شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية تناميًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، شمل مختلف المجالات الاقتصادية والتقنية والاستثمارية. في هذا السياق برز الملتقى الصناعي الزراعي السعودي الروسي -المعروف اختصارًا باسم ملتقى “غراس“ نسبة إلى التسمية الإنجليزية GRAS))- كخطوة إستراتيجية مهمة لتعزيز التعاون الثنائي في قطاع الزراعة والصناعات الغذائية. يأتي هذا الملتقى ثمرة لجهود وتحضيرات مشتركة امتدت نحو ثلاث سنوات، عكف خلالها الجانبان على بناء أرضية صلبة للتعاون المستدام في مجال الأمن الغذائي. انعقدت الدورة الأولى من ملتقى “غراس” في العاصمة الروسية موسكو، خلال الفترة من 30 يونيو (حزيران) إلى 2 يوليو (تموز) 2025، بوصفها أول فعالية دولية متخصصة في الصناعة الزراعية بين السعودية وروسيا. يعكس اختيار هذا القطاع حيوية ملف الأمن الغذائي وأهميته الإستراتيجية لكلتا الدولتين، خاصةً في ظل التحديات العالمية، كتغير المناخ، واضطرابات سلاسل الإمداد. ومنذ اللحظة الأولى، حظي الملتقى باهتمام رفيع المستوى؛ لدوره في دعم رؤية أوسع لتعزيز الشراكة السعودية- الروسية في حقبة تشهد تحولات في النظام الاقتصادي العالمي.
إن الخلفية التي سبقت انعقاد ملتقى “غراس” تتضمن سلسلة من التطورات في العلاقات السعودية-الروسية؛ فمن جهة، سعت المملكة -في إطار رؤية 2030– إلى تنويع شراكاتها الدولية، وتأمين احتياجاتها الغذائية من خلال بناء تعاون وثيق مع الدول الرائدة في الإنتاج الزراعي والتقنيات المرتبطة به. ومن جهة أخرى، وجدت روسيا الاتحادية في المملكة شريكًا إستراتيجيًّا وسوقًا واعدة في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما مع نمو الطلب السعودي على الحبوب والمنتجات الزراعية بعد توقف برنامج الاكتفاء الذاتي من القمح بسبب شح الموارد المائية. وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية مؤشرات تقارب مهمة، منها مباحثات وزارية وزيارات متبادلة ركزت على قطاعات الغذاء والزراعة. وفي عام 2024 تجاوز حجم التبادل التجاري الزراعي بين البلدين حاجز المليار دولار أمريكي، مدفوعًا بزيادة واردات المملكة من القمح والشعير والمنتجات الحيوانية الروسية. هذه المعطيات عكست تنامي الاعتماد المتبادل، وحفّزت على إقامة منصة مؤسسية دائمة لتعزيز هذا المنحى، فكانت فكرة الملتقى الصناعي الزراعي السعودي الروسي تتويجًا لمسار تصاعدي من التعاون في مجال ذو أولوية عالية لكلا الجانبين.
انعقد ملتقى “غراس” نتيجة شراكة وتنسيق بين جهات سعودية وروسية متعددة، ما أضفى عليه طابعًا رسميًّا، وأهميّة خاصة. من الجانب السعودي، اضطلعت وزارة البيئة والمياه والزراعة- الجهة الحكومية المسؤولة عن القطاع الزراعي والأمن الغذائي- بدور محوري في الإعداد للملتقى، وضمان اتساقه مع إستراتيجيات المملكة الزراعية. كما شاركت وزارة الاستثمار السعودية في التنظيم بهدف دفع فرص الاستثمار المشترك في المشروعات الزراعية والصناعية التي قد تنبثق عن الملتقى، خاصة أن المملكة تسعى إلى جذب التقنيات والاستثمارات لدعم مبادرات مثل مبادرة الاستثمار الزراعي في الخارج. إلى جانب ذلك، برز دور مركز المعلومات والدراسات العربية الروسية (CIARS)، وهو مؤسسة بحثية سعودية تعنى بمتابعة الشأن الروسي، وتعزيز المعرفة المتبادلة، حيث تولّى هذا المركز التنسيق الفكري واللوجستي من الجانب السعودي، وأسهم في إعداد الدراسات والتقارير اللازمة التي شكّلت أرضية للنقاشات خلال الملتقى.
