواء إيجابية، فأكدا عمق الصداقة التاريخية بين البلدين، وأهمية الشراكة القائمة. هذا الخطاب الودي العلني استهدف تهدئة التكهنات بشأن وجود شرخ عميق، وإبراز صورة مفادها أن موسكو ويريفان لا تزالان ملتزمتين بتحالفهما التقليدي، وقادرتين على حل خلافاتهما بالحوار.

الأهداف غير المعلنة للقاء

وراء المجاملة الدبلوماسية، حمل اللقاء رسائل ضمنية سعى كل طرف إلى إيصالها للآخر. روسيا، كان الهدف الرئيس لها هو فرملة الابتعاد الأرمني المتسارع عن مدار موسكو. أرادت القيادة الروسية الحصول على تطمينات من باشينيان بأن انفتاح أرمينيا الأخير على الغرب لن يتطور إلى قطيعة مع موسكو أو تهديد لمصالحها الأمنية. ضمنيًّا، بحث الروس عن تأكيد بأن يريفان لن تفكر في الانسحاب من التحالفات التي تقودها روسيا (مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الأوراسي)، ولن تسمح بوجود عسكري غربي في أرمينيا يغيّر التوازن الإستراتيجي. كما احتج الكرملين على خطوات أرمينية رآها استفزازية، مثل مناورة الجيش الأرمني مع الأمريكيين، أو سعي يريفان للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وطالب بتفسير توجهات أرمينيا المستقبلية على هذه الأصعدة.

في المقابل، سعى باشينيان إلى ضمانات روسية بعدم تحويل التوتر السياسي إلى عقوبات وإجراءات تضرب أرمينيا، فبعد أن واجهت يريفان خلال الأشهر الماضية قيودًا روسية على بعض صادراتها، وحوادث تعطيل لمرور شاحناتها عبر المعابر، أراد باشينيان التأكد من أن موسكو لن تستمر في استخدام مكامن ضعف الاقتصاد الأرمني كورقة ضغط. وألمح الجانب الأرمني إلى أن تعزيز أمن أرمينيا بات يتطلب تعاونًا دوليًّا أوسع (كالمراقبين الأوروبيين)، وأن هذا لا يستهدف روسيا إذا التزمت موسكو بدورها التقليدي في حماية أرمينيا. بكلمات أخرى، حاول باشينيان إقناع موسكو بأن ابتعاده النسبي نحو شركاء جدد هو إجراء احترازي أملته ضرورات الوضع الراهن، وليس تغييرًا جذريًّا في بوصلته التحالفية ما دامت روسيا تحترم مصالح أرمينيا الأساسية. في الوقت نفسه، أكد أن بلاده لا تريد صدامًا مع موسكو، بل على العكس ترغب في استمرار التحالف، لكن على أساس أكثر توازنًا واحترامًا للسيادة المتبادلة. هذه الرسائل غير المعلنة شكّلت لُب التفاعل الحقيقي في لقاء ألتاي، مع أن ما ظهر للعلن بقي في إطار العموميات الإيجابية. كما أدرك باشينيان خلال اللقاء ضرورة تبديد أي نية لدى موسكو لتغييره سياسيًّا، إذ لم تخف بعض الدوائر الروسية رغبتها في رؤية قيادة أرمنية أكثر طواعية؛ لذلك حرص على التأكيد أنه -برغم انفتاحه الغربي- باقٍ في الإطار التحالفي مع موسكو إذا ما احترمت استقلالية قراره.

