يبدو أن انسحاب القوات السورية النظامية من محافظة السويداء ليس مجرد خطوة ميدانية مؤقتة، أو استجابة لمطالب محلية؛ بل يؤشر -في تقديري- إلى تحول نوعي في المشهد الجنوبي لسوريا، كما يكشف عن ملامح ترتيبات إقليمية ودولية، من الواضح أنها تطبخ بهدوء في خلفية المشهد، وخطرها أنها تحمل إرهاصات واحتمالات قوية لإعادة رسم الخريطة السورية على نحو غير معلن.
نعم، تصر دمشق الرسمية على أن الانسحاب جاء لإتاحة المجال لحل محلي يحترم الخصوصية الاجتماعية والدينية للمنطقة، لكن من واقع ما قرأته منذ اندلاع التطورات العنيفة بالقصف الإسرائيلي السافر لعاصمة بلد عربي عريق، تؤكد تقارير صحفية واستخبارتية روسية وغربية، كتلك التي نشرتها مجلة فورين بوليسي، وموقع أكسيوس، الأمريكيين، أن ما جرى في السويداء قد يكون جزءًا من تفاهم غير مكتوب بين أطراف متعددة، أبرزها إسرائيل، والولايات المتحدة، وروسيا، برعاية غير مباشرة من الأردن، وأنا هنا أنقل ما تقوله هذه التقارير، وليس هذا الكلام من بنات أفكاري أو خيالي؛ لذلك أتساءل: هل نحن أمام إعادة تموضع تكتيكي، أم بداية لفصل جديد من سيناريو تفكيك الدولة السورية -الذي كانت تعارضه روسيا دائمًا في السابق، حسب معلوماتي- تفكيكها إلى مناطق نفوذ تحت عناوين إنسانية وطائفية؟
ولننظر في الأحداث التي نحن بصددها، وهي تدخل أسبوعها الثاني من شهر يوليو (تموز) 2025، فبعد اشتباكات متقطعة مع فصائل مسلحة محلية، واحتجاجات شعبية واسعة النطاق، دفعت دمشق في 15 يوليو (تموز) بتعزيزات أمنية وعسكرية إلى محافظة السويداء لمواجهة ما وصفته بتمرد مسلح من مجموعات خارجة عن القانون، بعد أيام من الصدامات العنيفة التي شلّت الحركة بين السويداء والعاصمة. وقد أسفرت -حسب وزارة الدفاع السورية- عن مقتل أكثر من 30 شخصًا، وجرح 100 آخرين، فضلًا عن سقوط 20 قتيلًا من عناصر الجيش الانتقالي.
لكن في الوقت الذي كانت فيه القوات السورية تحاول فرض تهدئة ميدانية، تدخلت إسرائيل عسكريًّا، بذريعة “حماية الدروز”، فشنت غارات استهدفت مبنى هيئة الأركان العامة في دمشق، وموقعًا عسكريًّا قرب القصر الرئاسي، مما أسفر عن مقتل ثلاثة مدنيين، وإصابة 34 آخرين، وفق وزارة الصحة السورية، ثم أعلن الطرفان السوري والدرزي التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وتبعته أنباء عن انسحاب جميع التشكيلات المسلحة غير الشرعية من مدينة السويداء -بحسب مصدر أمني سوري- لتبدأ بعد ذلك وحدات الجيش السوري وقوى الأمن بالانسحاب التدريجي من مراكز رئيسة في محافظة السويداء وريفها الشرقي، خاصةً المناطق المتاخمة لطريق دمشق- السويداء، الذي يبلغ طوله أكثر من 100 كم حسبما فهمت.
هذا القرار الحكومي السوري وصفته التحليلات الروسية التي قرأتها في صحف ووكالات، مثل نيزافيسيميا غازيتا، وريا نوفوستي مثلًا، على أنه خطوة محسوبة لتفادي التصعيد مع تل أبيب، في ظل تهديدات إسرائيل المتكررة بضرب مواقع الجيش بذريعة حماية الدروز.
وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، حذر منذ أيام من أن استمرار وجود الجيش السوري في المحافظة “يمثل تهديدًا مباشرًا للأقلية الدرزية”… هذا الخطاب من كاتس لا يمكننا تفسيره -في رأيي- إلا أنه تبنٍ علني لفكرة إنشاء منطقة عازلة درزية موالية لإسرائيل على الحدود الشمالية.
في موسكو، من واقع متابعتي، بعدما كانت تسود حالة من الارتباك الصامت تجاه هذا التطور، صدر أول رد فعل رسمي روسي، حيث أصدرت وزارة الخارجية بيانًا حادّ اللهجة، عبّرت فيه عن قلق موسكو العميق من”تصاعد غير مقبول في أعمال العنف”، ولا سيما الانتهاكات ضد المدنيين. كما شدد البيان على أن روسيا تعتبر “أي استهداف لحياة المدنيين أمرًا مرفوضًا”، معربة عن أملها في نجاح “خطوات التهدئة في استعادة الاستقرار في الجمهورية العربية السورية”.