أما من الجانب الروسي، فقد شاركت وزارة الزراعة في الاتحاد الروسي كجهة راعية وموجّهة لأهداف الملتقى، تأكيدًا لالتزام الحكومة الروسية بتطوير العلاقات الزراعية مع السعودية. وأسند الجانب الروسي مهمة التنظيم التنفيذي إلى شركة “آسيا إكسبو” (Asia Expo)، وهي شركة روسية متخصصة في تنظيم المعارض والمؤتمرات الدولية، وتحظى بدعم رسمي من الحكومة الروسية. تعاونت “آسيا إكسبو” مع الشركاء على تصميم برنامج الملتقى، وترتيب فعالياته، مستفيدة من خبرتها في إقامة معارض تجارية وبعثات أعمال بين روسيا ودول الشرق الأوسط. كذلك اضطلعت منظمة “الحوار العالمي” (ANO) الروسية، وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي، بدور في الإعداد للجوانب الإعلامية والثقافية للملتقى، تأكيدًا لبُعد الحوار الحضاري والعلمي ضمن الحدث. بالإضافة إلى ذلك، حظي الملتقى بدعم ومشاركة اتحادات قطاعية روسية، كالاتحاد الوطني لمنتجي اللحوم ومنتجي الألبان والدواجن، تأكيدًا لالتزام القطاع الخاص الروسي، واستعداده لإبرام شراكات عملية مع نظيره السعودي.
إن هذا التضافر بين الجهات الرسمية (وزارات الحكومة) والجهات التنفيذية والتنظيمية (شركات ومعاهد بحثية) من كلا البلدين أبرز جدية الملتقى وطبيعته العملية، فقد تكاملت الرؤى؛ الجانب السعودي وفّر الدعم السياسي، والرؤية الإستراتيجية، والمشاركة الاستثمارية، والجانب الروسي وفّر الخبرات التقنية، والموارد الإنتاجية، وتنظيم الحدث على أرضه. هذه الشراكة المتعددة المستويات أسهمت في جعل ملتقى “غراس” منصة فعالة تتخطى اللقاء البروتوكولي إلى ورشة عمل حقيقية نتجت عنها تفاهمات ومشروعات ملموسة.
جاء ملتقى “غراس” محمّلًا بطموحات كبيرة من كلا الجانبين، وسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية التي حُدِّدت في ضوء التحديات والفرص المشتركة. يمكن تلخيص أبرز أهداف الملتقى على النحو التالي:
هذه الأهداف المعلنة جسّدت رؤية بعيدة المدى تتجاوز مجرد زيادة التبادل التجاري، لتصل إلى بناء تحالف تنموي إستراتيجي في قطاع حيوي يمس أمن شعبي البلدين ورفاهما. وقد كانت تلك الرؤية واضحة في كلمات المسؤولين خلال حفل افتتاح الملتقى، حيث شددوا على أن نجاح التعاون الزراعي يمكن أن يصبح نموذجًا لباقي مجالات التعاون بين المملكة وروسيا.
الجوانب الاقتصادية والتقنية والعلمية
حملت أجندة الملتقى محاور متعددة تغطي الجوانب الاقتصادية والتقنية والعلمية للتعاون الزراعي-الصناعي، إدراكًا لتشابك هذه الجوانب في تحقيق تنمية زراعية مستدامة.