الملفات الاقتصادية وأزمة التبادل التجاري

يشكل التعاون الاقتصادي أحد أعمدة العلاقة الروسية الأرمنية، وقد تأثر هذا الجانب سلبًا بفعل التوتر السياسي الأخير. فمع أن حجم التبادل التجاري قفز على نحو ملحوظ عام 2022 نتيجة العقوبات الغربية على موسكو (حيث أصبحت أرمينيا منفذًا مهمًّا للبضائع والخدمات نحو روسيا)، عاد معدل التجارة وانخفض في علمي 2023 و2024 تحت وطأة عوامل مختلفة؛ فمن جهة، شددت الدول الغربية رقابتها على حركة إعادة تصدير السلع إلى روسيا، وضغطت على يريفان لضبط الشركات التي قد تنقل مواد تقنية حساسة لموسكو. ومن جهة أخرى، استخدمت روسيا أدوات اقتصادية لبعث رسائل عدم رضا إلى أرمينيا: فرضت حظرًا فجائيًّا على منتجات ألبان، وفواكه أرمينية بذريعة مشكلات جودة، وأعاقت -على نحو غير مباشر- مرور الشاحنات الأرمنية عبر المعبر البري الأساسي إلى روسيا (معبر لارس عبر جورجيا). هذه الإجراءات أضرت بالصادرات الأرمنية، وكشفت هشاشة اعتماد الاقتصاد الأرميني على السوق الروسية في ظل غياب ضمانات الاستمرار.

أدرك الطرفان خلال اللقاء أن تراجع التبادل التجاري يضر بكليهما، ويهدد بتوسيع هوة الخلاف السياسي؛ ففيما يتعلق بأرمينيا، يعني تقلص الصادرات والاستثمارات الروسية ضربة لاقتصادها الصغير، ويعني أيضًا خسارة مزايا الحصول على موارد الطاقة والتسهيلات المالية من موسكو (حيث تعتمد أرمينيا اعتمادًا شبه كامل على الغاز والنفط الروسي لتلبية احتياجاتها). كما تعتمد آلاف الأسر الأرمينية على تحويلات مواطنيها العاملين في روسيا بوصفها مصدر دخل أساسيًّا، مما يعكس تشابك الاقتصادين. أما روسيا، فإن خسارة السوق الأرمينية -ولو كانت محدودة الحجم- تكتسب بعدًا إستراتيجيًّا؛ لأنها تفقدها موطئ قدم اقتصاديًّا في حليف تقليدي، وتفتح الباب أمام منافسين آخرين هناك؛ لذلك كان من أولويات مباحثات ألتاي الاتفاق على خطوات لوقف “النزيف” التجاري. تعهّد الجانبان ضمنيًّا بمعالجة الأسباب الفنية للحظر على المنتجات (من خلال لجان فنية مشتركة لضبط الجودة)، وبالبحث عن طرق لتسهيل حركة النقل البري بينهما (ربما من خلال التعاون مع جورجيا، أو إيجاد مسارات بديلة عبر إيران). كذلك شجّع ميشوستين على زيادة الاستثمارات الروسية في أرمينيا لدعم اقتصادها، مع التركيز على استخدام العملات الوطنية في المعاملات لتجاوز عقبات التحويلات الدولية.

إذا نجحت هذه الجهود، فمن شأنها ترميم جزء من الثقة المفقودة، فالمصالح الاقتصادية المتبادلة عامل استقرار لأي تحالف سياسي. أما استمرار التدهور التجاري دون كابح، فسيعزز نزعة يريفان لتنويع شركائها الاقتصاديين (بالتوجه أكثر نحو أوروبا وإيران والصين مثلًا)؛ مما يزيد ابتعادها عن موسكو. من هنا، تدرك روسيا أن تخفيف الضغط الاقتصادي عن أرمينيا، وتحسين مناخ الشراكة التجارية هو استثمار في إبقاء أرمينيا ضمن دائرة نفوذها. وعلى الجانب الآخر، تدرك أرمينيا أن ازدهارها الاقتصادي يرتبط واقعيًّا باستقرار العلاقات مع روسيا في المدى المنظور.

