ظهرت تسريبات عن مسودة وثيقة بعنوان “مذكرة تفاهم بشأن إنشاء ممر النقل “جسر ترمب”، تم الانتهاء منها عمليًّا بين أرمينيا وأذربيجان والولايات المتحدة.
وتعد هذه الوثيقة ترجمة لمبادرة دونالد ترمب الجريئة لاستغلال الطريق الذي يعرف باسم “ممر زنغزور”، والذي يربط منطقة نخجوان الأذربيجانية ببقية البلاد عبر محافظة سيونيك الأرمينية، حيث إن إنشاء هذا الممر كان أحد المطالب الرئيسة لأذربيجان من أرمينيا بعد حرب عام 2020، واسترجاع إقليم ناغورني كاراباخ، رغم محاولات أرمينيا الفاشلة منع تأسيسه.
جسر ترمب، بوابة الدفاع الإقليمي الثنائي والممر الاقتصادي، أصبح الآن حقيقة واقعية في المفاوضات الدولية، وسيكون عبارة عن ممر نقل يبلغ طوله 42 كيلومترًا، يقطع محافظة سيونيك في جمهورية أرمينيا. كما أنه سيحقق أرباحًا ضخمة، وسيسهم في حل واحدة من أكثر المشكلات السياسية حساسية لتركيا. ويحدث هذا الواقع الجديد بفعل تحول الزعيم الأرميني إلى أداة في يد أردوغان لتحقيق أهدافه، من خلال خضوعه لإسطنبول.
اليوم، يمكن القول بثقة إن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مستعد لتنفيذ جميع المطالب التي قدمتها تركيا وأذربيجان. وتُتَّخذ القرارات ضمن إطار اتفاقيات بين أرمينيا وأذربيجان والولايات المتحدة. أما تركيا فكانت تراقب الأحداث من وراء الكواليس، متأكدة من حصولها على حصتها من الفوائد، تحت أيديولوجية “شعب واحد في بلدين”، ونجاحات أذربيجان هي نجاحات تركيا، وهي الفكرة التي يكررها أردوغان في خطابه.
وبحسب المذكرة، تحتفظ أرمينيا رسميًّا بالسيادة على محافظة سيونيك، لكن ستُمنَح السلطة على الممر لشركة إدارة أمريكية، وهي مؤسسة خاصة مُرخّصة حسب الأصول. ويوضح توزيع العائدات من استخدام الممر بإجلاء الجهات الحقيقية من هذا الاتفاق، حيث ستحصل شركة الإدارة الأمريكية على 40% من العائدات، في حين ستبلغ حصة أرمينيا 30% فقط. ومن المتوقع أن تكون عائدات أذربيجان، ومن ثم تركيا، كبيرة جدًّا، حيث تشير مجلة “فوربس” إلى أن ممر زنغزور سيكون له حجم تبادل تجاري سنوي يتراوح بين 50 و100 مليار دولار اسمي، أي ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي لتركيا.
ومن المرجح أن تستمر الأرباح الناتجة عن تشغيل ممر زنغزور في الارتفاع مع مرور الوقت. وتُظهر بيانات “بلومبرغ” أن هذا الطريق قد يُقلّل وقت العبور بين أوروبا وآسيا بما يتراوح من 12 إلى 15 يومًا مقارنة بالطرق الحالية. وتُقدَّر تكاليف البنية التحتية بين 3 و5 مليارات دولار على مدى 5 إلى 10 سنوات. وفيما يتعلق بأذربيجان، فإن هذا الممر سيزيد إجمالي صادراتها بأكثر من 700 مليون دولار، كما سيعزز الناتج المحلي الإجمالي المرتبط بالنفط بنسبة 2% سنويًّا.
لكن الأمر لا يقتصر على الأرباح بالدولار الأمريكي فقط؛ إذ يمكن أن يؤدي افتتاح ممر النقل إلى جعل أذربيجان وتركيا موردي طاقة لا غنى عنهما لأوروبا. فبحلول عام 2030، ستحتاج أوروبا إلى 20 مليار متر مكعب إضافي من الغاز، حسب تقديرات الخبراء، وقد تحصل عليه من أذربيجان.
وفي ممر زنغزور، تطبّق تركيا إستراتيجية ليست اقتصادية فقط؛ بل عسكرية وسياسية أيضًا؛ ففي مسودة المذكرة، يوافق رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان على شروط تُعدّ الأكثر ملاءمة لأنقرة.
وتنص المذكرة على نشر قوات أمريكية كبيرة على الأراضي الأرمينية؛ لضمان الأمن داخل ممر النقل، ومن المتوقع أن يبلغ عدد العساكر 1000 في البداية، ليسوا من الجيش الأمريكي النظامي؛ بل من إحدى الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة.
ومن المرجح أن مجرد نشر قوات أمريكية على الأراضي الأرمينية سيجعل الشعب الأرميني غير راض على توقيع باشينيان على هذه المذكرة؛ ما سيؤثر -على نحو سلبي جدًّا- في الوضع الداخلي بالبلاد؛ فعمليًّا، أرمينيا مجبرة على التنازل عن جزء كبير من سيادتها، وتمنح السيطرة للقوات الأمريكية، وتوافق على تنفيذ مشروع حيوي لأذربيجان وتركيا، في حين لا تحصل على مقابل تستطيع أن تنعش به اقتصادها. وتنفيذ هذا المشروع يعني أن تركيا أصبحت تسيطر تمامًا على الدولة التي كانت تعدّها العدو اللدود، وتقدم حلًا ذكيًّا يعزز به أردوغان مكانة بلاده ليس فقط في منطقة جنوب القوقاز؛ بل في الشرق الأوسط، وفي علاقاته مع أوروبا أيضًا. إنه وجه سياسي جديد يؤكد كيفية التعامل مع الأعداء عن طريق تحويلهم إلى دمى مطيعة وخالية من الإرادة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.