فعلى الصعيد الاقتصادي والتجاري، وفّر الملتقى مساحة لبحث سبل زيادة التبادل التجاري الزراعي وتعظيم المنفعة المتبادلة من الميزات النسبية لكل بلد. وقد استعرض الوفد الروسي إمكانات روسيا بوصفها إحدى أكبر الدول المصدرة للحبوب في العالم (كالقمح والشعير)، بالإضافة إلى قدراتها المتنامية في تصدير لحوم الدواجن والأبقار، ومنتجات الألبان. في المقابل، ناقش الجانب السعودي احتياجات السوق المحلية المتصاعدة من هذه السلع، في ظل خطط المملكة لضمان وفرة الإمدادات الغذائية بأسعار مستقرة للمستهلك. وفي هذا السياق، جرت مفاوضات بين الشركات السعودية والموردين الروس لعقد صفقات طويلة الأجل لتوريد الحبوب والأعلاف، بما يضمن استقرار التدفقات السنوية، ويُراعي المواصفات القياسية المطلوبة في السوق السعودية. كما بُحِثَ تشجيع الاستثمارات المشتركة في قطاع التصنيع الغذائي، مثل إنشاء مصانع لتعليب المنتجات الزراعية، أو تجهيز اللحوم في المملكة بشراكات تمويلية وتقنية روسية؛ مما يزيد القيمة المضافة محليًّا، ويوفر وظائف. ومن النتائج الاقتصادية المباشرة للملتقى إعلان توقيع مجموعة اتفاقيات تجارية واستثمارية بلغت نحو خمس عشرة اتفاقية بقيمة إجمالية تقارب 200 مليون دولار، تغطي مجالات متفرقة من سلاسل الإنتاج الزراعي والغذائي. وتشمل هذه الاتفاقيات -وفق المعلومات المتاحة- مشروعات لتأسيس منشآت إنتاج وتصنيع مشتركة، وتوريد التقنيات الزراعية الحديثة، إضافة إلى ترتيبات تمويلية تدعم تلك المشروعات على المدى المتوسط.
أما في الجوانب التقنية والعلمية، فقد حفلت جلسات الملتقى بنقاشات معمقة بشأن أحدث التطورات التكنولوجية في الزراعة والصناعات المرتبطة بها. عرض الخبراء الروس تجارب روسيا في مجالات الهندسة الوراثية الزراعية، حيث تمتلك روسيا سجلًا علميًّا حافلًا في تطوير سلالات نباتية محسّنة، وسلالات ماشية عالية الإنتاجية. وقد أبدى الجانب السعودي اهتمامًا خاصًا بالاطلاع على هذه الإنجازات، لا سيما في مجال علم الوراثة الخاص بالدواجن والماشية؛ لما لذلك من دور في دعم مبادرات المملكة لزيادة إنتاج اللحوم والألبان محليًّا. كما ناقش الطرفان التقنيات الروسية المتقدمة في اللقاحات البيطرية، وطرائق مكافحة الآفات والأمراض الزراعية، التي يمكن أن تسهم في تحسين صحة القطيع والثروة الحيوانية السعودية. من جانب آخر، تم تسليط الضوء على الخبرات السعودية في إدارة الموارد المائية وطرائق الزراعة في البيئات الصحراوية القاسية، وهي مجالات اكتسبت فيها المملكة خبرة عملية على مدى عقود من مواجهة تحديات شح المياه والتصحر. وقد اهتم الوفد الروسي بمعرفة الأساليب السعودية في الريّ بالتنقيط وتحسين كفاءة استخدام المياه، وكذلك مشروعات المملكة الطموحة في تشجير الصحارى، ومكافحة التصحر التي تتقاطع مع مبادرات بيئية عالمية.