مسائل البنية التحتية ومعايير المنتجات

تنبه لقاء ألتاي أيضًا لقضايا فنية أدت دورًا سياسيًّا في توتير العلاقة، على رأسها مسألة طرق المواصلات الإقليمية والمعابر، ومعايير السلع المتبادلة، فأرمينيا -بحكم الجغرافيا- حبيسة بين خصوم، ولا منفذ مباشرًا لها إلى روسيا سوى عبر جورجيا. هذا الطريق الوحيد (معبر لارس) كثيرًا ما يتعطل بسبب عوامل طبيعية، أو ضغوط سياسية؛ مما جعل أرمينيا في موقف هش لوجستيًّا. بعد حرب 2020 جرى الحديث عن فتح طرق جديدة تربط أرمينيا بروسيا عبر الأراضي الأذربيجانية (ممر عبر إقليم سيونيك الأرمني نحو نخجوان، ثم إلى أذربيجان وروسيا). روسيا متحمسة لهذه الفكرة؛ لأنها تربط حليفها الأرميني مباشرة بها، وبحلفائها الآخرين، لكن يريفان تتوجس من صيغة “الممر” إذا انتقصت من سيادتها على أراضيها. ظل هذا الملف عالقًا بفعل خلافات أرمينيا وأذربيجان، لكنه كان حاضرًا في خلفية لقاء باشينيان وميشوستين، حيث تسعى موسكو إلى التقدم فيه، في حين تريد أرمينيا ضمانات سيادية. توافُق الطرفين على صيغة مقبولة لفتح خطوط النقل سيعود بفائدة اقتصادية وأمنية مشتركة؛ لذا طُرح على طاولة الحوار كيفية تحريك هذا الجمود بما يراعي مخاوف الجميع.

أما معايير المنتجات، فقد تحولت إلى أداة ضغط خفية في يد موسكو خلال الأزمة الأخيرة، فالاتحاد الاقتصادي الأوراسي يوحّد نظريًّا المعايير الصحية والفنية، لكن روسيا فرضت قيودًا أحادية على صادرات أغذية أرمينية متذرعة بمخالفات للمعايير. رأى الأرمن في ذلك كيلًا بمكيالين، ومسًّا بثقة الشراكة، خاصة أن السلع الروسية تغزو الأسواق الأرمينية دون عراقيل مماثلة. أثار باشينيان هذه القضية مع ميشوستين سعيًا إلى إيجاد حل يمنع تسييس الملفات الفنية مستقبلًا. على الأرجح اتُّفق على تعزيز التنسيق المباشر بين الجهات الرقابية في البلدين لتسوية أي مشكلة جودة سريعًا بدلًا من تحويلها إلى حظر شامل، وربما وعد الجانب الروسي بإعادة النظر في القيود الأخيرة إذا تأكد حل الأسباب التقنية المزعومة.

معالجة هذه التفاصيل الفنية ليست مسألة اقتصادية بحتة؛ بل هي امتحان لنيّة كل طرف الآخر، فإذا عملا بروح التعاون والثقة في قضايا كالمعابر التجارية، ومعايير البضائع، فسيكون ذلك مؤشرًا على إرادة حقيقية لتفادي التصعيد وإبقاء التحالف حيًّا. أما إذا استمرت المناوشات التقنية، فسترسخ القناعة لدى كل طرف بأن الآخر يستخدم كل ورقة ممكنة للضغط؛ ما يفاقم الشكوك، ويجعل أي تفاهمات كبرى صعبة المنال.

تأثير اللقاء في مسار السلام ومستقبل قوات حفظ السلام

يتزامن التقارب الحذر بين يريفان وموسكو مع مرحلة مفصلية في علاقة أرمينيا بأذربيجان، فبعد سقوط كاراباخ بالكامل تحت سيطرة باكو عام 2023، أصبحت أرمينيا مستعدة لتوقيع اتفاق سلام يعترف بالحدود الدولية الحالية (ومنها كاراباخ بوصفها جزءًا من أذربيجان) مقابل ضمان أمن مواطنيها وسيادة أراضيها. وأعرب باشينيان صراحةً عام 2023 عن استعداده للاعتراف بوحدة أراضي أذربيجان، بما فيها كاراباخ، ودارت مفاوضات مكثفة برعاية غربية للتوصل إلى هذا الاتفاق. في غضون ذلك، تقلص دور روسيا المباشر في الملف بعد أن سحبت قواتها لحفظ السلام من كاراباخ قبل انتهاء مدة ولايتها؛ رضوخًا للواقع الجديد (علمًا بأن التفويض الأصلي لتلك القوة كان لخمس سنوات تنتهي أواخر 2025، لكن الظروف عجّلت برحيلها المبكر).