وعلى نحو غير معتاد كثيرًا، أدان البيان الروسي صراحةً الغارات الإسرائيلية، واعتبرها “خرقًا للسيادة السورية، وانتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي”، وهي لهجة أكثر تشددًا من الخطاب التقليدي الروسي المتحفظ إزاء تل أبيب.
هذه النغمة الجديدة تعكس -في رأيي، ومن واقع فهمي للغة الخطاب الرسمي الروسي- انزعاجًا روسيًّا حقيقيًّا من محاولة فرض واقع جديد في الجنوب السوري بالقوة المسلحة، وبغطاء غربي غير معلن، فموسكو ترى أن تل أبيب تسعى إلى استغلال المظلومية الدرزية لصناعة واقع جيوسياسي جديد جنوب سوريا، وهذا الواقع، الذي يشبه من حيث الشكل تجربة “جيش لحد” في جنوب لبنان، يعتمد على إنشاء شريط أمني غير معلن، قائم على تحالف مع مجموعات محلية موالية، وتفريغ المنطقة من أي حضور عسكري سوري رسمي دائم.
ويبدو أن الغارات على هيئة الأركان والقصر الرئاسي حملت رسالة مزدوجة: إضعاف هيبة الدولة السورية، وتأكيد حرية الحركة الإسرائيلية في العمق السوري، تحت غطاء “دفاع إنساني عن الأقليات”. وقد أدانت روسيا أيضًا، على لسان مندوبها الدائم في مجلس الأمن، قصف إسرائيل للعاصمة دمشق، لكنها لم تصدر -حتى وقت كتابة هذه السطور- موقفًا رسميًّا يدين الانسحاب السوري الرسمي من السويداء، أو يرفض “التفاهمات” الضمنية في الجنوب، لكن مصادر دبلوماسية مقربة من الخارجية الروسية نقلت عنها صحيفة كوميرسانت ومركز فالداي للحوار، أبدت قلقًا متزايدًا من أن يؤدي هذا الإنسحاب للجيش السوري إلى ترسيخ نزعة الحكم المحلي الطائفي في السويداء.
هذا الأمر سوف يعيد -بلا شك- إحياء السيناريو القديم المعروف بسيناريو “سوريا المفيدة”، وهو الذي كانت تعارضه موسكو دائمًا كما سبق أن أشرت.
كما لا يمكن فصل ما يجري في الجنوب السوري عن سياسة أمريكية مستجدة في عهد إدارة ترمب الثانية، تسعى -حسب ما يقوله موقع أكسيوس- إلى “تصفير الجبهات” قبل انتخابات التجديد النصفي القادمة. وواشنطن -حسبما فهمت- تسعى بهذا المنطق إلى إبرام تفاهمات موضعية تُجنب إسرائيل التورط في حرب متعددة الجبهات في وقت واحد. وبهذا المنطق أيضًا يبدو أن السماح لإسرائيل باعادة هيكلة الواقع في السويداء تحت غطاء حماية الدروز يحظى بقبول ضمني من واشنطن، ما دام ذلك لا يُحرج روسيا، أو يصعد النزاع الإيراني- الإسرائيلي على نحو مباشر.
أما تل أبيب نفسها، فهي تتحرك وفق منطق مزدوج؛ فهي تتحدث عن “دفاع إنساني” عن الدروز، وهندسة أمنية للحزام الحدودي، وهو ما يظهر بوضوح في اختيار أهدافها الأخيرة داخل دمشق (منشآت تابعة لهيئة الأركان).. إذن السؤال هو: لماذا تضرب في دمشق إذا كنت تتحدث عن الدروز في السويداء؟ لذلك فإن هذه رسائل تتجاوز السويداء إلى بنية الدولة السورية بكاملها.
لكن أين تركيا في هذا المشهد المعقد؟ الموقف التركي يبدو غريبًا، ويطرح كثيرًا من التساؤلات، فتركيا هي الغائب الحاضر فيما يحدث خلال الأسبوعين الأخيرين في الساحة السورية.
بالطبع لا يمكن إغفال موقف أنقرة عند الحديث عن سوريا، فتركيا على الأقل لا بد أن تنظر بقلق إلى تمدد النفوذ الدرزي المحسوب على إسرائيل في الجنوب، الذي قد يغذي مطالب انفصالية كردية ودرزية مستقبلًا على غرار سيناريو الحكم الذاتي.
والسؤال المركزي من وراء هذه السطور، الذي تطرحه كل هذه التطورات هو: هل يدخل الجنوب السوري مرحلة “تقسيم ناعم” تحت لافتة “حماية الأقليات”؟
تشير المعطيات التي لدينا من الواقع الموضوعي الآن إلى أن هناك نواة لتبلور “كيان محلي درزي” في السويداء يتمتع باستقلال أمني ومالي محدود، وقد يتلقى دعمًا مباشرًا، أو غير مباشر من إسرائيل والولايات المتحدة، في مقابل انسحاب تدريجي للدولة السورية بضمانة مؤقتة من طرف دولي ما، ومع انتشار هذا النموذج يصبح من الوارد أن تُستنسخ تجارب مماثلة في شمال شرق سوريا، وأقصد طبعا الأكراد، وربما لاحقًا في الساحل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.