في إطار البحث العلمي والتدريب، توافق المشاركون على أهمية تطوير منصات بحثية وتعليمية مشتركة. وقد طُرحت أفكار عملية، مثل تنفيذ برامج زمالة وتبادل أكاديمي بين الجامعات الزراعية في البلدين، بحيث يُوفد طلاب سعوديون للدراسة والتدرب في كليات الزراعة الروسية العريقة، وفي المقابل يُرسل خبراء روس إلى جامعات ومعاهد سعودية لتنظيم دورات تخصصية في تقنيات الزراعة الحديثة. وتم التطرّق أيضًا إلى إمكان تأسيس مراكز بحثية مشتركة تُعنى بقضايا محددة تهم الطرفين، مثل مركز أبحاث مشترك في مجال التكنولوجيا الحيوية الزراعية أو سلامة الغذاء، يضم فرقًا علمية من الجانبين، وتُوفر له تمويلات حكومية ومساهمات من الشركات الكبرى. هذه المبادرات العلمية والتقنية تشكل البعد المستدام للعلاقة، إذ تضمن أن التعاون لا يقف عند حدود التجارة، بل يمتد لبناء المعرفة والابتكار المشترك؛ مما يعزز قدرة البلدين على تحقيق أمن غذائي قائم على أسس علمية وتكنولوجية متقدمة.
اتسم ملتقى “غراس” بحضور رفيع المستوى من مسؤولين حكوميين، وقادة قطاع الأعمال والخبراء من كلا البلدين، مما عكس الأهمية التي يوليها الجانبان لهذا الحدث. على الجانب الروسي، ترأست الوفد الرسمي وزيرة الزراعة الروسية أوكسانا لوت، التي ألقت كلمة افتتاحية أكدت فيها التزام موسكو بتعميق التعاون الزراعي مع الرياض كجزء من الشراكة الإستراتيجية الشاملة. كما شارك عدد من كبار المسؤولين الروس وممثلي الهيئات الحكومية المعنية، منهم مستشارون وخبراء من وزارة الزراعة ووزارة التجارة والصناعة الروسية، الذين حرصوا على عرض سياسات بلادهم وبرامجها لدعم الصادرات الزراعية والتبادل التقني. إلى جانب ذلك، برز حضور إيغور ميلوفانوف، الرئيس التنفيذي لشركة “آسيا إكسبو”، المنظمة للحدث، الذي اضطلع بدور أساسي في التنسيق بين الجانبين، كما أعلن في ختام الملتقى تفاصيل الاتفاقيات الموقعة، ونتائج الملتقى. كذلك ضمّ الوفد الروسي ممثلين عن الاتحادات الزراعية الرئيسة، مثل الاتحاد الوطني لمصدّري الحبوب، واتحاد منتجي اللحوم، واتحاد منتجي الألبان، الذين شاركوا في جلسات نقاش متخصصة لبحث فرص الشراكات التجارية مع نظرائهم السعوديين.
أما على الجانب السعودي، فقد شارك وفد رسمي موسّع ضم مسؤولين رفيعي المستوى يمثلون وزارة البيئة والمياه والزراعة ووزارة الاستثمار، وغيرها من الجهات الحكومية ذات الصلة. وعلى الرغم من التكتّم الإعلامي بشأن أسماء أعضاء الوفد، فإن مشاركة صانعي القرار كانت واضحة من خلال الكلمات والعروض التي قدّمها الجانب السعودي، فقد شارك عدد من قيادات وزارة الزراعة السعودية، ممن عرضوا خطط المملكة لتنمية القطاع الزراعي، وفرص الاستثمار المفتوحة فيه، للشركاء الأجانب. كما مثّل القطاع الخاص السعودي حضورًا لافتًا في الملتقى، حيث شهد مشاركة رؤساء ومديري شركات زراعية وغذائية كبرى. من أبرز تلك الشركات الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني (سالك)، التي تُعد الذراع الحكومية للاستثمار الخارجي في المجال الغذائي، إذ بحث ممثلوها فرص الاستثمار في مشروعات زراعية داخل روسيا، والتعاون في مجال الاستيراد والتوزيع لتعزيز الأمن الغذائي السعودي. كذلك برز ممثلون عن شركات سعودية رائدة في مجالات إنتاج التمور، وتصنيع الأغذية، وتقنيات الريّ، حيث قدّموا تجارب المملكة الناجحة في هذه المجالات، وأبدوا اهتمامًا بتبنّي التقنيات الروسية الملائمة، وتعزيز الصادرات الزراعية السعودية بمساعدة شركاء روس. ولم يخلُ الملتقى من حضور أكاديمي واستشاري، حيث شارك خبراء وباحثون من الجامعات ومراكز البحوث السعودية جنبًا إلى جنب مع نظرائهم الروس، مساهمين في إثراء المناقشات العلمية، ووضع تصورات لمشروعات بحثية مشتركة مستقبلية.