في هذا الإطار، كان على باشينيان وميشوستين مناقشة ما قد يبدو تناقضًا: أرمينيا تريد سلامًا دائمًا مع أذربيجان، وانفتاحًا على حقبة جديدة، وروسيا تخشى أن يؤدي ذلك إلى إخراجها كليًّا من معادلات جنوب القوقاز. إذا توصلت يريفان وباكو إلى اتفاق برعاية الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة فقط، فسيكون دور موسكو هامشيًّا، وستفقد مبرر وجودها العسكري هناك؛ لذا فإن روسيا تفضل أن تكون شريكًا في عملية السلام، أو ضامنًا لتنفيذها؛ لضمان استمرار نفوذها الإقليمي. وقد يكون ميشوستين اقترح خلال اللقاء صيغة لدور روسي في الاتفاق النهائي، مثل المشاركة في قوات مراقبة الحدود، أو في مشروعات إعادة إعمار مشتركة لما بعد السلام.

فيما يتعلق بأرمينيا، فإن أي مساهمة إيجابية من روسيا في دفع أذربيجان لتليين بعض مطالبها ستكون مرحبًا بها، فموسكو تملك قنوات مؤثرة مع باكو، ويمكنها حضّها مثلًا على احترام الحدود، وعدم التهديد بالقوة مستقبلًا. كما أن روسيا تبقى مزودًا رئيسًا للسلاح لأرمينيا حتى الآن، ويمكن أن تساعد على إعادة تسليح الجيش الأرميني لردع أي مغامرات بعد توقيع السلام، لكن يريفان -في المقابل- لا تريد أن يتحول الدور الروسي إلى أداة تعطيل، فهي قلقة من أن تحاول موسكو إبطاء عملية السلام أو إفسادها إذا شعرت بأنها تستثنى منها؛ لذلك سعى باشينيان إلى انتزاع طمأنة من موسكو بأنها ستدعم أي اتفاق سلام متوازن، ولن تقف حجر عثرة في طريقه.

يمكن القول إن لقاء ألتاي قد ينعكس إيجابًا على مسار السلام إذا نجح في تنسيق التوقعات بين أرمينيا وروسيا، فإن شعرت موسكو بأن مصالحها الأساسية محفوظة -مثل عدم وجود قواعد غربية جديدة في القوقاز، واستمرار دورها كضامن أمني- فقد تشجّع أرمينيا على المضي قدمًا في السلام، ولن تحرض حلفاءها في الداخل الأرميني ضد الاتفاق. وفي المقابل، إذا ضمنت أرمينيا أن روسيا لن تستغل نقاط ضعفها الأمنية خلال السلام وبعده، فسيمضي باشينيان بثقة أكبر نحو توقيع التفاهم النهائي مع علييف. وهكذا يمكن لدفء نسبي في العلاقات الأرمينية الروسية أن يجعل اتفاق السلام الوليد أكثر ثباتًا واستدامة، في حين أن استمرار الجفاء قد يضع عقبات إضافية على طريقه.

البعد الدبلوماسي والشخصي للقاء

عكس لقاء باشينيان وميشوستين أيضًا جانبًا من التكتيكات الدبلوماسية، وشخصية العلاقة بين قيادتي البلدين؛ فباشينيان، الذي وصل إلى السلطة عام 2018 بوصفه إصلاحيًّا، لم يكن مقربًا أيديولوجيًّا من الكرملين، وشابت علاقته بالرئيس بوتين مسحة من الحذر وانعدام الكيمياء الشخصية القوية التي وسمت علاقات موسكو مع قادة أرمن سابقين. في المقابل، يميل بوتين ونخبته إلى عدم الثقة بقادة جاءوا من خلال احتجاجات شعبية، ويطرحون أجندة إصلاحية داخلية؛ ولذلك لم ينظروا إلى باشينيان يومًا على أنه حليف مطواع. هذه الخلفية الشخصية جعلت التواصل المباشر بين باشينيان وبوتين خلال الأزمات الأخيرة نادرًا وفاترًا، حيث اقتصرت لقاءاتهما على المناسبات الرسمية، ولم تسفر عن اختراقات واضحة.