عمومًا، رسم تنوع قائمة المشاركين صورة شاملة للتعاون المحتمل: مسؤولون يضعون الأطر والسياسات، وشركات تبرم الصفقات وتنفّذ المشروعات، وخبراء وعلماء يقدمون المعرفة والتقنية. هذا التكامل بين فئات المشاركين هو الذي أعطى الملتقى زخمًا وموثوقية، وأكد أن مخرجاته لن تبقى حبرًا على ورق، بل ستجد طريقها إلى التنفيذ عن طريق هؤلاء الفاعلين أنفسهم.
خرج ملتقى “غراس” بمجموعة من النتائج الملموسة والتوصيات التي يُتوقع أن يكون لها أثر واضح في مسار التعاون الزراعي السعودي الروسي في الفترة المقبلة. من أهم النتائج المعلنة كانت حزمة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وُقّعت خلال أيام الملتقى. بلغ عدد الاتفاقيات الموقعة نحو 15 اتفاقية، شملت مجالات متنوعة. فعلى الصعيد التجاري، أُبرمت عقود طويلة الأجل لتوريد منتجات زراعية روسية إلى المملكة، وفي مقدمتها الحبوب (مثل القمح والشعير)، والزيوت النباتية، بهدف تأمين إمدادات مستقرة للسوق السعودية على مدى السنوات المقبلة. كما وُقّعت اتفاقيات لتصدير لحوم الدواجن ومنتجات الألبان الروسية إلى المملكة، مما سيسهم في تنويع مصادر الواردات الغذائية السعودية، وتعزيز المخزون الإستراتيجي من السلع الأساسية.
في جانب الاستثمار والتصنيع، أثمر الملتقى تفاهمات لإنشاء مشروعات مشتركة داخل المملكة وخارجها، فمثلًا، اتُّفِقَ على دراسة جدوى مشروعٍ لإنشاء مزرعة حديثة للألبان في السعودية، بالشراكة بين مستثمرين سعوديين وأحد أكبر منتجي الألبان في روسيا، بحيث تستورد المزرعة التقنية والسلالات المحسّنة الروسية، وتستفيد من السوق السعودية الكبيرة. أيضًا وُقِّعت مذكرة تفاهم لإقامة منشأة تصنيع أعلاف متطورة في المملكة بتمويل سعودي وتقنية روسية، هدفها إنتاج أعلاف عالية الجودة لدعم قطاع الثروة الحيوانية المحلي. وعلى الجانب الروسي، تم التفاهم على استثمارات سعودية في مشروعات زراعية روسية، منها مشروع واسع لزراعة الشعير في منطقة خصبة بجنوب روسيا بغرض تخصيص إنتاجه للتصدير المباشر إلى المملكة. هذه الشراكات الاستثمارية تشكل خطوة نوعية، إذ تربط مصالح الطرفين على نحو طويل الأمد من خلال تداخل رأس المال والتكنولوجيا والإنتاج ضمن مشروعات مشتركة.
أما في المجال العلمي والتقني، فقد اتفق الجانبان على خطط تفصيلية لتفعيل التعاون البحثي، منها: إعلان برنامج منح دراسية سنوي يُرسل بموجبه عددٌ من الطلبة والباحثين السعوديين إلى الجامعات الروسية المتخصصة في العلوم الزراعية لاستكمال الدراسات العليا، أو حضور دورات تقنية متقدمة. وفي المقابل، سيعقد خبراء روس ورش عمل ودورات تدريبية في السعودية دوريًّا؛ لنقل المعرفة المباشرة إلى الكوادر المحلية. واتُّفِقَ أيضًا على تشكيل فرق عمل مشتركة من الباحثين لمتابعة الموضوعات التي نوقشت في الملتقى، بحيث تقدم هذه الفرق خلال ستة أشهر مقترحات محددة لمشروعات بحثية تطبيقية، أو تجارب ميدانية مشتركة (على سبيل المثال: تجربة أصناف قمح روسية في بيئة المملكة لاختبار ملاءمتها، أو تجربة تقنيات ريّ روسية في المزارع السعودية الكبرى). كما صدر عن الملتقى توصية بإنشاء منصة رقمية مشتركة لتبادل البيانات والمعلومات الزراعية بين الجهات المختصة في البلدين، بحيث تشمل بيانات الإنتاج والأسعار والتقنيات الزراعية وغيرها؛ مما يساعد على استمرار التواصل وتنسيق السياسات حتى بعد انتهاء أعمال الملتقى.
من النتائج المهمة أيضًا تلك المتعلقة بالتفاهم الإستراتيجي، حيث صدر بيان ختامي عن الملتقى أكد التزام الطرفين برفع مستوى التعاون الزراعي إلى شراكة إستراتيجية. وتضمن البيان أهدافًا بعيدة المدى، مثل العمل على مضاعفة حجم التجارة الزراعية بين البلدين خلال خمس سنوات، والسعي إلى تحقيق جزء ملموس من الأمن الغذائي السعودي عن طريق الاستثمارات والاتفاقيات مع روسيا، وفي المقابل دعم روسيا في فتح أسواق جديدة في الخليج عبر البوابة السعودية.
كذلك اتُّفِقَ على جعل ملتقى “غراس” فعالية دورية، بحيث تنتقل استضافته بالتناوب بين موسكو والرياض (أو مدن أخرى) وفق جدول زمني مقترح كل عامين؛ لضمان استمرار الزخم، ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات والتوصيات التي يتم التوصل إليها.
يشير ما تحقّق في ملتقى “غراس” إلى أن العلاقة الزراعية السعودية الروسية مقبلة على مرحلة جديدة زاخرة بالفرص، شريطة البناء على النتائج ومتابعة تنفيذها على نحو حثيث. من المنظور الاقتصادي، يُتوقع أن تؤدي الاتفاقيات التجارية المبرمة إلى زيادة كبيرة في حجم التبادل الزراعي بين البلدين خلال الأعوام القليلة المقبلة. فإذا سارت الأمور كما خُطِّط لها، قد تصبح روسيا أحد المورّدين الرئيسين للقمح والحبوب إلى السعودية، مما سيخفّض اعتماد المملكة على أسواق تقليدية، ويمنحها تنوعًا أكبر في مصادر وارداتها الغذائية. وفي المقابل، يمكن للشركات الروسية أن تستفيد من السوق السعودية الضخمة لتسويق منتجاتها الغذائية، وربما لتأسيس حضور استثماري مباشر داخل المملكة في قطاعات التصنيع الغذائي، والخدمات اللوجستية المرتبطة به.