من هنا تبرز أهمية أن يتم التواصل -هذه المرة- على مستوى رئيسي الحكومتين، فميخائيل ميشوستين شخصية تكنوقراطية تركز على الشؤون الاقتصادية، وبعيد عن السجالات السياسية الحادة، ولقاؤه مع باشينيان أتاح أجواء أقل توترًا مما لو كان الاجتماع مع بوتين مباشرة. تمكن الرجلان من النقاش بهدوء بشأن حلول براغماتية للمشكلات، بعيدًا عن ضغط الكبرياء السياسي. كما أن اختيار منصة المؤتمر البيئي، ومشاركة عقيلة باشينيان في الزيارة، أضفيا بعدًا بروتوكوليًّا لطيفًا، وخفّفا رسمية الأجواء. كل ذلك يشير إلى أن الطرفين أرادا أن يُظهرا أن القنوات مفتوحة على أعلى المستويات، لكن بدون ضجيج إعلامي.

داخليًّا، استفاد باشينيان من هذه الزيارة لتدعيم موقفه؛ فهو يواجه معارضة أرمينية تتهمه بالتخلي عن روسيا وإغضاب الكرملين؛ ومن ثم فإن ظهوره في موسكو، واجتماعه بمسؤوليها في مناخ ودّي، يسحب البساط من تحت أقدام منتقديه، إذ يستطيع بعد العودة القول إن علاقات أرمينيا بروسيا تسير في الاتجاه الصحيح، وإنه لا يزال قادرًا على حماية مصالح بلاده عن طريق الحوار مع الحليف الكبير. أما روسيا، فرغم امتعاضها من سياسات باشينيان، فقد اختارت نهج الاحتواء وليس المواجهة معه؛ فبدعوته إلى هذه الفعالية، وإجراء مباحثات إيجابية، وجّهت موسكو إشارة إلى النخبة الأرمينية بأنها لا تزال تتعامل مع باشينيان بوصفه رئيس حكومة شرعيًّا، وشريكًا يمكن التفاهم معه، وهذه رسالة تهدئة تمنع اندلاع أزمة سياسية داخلية في يريفان موالية لروسيا. ومما يجدر ذكره أن أصواتًا متشددة في موسكو ووسائل إعلامها دأبت على وصم باشينيان بـ”الخائن”، والدعوة إلى موقف صارم تجاهه، أو حتى دعم تغييره، في حين رأت أصوات أخرى أن الضغط الزائد سيدفع يريفان بالكامل نحو الغرب. ويبدو أن الكرملين اختار من خلال لقاء “ألتاي” تغليب نهج الحوار البراغماتي على سياسة التصعيد في هذه المرحلة.

النتيجة أن الجانب الشخصي والدبلوماسي للقاء أسهم في كسر جليد التواصل. قد لا يصبح باشينيان صديقًا حميمًا لموسكو بين ليلة وضحاها، لكن هذا اللقاء خلق على الأقل قناة حوار مباشرة وودية مع قيادة روسية (ممثلة في رئيس حكومتها) بشأن قضايا حساسة، وهذا تطور مهم؛ لأن كثيرًا من سوء الفهم في العامين الماضيين نتج عن انقطاع الحوار الصريح بين الطرفين. الآن، بعد ألتاي، بات لدى موسكو ويريفان تجربة إيجابية نسبيًّا يمكن البناء عليها لتجاوز الإرث الشخصي السلبي بين بوتين وباشينيان، وربما تمهيد الطريق أمام لقاء مباشر بينهما إذا تهيأت الظروف، وتقدم التعاون في الملفات التي نوقشت.