في جانب التقنية والبحث العلمي، من المتوقع أن تبدأ المشروعات البحثية المشتركة التي اتُّفق عليها بأخذ مسار التنفيذ الفعلي، فإذا نجحت فرق العمل العلمية في تحقيق اختراقات مميزة -كاستنباط أصناف زراعية ملائمة للبيئة السعودية ذات إنتاجية؛ أعلى اعتمادًا على الأصول الوراثية الروسية، أو تطوير لقاحات بيطرية جديدة عبر التعاون المشترك- فإن ذلك سينقل التعاون إلى مستوى نوعي جديد يتجاوز تبادل المنافع التجارية إلى إنتاج المعرفة بصورة مشتركة. هذه النجاحات العلمية ستشجّع حكومتي البلدين على زيادة الاستثمار في برامج البحث والتطوير الزراعي الثنائي، وتمويل الابتكارات التي يمكن أن تخدم أمنهما الغذائي على المدى الطويل.
على الصعيد الإستراتيجي والجيوسياسي، يبدو أن نجاح ملتقى “غراس” قد وضع أسسًا لتوسيع نطاق التعاون ليشمل أطرافًا أخرى، وربما أقاليم مختلفة، فالسعودية التي تقود جهودًا إقليمية في مجال الأمن الغذائي، قد ترى فائدة في دعوة دول خليجية أو عربية مجاورة إلى المشاركة في الدورات المستقبلية من الملتقى، مما قد يحوّل “غراس” إلى منصة إقليمية- دولية للتعاون بين روسيا والعالم العربي في ميدان الزراعة. كذلك فإن روسيا بدورها قد تسعى إلى تعزيز هذا المحور ضمن مبادرات دولية أشمل، كإطار تعاون بين دول بريكس والشرق الأوسط في مجال الأمن الغذائي، خاصة مع اهتمام دول بريكس بإطلاق مبادرات، مثل بورصة عالمية للحبوب، وتعزيز أمن سلاسل الغذاء، بمعزل عن الهيمنة التقليدية.
وفي ظل التحديات العالمية المستمرة -بدءًا بتداعيات تغير المناخ التي تهدد الإنتاج الزراعي، مرورًا بالتقلبات الجيوسياسية التي قد تعطل انسيابية التجارة الغذائية، وصولًا إلى النمو السكاني المتسارع وما يفرضه من ضغوط على الموارد- فإن الشراكة السعودية الروسية في مجال الزراعة والأمن الغذائي مرشحة لأداء دور أكثر حيوية في المستقبل؛ فكلا البلدين لديه رؤى طويلة المدى: المملكة تسعى ضمن رؤية 2030 إلى تحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الغذائي النوعي، وتطوير قطاع زراعي مستدام باستخدام أحدث التقنيات، وروسيا لديها إستراتيجية لترسيخ مكانتها بوصفها قوة عالمية غذائية تضاعف صادراتها الزراعية، وتسهم في استقرار أسواق الغذاء الدولية؛ وعليه، يشترك الطرفان في مصلحة إستراتيجية بجعل تعاونهما الزراعي إحدى الركائز لتحقيق هذه الرؤى. ومن المتوقع أن نشهد في المستقبل القريب خطوات متابعة مهمة، من قبيل تشكيل لجنة مشتركة دائمة لمتابعة تنفيذ مذكرات التفاهم، وعقد اجتماعات دورية بين مسؤولي الوزارات المعنية، وربما إطلاق صندوق تمويلي مشترك لدعم مشروعات الأمن الغذائي، والاستثمارات الزراعية الثنائية.
في الختام، يمكن القول إن ملتقى “غراس” دشّن حقبة جديدة في العلاقات السعودية الروسية، عنوانها الشراكة الزراعية التكاملية. ومع أن تحقيق كل الطموحات المعلنة سيحتاج إلى وقت وجهد وتجاوز تحديات التنفيذ، فإن الإرادة السياسية المتبادلة، والزخم الذي ولّده الملتقى، ينبئان بأن مسار التعاون سيمضي قدمًا بثبات. وهكذا، أصبح التعاون الزراعي اليوم أحد أعمدة العلاقة بين الرياض وموسكو، وحجر زاوية في بناء نموذج للتعاون الدولي يقوم على المصالح المشتركة، والتنمية المتبادلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.