الاستنتاجات

يمثل لقاء باشينيان وميشوستين مؤشرًا على مفترق طرق تمر به العلاقات الأرمينية الروسية؛ فهو -من جهة- أكد أن التحالف التاريخي لم ينقطع رغم الأزمات العاصفة، ومن جهة أخرى، أبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة صياغة هذا التحالف بشروط جديدة تناسب الواقع الحالي. لقد أدركت أرمينيا أن الاعتماد الكلي على روسيا في تأمينها لم يعد ضمانة كافية، وأن عليها بناء سياسة خارجية متعددة الاتجاهات تحمي مصالحها. وفي الوقت عينه، تعلمت روسيا أن التعامل مع حليف صغير كأرمينيا بمنطق الإملاء والسيطرة قد يرتد بنتائج غير مرغوبة، إذ يدفعه إلى البحث عن بدائل؛ لذلك يمكن القول إن مستقبل العلاقة سيتوقف على مدى استعداد الطرفين لتبني نهج أكثر مرونة.

في المرحلة المقبلة، تواجه أرمينيا خيارات صعبة؛ فهي تسعى إلى سلام نهائي مع أذربيجان يفتح لها الحدود والتنمية، لكنها لا تريد أن يأتي هذا السلام على حساب تحالفها مع روسيا، أو استفزازها. الخيار الأمثل ليريفان هو تحقيق توازن دقيق: سلام إقليمي بدعم دولي متنوع، مع الإبقاء على علاقة إيجابية مع موسكو لضمان الدعم الأمني والاقتصادي. في المقابل، على روسيا أيضًا اتخاذ قرار إستراتيجي: إما قبول واقع أن أرمينيا دولة ذات سيادة ستنسج علاقات متعددة، وعدم اعتبار ذلك خيانة؛ بل محاولة الاستفادة منه عن طريق استمرار دورها بوصفها ضامنًا وشريكًا موثوقًا به ضمن ترتيبات جديدة، وإما الإصرار على النهج القديم، ومحاولة معاقبة يريفان؛ مما سيؤدي -على الأرجح- إلى دفعها أكثر نحو الغرب، وخسارة موسكو نفوذها هناك.

لقد أبرز لقاء “ألتاي” أن هناك أرضية مشتركة لا يزال الطرفان قادرين على الوقوف عليها، هي أرضية المصالح المتبادلة، والوضع الجيوسياسي المعقّد؛ فكل من أرمينيا وروسيا بحاجة إلى بعضهما: الأولى تحتاج إلى ظهر قوي يقيها تقلبات جوارها، والثانية تحتاج إلى حليف موثوق به في منطقة تتنافس عليها القوى. إذا استطاع باشينيان وبوتين (وبقية مسؤولي البلدين) البناء على ما تم في هذا اللقاء، وتكريس لغة الحوار بدلاً من الضغوط، فربما يتمكنان من إعادة إحياء التحالف بصيغة جديدة أكثر توازنًا واستدامة. أما إذا غلبت حالة عدم الثقة وانعدام المرونة، فإن ما شهدناه قد يكون مجرد استراحة مؤقتة، قبل أن تتباعد الطرق أكثر.

في المحصلة، تعكس هذه التطورات تعقيدًا جيوسياسيًّا قلّ نظيره في تاريخ العلاقات الأرمينية الروسية الحديث. ليس هناك حل بسيط أو فوري: فأرمينيا تحاول التحرر من ارتهانها بموسكو دون خسارة أمنها، وروسيا تحاول الاحتفاظ بدورها المهيمن دون تنفير حليفها، وسيظل هذا التحدي قائمًا في المستقبل المنظور. كما أن انعكاسات الخيارات المتخذة لن تقتصر على البلدين؛ بل ستطول مجمل التوازنات الإقليمية في جنوب القوقاز، لكن بصيص الأمل الذي حمله لقاء باشينيان وميشوستين يتمثل في إثبات إمكانية الحوار والتفاهم حتى بعد لحظات الخلاف المريرة، وقد تكون الإرادة السياسية والحكمة الدبلوماسية هما العاملين الحاسمين لترجمة هذا البصيص إلى واقع جديد، يصون مصالح أرمينيا وسيادتها من جهة، ويحفظ لروسيا دور الشريك المقرّب من جهة أخرى، وإن كان دورًا أقل هيمنة، وأكثر احترامًا لخصوصية الحليف مما كان عليه في الماضي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع