بعد وقف لإطلاق النار لأوّل جولة حرب مباشرة بين إيران وإسرائيل خلال 12 يومًا من الهجمات المتبادلة والتهديدات المختلفة بين الطرفين، لا تزال المخاوف قائمة من استهداف القائد الأعلى الإيراني علي خامنئي، في ظل تطورات إقليمية ودولية متسارعة. ومع سجل إسرائيل في انتهاك اتفاقيات وقف إطلاق النار، فلا يبدو أن الحرب قد وضعت أوزارها، لكنها ستأخذ منحى جديدًا من عمليات خاطفة جوية تهدف إلى تحييد أي خطر محتمل في ظل عدم نجاعة الدفاعات الجوية في التصدي للهجمات الإسرائيلية.
وتعكس التهديدات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة مؤشرات واضحة على محاولة إضعاف مركز القيادة العليا للنظام الإيراني من خلال إحداث فراغ في هرم السلطة. يشير تحليل المعطيات الأمنية والاستخباراتية، لا سيما في ظل التصعيد الإسرائيلي منذ يونيو (حزيران) 2025، إلى أن تل أبيب ترى في اغتيال خامنئي فرصة لإرباك البنية القيادية، وإضعاف منظومة التحكم والسيطرة في الجمهورية الإسلامية، وهو ما يشكل جزءًا من إستراتيجية الحرب المتعددة الجبهات ضد إيران. هذا التوجه -رغم خطورته- يثير تساؤلات عميقة بشأن قدرة إسرائيل أو الولايات المتحدة على تحمل تبعات هذا الاستهداف، في ظل ما يحمله منصب القائد الأعلى من رمزية عقَدَية ومركزية في البنية السياسية والعسكرية الإيرانية؛ ما يجعل أي فراغ محتمل في هذا المنصب خطرًا يهدد بتفكك مكونات الدولة العميقة، وربما انفجار الداخل الإيراني[1].
في المقابل، لا يبدو النظام الإيراني غافلًا عن هذا السيناريو، بل تؤكد مؤشرات متعددة أنه يعمل منذ سنوات على تأمين استمراره من خلال تحصين المؤسسات المرتبطة بالقيادة العليا، خاصة مجلس الخبراء، ومكتب القائد الأعلى، وشبكات ولاية الفقيه داخل الحوزات العلمية، وهو ما يُعرف داخليًّا بإستراتيجية “ما بعد خامنئي”. فالنظام -على الرغم من مركزية القائد الأعلى- لا يراهن على الفردانية؛ بل على استمرار المشروع السياسي والعَقَدي للثورة الإسلامية. وقد أسهمت تجربة نقل السلطة من قائد الثورة الإسلامية روح الله الخميني، إلى خامنئي عام 1989 في بناء نموذج قائم على التماهي بين المرجعية الدينية والشرعية الثورية؛ ما يفسر سعي النظام الحالي إلى إعادة إنتاج هذا النموذج عن طريق صناعة رموز جديدة تمتلك شرعية مزدوجة، دينية وثورية؛ لضمان الانتقال السلس في حالة غياب خامنئي[2].
في السياق نفسه، تشير التقارير الغربية الصادرة عن معاهد مثل “معهد واشنطن”[3]، و”مجموعة الأزمات الدولية”[4]، إلى أن السيناريوهات المحتملة لما بعد خامنئي تتراوح بين انتقال هادئ للسلطة في حالة التوافق داخل نخبة النظام، وتفكك أو صراع داخلي في حالة حدوث اغتيال مفاجئ أو تدخل خارجي يربك آليات الخلافة. وتبرز أسماء مثل مجتبى خامنئي، نجل القائد الأعلى، كشخصية بارزة في هذا المشهد، لكن تشير تقديرات أن خامنئي نفسه طلب استبعاد نجله من احتمالية خلافته، وربما يعود هذا إلى فلسفة النظام السياسي الثوري الذي قام على تقويض أسس التوريث في إيران ما بعد الثورة.
أما من منظور أوسع، فإن أي تغيير في منصب القائد الأعلى سيتبعه تغيير أيضًا في سياسات إيران الداخلية والخارجية يلمس إعادة رسم لإستراتيجية الأمن القومي الإيراني في ظل المتغيّرات المحفزة للتغيير. وهذا التغيير ستنعكس تبعاته على المعادلات الإقليمية، خاصةً في ملفات مثل مستقبل البرنامج النووي، والعلاقة مع روسيا والصين، ووضع الجماعات الحليفة لطهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فاستهداف خامنئي أو موته الطبيعي من دون ترتيب محكم للخلافة قد يؤدي إلى تراجع نسبي في مركزية القرار الإيراني؛ ما يخلق فراغًا جيوسياسيًّا تحاول قوى متعددة ملأه، أبرزها إسرائيل التي ستسعى إلى تقويض نفوذ طهران في الإقليم، وتركيا التي قد تنتهز الفرصة لتوسيع مجالها الحيوي، فضلًا عن الولايات المتحدة التي قد تعيد النظر في إستراتيجيتها النووية مع طهران. كل هذا يجعل مستقبل القائد الأعلى الإيراني قضية تتجاوز شخصه إلى معضلة بنيوية في مستقبل النظام السياسي الإيراني، واستقراره الإقليمي.
يمثّل التهديد السياسي والعسكري باغتيال القائد الأعلى الإيراني منعطفًا خطيرًا في شكل الصراع الإقليمي، إذ لا يمكن النظر إليه بوصفه ضربة تكتيكية، بل محاولة إستراتيجية لتقويض منظومة الحكم الإيرانية برمتها عن طريق رأس هرمها العَقَدي والسياسي. وتشير الاغتيالات المتسلسلة التي طالت قيادات الحرس الثوري، ومنها الفريق محمد باقري، والفريق حسين سلامي، والفريق غلام رضا رشيد، إلى وجود خطة ممنهجة تهدف إلى تفكيك بنية القيادة والسيطرة الإيرانية، وهي البنية التي صمدت عقودًا بفضل هيكلها الهرمي المعقد، وتداخلها مع المؤسسات الدينية والعسكرية. إذا تحقق هذا السيناريو، فإن إيران قد تدخل في طور “اللا مركزية القسرية”، إذ تتفكك سلطة القرار وتتنازعها مراكز قوى متعددة دون رأس موحد؛ ما يشكل مدخلًا لمشروع الفوضى الممنهجة الذي لطالما لوّحت به أطراف دولية وإقليمية لتفكيك القوة الصلبة الإيرانية[5].
يأتي اختيار التوقيت متزامنًا مع اقتراب شهر محرّم، وهو توقيت ذو دلالة رمزية عميقة في الوعي الشيعي الجمعي؛ مما يعكس نية صريحة في استهداف العمق الروحي للنظام، وليس فقط هيكله السياسي. تشير تحليلات صادرة عن معهد[6] Carnegie Endowment وCSIS[7] إلى أن تل أبيب وواشنطن تدركان أن زعزعة منصب القائد الأعلى قد تؤدي إلى خلخلة كل أذرع النفوذ الإيراني في المنطقة، من حزب الله في لبنان إلى الميليشيات الشيعية في العراق واليمن. ويدّعي المسؤولون الإسرائيليون -ومنهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو- أن استهداف خامنئي سيكون الخطوة الحاسمة لإنهاء ما يسمونه “الحرب الطويلة مع محور المقاومة”، متجاهلين أن غياب القيادة لا يعني بالضرورة انهيار الدولة؛ بل قد يؤدي إلى تغيير ليس بالضرورة في إطار مصالحها، ولا يضمن صعود مراكز نفوذ أكثر راديكالية.
على الجانب المقابل، تشير تقارير استخباراتية أوروبية إلى أن طهران -رغم التهديدات المتزايدة- لم تفقد تماسكها المؤسسي؛ بل بَنَت منذ سنوات ما يُعرف بـ”سيناريو ما بعد خامنئي”، من خلال تعزيز سلطات مجلس الخبراء، وتحريك الملف الفقهي لنجل القائد الأعلى مجتبى خامنئي، وتمكين أجهزة الأمن الداخلي من السيطرة على أي فوضى محتملة. كما روجعت آليات العمل داخل القوات المسلحة، ووُحِّدَت قيادتها المركزية في ظل غياب الأفراد المؤثرين، ما يدل على إدراك المؤسسة السياسية الإيرانية لخطورة ما يُحاك. ومع ذلك، فإن حجم الضغوط الخارجية والتسريبات المتكررة بشأن تحركات إسرائيلية في العمق الإيراني، ومنها عمليات تخريب نووي، واغتيالات دقيقة، يجعل النظام في حالة استنفار دائم، تُرهقه أمنيًّا، وتستنزفه سياسيًّا[8].
وفي حالة تطور هذا الاستهداف إلى عملية اغتيال فعلية، فإن تداعياته لن تقتصر على الداخل الإيراني، بل ستتجاوز حدود الجغرافيا لتطول معادلات التوازن الإقليمي برمتها، فمشروع الفوضى الممنهجة الذي تسعى بعض الأطراف إلى فرضه بعد غياب القائد الأعلى قد ينقلب إلى موجة صراعات مذهبية ومسلحة تمتد من الخليج إلى الهلال الخصيب، في ظل غياب بديل يحظى بشرعية جامعة. كما أن تصدع المركز في طهران سيفسح المجال أمام خصوم إقليميين ودوليين لتعديل قواعد الاشتباك، وهو ما قد يشعل سباقًا جيوسياسيًّا على النفوذ، خاصةً من جانب تركيا وإسرائيل والسعودية، فضلًا عن الولايات المتحدة التي قد تجد في الانهيار فرصة لتغيير سلوك النظام من الداخل عن طريق أدوات غير عسكرية. هذا السيناريو يضع مستقبل إيران والمنطقة على حافة مفترق حاد بين إعادة التشكيل أو الانفجار الكامل[9].
تُظهر التجربة السياسية الإيرانية أن الجمهورية الإسلامية لا تعتمد على شخصية القائد الأعلى فقط؛ بل على منظومة من المؤسسات التي صُمِّمَت لتحافظ على تماسك النظام حتى في حالات الأزمات القصوى، ومنها سيناريو غياب القائد الأعلى. هذه الديناميكية المؤسسية بدأت تتشكل بوضوح منذ مطلع الألفية الثالثة، حين بدأ خامنئي تدريجيًّا بتهيئة مجلس خبراء القيادة، وتعزيز استقلاليته الشكلية. وقد أعدَّ مكتب القائد الأعلى -منذ سنوات- قائمة مصغرة بأسماء خلفاء محتملين، تتضمن شخصيات دينية وعسكرية على السواء، مع تفضيل ملحوظ للتيار المحافظ بشقيه الأمني والفقهي، بحسب موقع “أمواج ميديا”[10]. يُشير ذلك إلى أن النظام الإيراني لا يُراكم الشرعية من خلال الولاية الدينية فقط؛ بل من خلال التكيف المستمر مع المتغيرات الداخلية والخارجية لتأمين استمراره، حتى في أكثر السيناريوهات تطرفًا.
وتشير الدراسات الصادرة عن مركز الدراسات الأمنية بجامعة زيورخ [11](ETH Zurich, 2024) إلى أن إيران قد تكون من بين الدول القليلة في المنطقة التي طوّرت نموذجًا ثيوقراطيًّا- عسكريًّا مزدوجًا للقيادة؛ ما يجعل الانتقال القيادي ممكنًا دون فراغ أمني أو دستوري. هذا النموذج يرتكز على ما يسميه التقرير “الشرعية المركّبة”، أي المزج بين التقليد الشيعي العميق وواقع السيطرة المؤسسية للحرس الثوري. وفي حالة غياب القائد الأعلى، فإن مجلس الخبراء قادر -من الناحية الدستورية والعملية- على الدعوة إلى اجتماع مغلق لاختيار خليفة خلال 24 ساعة، كما حصل مع الخميني عام 1989. الفارق الآن هو أن المعادلة أكثر تعقيدًا بسبب اتساع الدور السياسي للأجهزة الأمنية والعسكرية؛ ما قد يؤدي إلى اختيار شخصية ذات خلفية أمنية- دينية، أو على الأقل مرنة أمام هيمنة المؤسسة العسكرية.
لكن فكرة استيلاء “المتشددين العسكريين” على السلطة من رجال الدين غير منطقية في الواقع، فليس هناك كثير من السلطة للاستيلاء عليها. كما أن هذا التأطير يُخفي حقيقة أن عسكرة الدولة الإيرانية تُضعف سلطة السياسيين المنتخبين في إيران، التي لا تزال مهمة. هذا هو التحول السياسي الذي يجب أن نقلق بشأنه. إن فوز بزشكيان في الانتخابات ضد مرشحين ذوي صلات أقوى بالحرس الثوري الإيراني يعكس جهدًا للحفاظ على جدار الحماية بين الجانبين المدني والعسكري في “النظام”، وقد يُقوّض الصراع مع إسرائيل هذا الجهد.
ومن الملاحظ أن التحضيرات لهذا السيناريو لم تقتصر على الجانب الدستوري فحسب؛ بل شملت إعادة ترتيب منظومة القيادة داخل الحرس الثوري، وتحديث البنية التنظيمية لمكتب القائد الأعلى بما يسمح باستمرار “الدولة العميقة”، بغض النظر عن الشخص المتربع على قمة الهرم، فخامنئي أدرك -في ضوء الانهيارات الإقليمية السابقة- أن التركيز على شخص الحاكم يقود إلى هشاشة، في حين يُعدّ توزيع النفوذ بين المؤسسات، مع ضبطها أيديولوجيًّا وأمنيًّا هو السبيل الوحيد لضمان البقاء؛ ومن هنا جاءت تصريحات خامنئي بعد الضربات الإسرائيلية المتكررة في يونيو (حزيران) 2025 لتؤكد هذا المنطق؛ إذ قال إن الجمهورية “لا ترتكز على فرد”؛ بل على مبدأ الثورة المستمرة، ملمّحًا إلى أن غيابه لن يؤدي إلى فراغ؛ بل إلى انتقال منضبط ومدروس، في ظل جاهزية داخلية واضحة للتعامل مع صدمة الغياب أو الاغتيال[12].
وفي سياق موازٍ، فإن السياق الإقليمي والدولي يدفع النظام الإيراني إلى الإسراع بتفعيل جاهزيته المؤسسية لمرحلة ما بعد خامنئي، لا سيما في ظل التهديدات المتكررة من إسرائيل والولايات المتحدة بإحداث “قطع الرأس” الإستراتيجي للنظام. ورغم خطورة هذه التهديدات، فإنها تُسهم -على نحو غير مباشر- في تسريع إعادة هندسة التراتبية داخل النظام، وتقوية التحالف بين الجناحين الديني والعسكري[13]. فبدلًا من أن تكون مرحلة ما بعد خامنئي بوابة للفوضى، تسعى القيادة الإيرانية إلى تحويلها إلى لحظة “إعادة شرعنة” للنظام، عن طريق الانتقال السلس، وبناء زعامة توافقية تكرّس تماسك الدولة لا انقسامها. وبهذا المعنى، فإن مشروع الخلافة في إيران ليس مجرد خطوة دفاعية؛ بل هو جزء من إستراتيجية هجومية لإعادة إنتاج النظام بوجه أكثر تحصينًا ومرونة تجاه الضغوط، سواء من الداخل الإصلاحي أو الخارج الغربي[14].
شهدت إيران في الأسابيع الأخيرة ردود فعل شعبية ودينية غير تقليدية تجاه التهديدات المتزايدة باغتيال القائد الأعلى علي خامنئي، وهو ما عكس تحوّلًا عميقًا في بنية الاستجابة الجماهيرية التي لم تعد تقتصر على النخب المؤدلجة، أو القطاعات المرتبطة مباشرة بالحرس الثوري؛ بل شملت طيفًا واسعًا من المجتمع، بما في ذلك التيارات السنية، والمراكز الدينية في قم والنجف. ففي تطوّر نادر، أصدر كبار علماء السنة في بلوشستان وكردستان بيانات رسمية تُدين ما وصفوه بـ”العدوان الإسرائيلي- الأميركي على المرجعية الدينية”، معتبرين أن استهداف خامنئي يتجاوز البُعد السياسي إلى كونه محاولة لإهانة الكرامة السيادية لإيران.
تُشير التحركات الأخيرة في الحوزات العلمية، خاصةً في قم والنجف، إلى تصاعد غير مسبوق في التفاعل السياسي- العَقَدي من جانب النخبة الدينية تجاه التهديدات الخارجية الموجهة إلى القائد الأعلى، فقد شهدت الساحات المحيطة بالمدارس الدينية الكبرى مظاهرات طلابية وأكاديمية، رافعة شعارات مثل “الدفاع عن القيادة واجب فقهي”، فيما يمكن اعتباره إعلانًا صريحًا عن اندماج المرجعية الدينية مع المؤسسة السياسية في لحظة تهديد وجودي. لم يعد منصب القائد الأعلى مجرد موقع إداري، أو مرجعي ديني، بل تحوّل إلى مركز التقاء بين الوعي الشيعي العَقَدي والانتماء الوطني، ما يعني أن أي محاولة لاغتياله، أو تقويض سلطته، لا تُفهم فقط بوصفها سلوكًا عدوانيًّا تجاه الدولة، بل بوصفها عدوانًا على العقيدة ومفهوم “الولي الفقيه” نفسه. هذا التلاحم بين العقيدة والسيادة يعزّز قدرة النظام على إعادة تعبئة القاعدة الدينية في وجه التصعيد الخارجي، ويوفر له غطاءً شرعيًّا ووجدانيًّا واسعًا لتبرير الردود العنيفة على أي اختراق خارجي.
وقد جاء التصعيد الفقهي ليعزّز هذا الموقف بفتاوى غير تقليدية أطلقها مرجعان بارزان، هما: آية الله نوري الهمداني، وآية الله مكارم الشيرازي، حيث اعتبرا أن كل شخص أو جهة تهدد مقام القيادة العليا أو المرجعية الدينية يقع عليه “حد الحرابة” بوصفه مفسدًا في الأرض. هذه الفتوى، التي تُعد من أشد العقوبات في الفقه الشيعي، لا توجّه فقط ضد الخارج؛ بل تتضمّن أيضًا رسالة واضحة للداخل، مفادها أن المساس بموقع القائد يُعد خيانة دينية تستوجب العقاب الإلهي والدنيوي. ويأتي ذلك في سياق سياسي معقّد يشهد تصدعات داخل النخبة الحاكمة، وتزايد الأصوات الداعية إلى إعادة تقييم مسار الجمهورية، لكن توظيف الفتوى على هذا النحو يعكس رغبة المؤسسة الدينية في حماية شرعيتها المشتركة مع النظام، وتحويل الدفاع عن المرشد إلى فريضة فقهية، لا مجرد واجب سياسي. وبهذا المعنى، تتزاوج أدوات القمع الرمزي والديني مع أدوات الردع العسكري والأمني، في مشهد يعكس عمق التماهي بين الدولة والمذهب، ويُبقي على صلابة النظام في مواجهة احتمالات التغيير أو الانقسام[15].
تأتي هذه التعبئة في ظل نتائج ميدانية صادمة نشرتها مؤسسة IRIB الإيرانية[16] في استطلاع رسمي نُشر في يونيو (حزيران) 2025، حيث أبدى 61% من المواطنين استعدادهم لخوض “حرب طويلة الأمد” ضد إسرائيل، فيما أيّد 89% خيار امتلاك القنبلة النووية بوصفها “درعًا سيادية”. وتجاوزت نسبة الثقة بالقدرات الصاروخية الإيرانية 87%؛ ما يدل على تماسك جبهة داخلية تتجاوز الضغوط الاقتصادية، وتُقابل التصعيد الخارجي بنزعة تعبئة قومية وعسكرية. لا يمكن فصل هذه الأرقام عن خطاب المقاومة الذي رسّخه النظام على مدى أربعة عقود، لكنه في الوقت الراهن يجد صداه ليس فقط في الطبقات المحافظة، بل أيضًا في فئات شبابية وأكاديمية متضررة اقتصاديًّا، لكنها ترى في التصعيد الخارجي اعتداءً على الذات الجمعية. هذه الدينامية تُعقّد رهانات أعداء النظام على أي انقسام داخلي أو تفكك شعبي عقب أي استهداف مباشر للقيادة العليا.
ويؤكد تقرير صادر عن معهد Washington Institute في أبريل (نيسان) [17]2025 أن ما يميز الحالة الإيرانية عن غيرها من أنظمة المنطقة هو أن شرعية النظام لا تقوم على القمع أو الأيديولوجيا فقط؛ بل على ما يسميه التقرير “المعنويات الإستراتيجية”، أي قدرة الدولة على بناء سردية ذات طاقة رمزية تتيح لها البقاء في بيئات صراعية طويلة الأمد. ويتجلى ذلك في صمود مؤسسات الإعلام الإيراني، خاصة هيئة الإذاعة والتلفزيون (IRIB)، التي واصلت بثّها حتى خلال القصف، وقدّمت تغطيات مباشرة من مقارّها رغم تعرّضها لأضرار، في مشهد يُعبّر عن الثقافة المؤسسية المتجذرة التي تتجاوز ارتباطها بفرد أو قيادة معينة. هذه المرونة تعبّر عن وعي مؤسساتي تشكّل من خلال تجارب الحروب الماضية، ونجح النظام في تحويله إلى جزء من ذاكرة المقاومة الوطنية، تُستدعى كلما اشتد الخطر، أو استُهدفت القيادة؛ لذا فإن هذا التماسك المجتمعي والمؤسسي في مواجهة التهديدات باغتيال خامنئي يعكس تحولًا في قواعد الصراع؛ فبدلًا من أن يؤدي الاستهداف الخارجي إلى إضعاف النظام، نجده يمنحه وقودًا تعبويًّا جديدًا، ويُعيد توحيد الجبهة الداخلية. فحتى الجماعات الدينية التي كانت تُعارض النظام ضمنيًّا، أظهرت ميلًا إلى الدفاع عن الدولة في مواجهة تهديد خارجي مباشر؛ ما يدل على أن الشرعية السياسية في إيران تتجدد في لحظات الخطر لا في لحظات الاستقرار، وهذا ما قد يفسّر لماذا فشل الرهان الغربي على “ردة فعل جماهيرية غاضبة” من شأنها أن تُسقط النظام بعد ضربة نوعية؛ فالنظام الإيراني نجح -عن طريق خطاب سيادي ومرجعي- في تحويل نفسه إلى رمز وطني جامع لا ينحصر في موقع أو شخص؛ بل يمتد ليصبح مكونًا من مكونات الهوية السياسية الإيرانية الحديثة.
تشير التصريحات الصادرة عن عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين، في مقدمتهم الرئيس دونالد ترمب، إلى أن سياسة الاغتيالات لا تُعدّ هدفًا نهائيًّا بقدر ما هي وسيلة ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى تفكيك الدولة الإيرانية من الداخل، وإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، وصولًا إلى تصفية برنامجها النووي والصاروخي. هذا الطرح ليس جديدًا في الأوساط الأمريكية اليمينية، لكنه اكتسب طابعًا أكثر حدة بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير، والعمليات التي استهدفت قيادات عليا في الحرس الثوري الإيراني. غير أن المعطيات الميدانية تُظهر أن النظام الإيراني تجاوز في الأشهر الأخيرة صدمات جسيمة، منها اغتيال رئيس الأركان، وقادة وحدات إستراتيجية، دون أن تظهر عليه علامات انهيار أو تفتت؛ ما يكشف عن تماسك أمني وعسكري ناتج عن بنية مركزية مدعومة بشبكة مؤسساتية محصّنة ضد التفكك الفوري، فالهيكل القيادي في إيران لا يقوم فقط على الولاء الشخصي؛ بل على ترابط بين المؤسسات الأمنية والدينية، يُدار بآليات متقدمة للردع والسيطرة.[18]
وفي ظل هذه البنية المتماسكة، فإن اغتيال القائد الأعلى -إن تحقق- لن يشكّل بالضرورة نهاية للنظام، بل على العكس، قد يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة التي تتخطى الحسابات التقليدية، فهذا الحدث سيُفهم داخليًّا وخارجيًّا بوصفه ضربة وجودية، لا مجرد تغيير سياسي، خاصة أن خامنئي يُعدّ مرجعًا أعلى شيعيًّا، فضلًا عن موقعه السياسي؛ ومن ثم فإن استهدافه يلامس العمق العَقَدي والثقافي للجمهورية الإسلامية. في هذا السياق، قد لا يكون الرد الإيراني محصورًا في عمليات انتقامية متفرقة؛ بل قد يتخذ شكل تصعيد غير مسبوق على مستوى الإقليم، يشمل استهداف القواعد الأمريكية، وممرات الطاقة، وتفعيل الجبهات الممتدة في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن؛ ما يجعل هذا السيناريو بداية تحول إستراتيجي خطير في قواعد الاشتباك، لا سيما إذا ما نُظر إليه في طهران بوصفه إعلان حرب شاملة، وليس مجرد اغتيال فردي[19].
ويُؤكد تحليل نشرته مجلة Foreign Affairs في يونيو (حزيران) 2025[20] أن القيادة الإيرانية “تعمل وفق عقلية أمنية استباقية، تدير الصراع مع الغرب بوصفه صراعًا وجوديًّا لا تكتيكيًّا”، ما يعني أن ردّ الفعل على أي محاولة لإفراغ الهرم القيادي سيكون وفق منطق الردع لا الرد المحدود. هذه العقلية هي التي مكّنت طهران من الاستمرار تحت أقسى العقوبات والضربات، وهي نفسها التي تُدير التوازن الحذر مع واشنطن وتل أبيب. وتضيف المجلة أن لدى إيران شبكة من الوكلاء والميليشيات الموالية، لا تعمل فقط وفق أوامر مركزية؛ بل تُشارك في تحديد مسارات الرد بناءً على الديناميكيات الميدانية؛ ما يُضفي على المواجهة طابعًا لا مركزيًّا، ويصعّب على الغرب السيطرة على تداعيات أي تصعيد، خاصة في مناطق تشهد هشاشة أمنية، كالخليج العربي وسوريا والعراق؛ وعليه فإن أي ضربة إلى قمة الهرم الإيراني قد تُفجّر سلسلة من التفاعلات غير المتوقعة، يتجاوز بعضها قدرة واشنطن وتل أبيب على الاحتواء أو الضبط.
انطلاقًا من ذلك، فإن الافتراض القائل بانهيار النظام الإيراني تلقائيًّا فور غياب القائد الأعلى يفتقر إلى مقومات التحليل الواقعي، ويعكس أكثر ما يشبه الأمنيات السياسية لبعض الخصوم الإقليميين والدوليين، فالنظام الإيراني لم يُبنَ على شخص خامنئي فقط؛ بل على منظومة معقدة من المؤسسات العسكرية والأمنية والدينية والبيروقراطية، التي تضمن استمرار العمل السياسي حتى في ظل الأزمات. نعم، غياب القائد الأعلى سيشكّل أزمة شرعية، ومخاضًا داخليّا معقدًا، لكنه لن يؤدي بالضرورة إلى تفكك الدولة، أو انهيارها، بل إن النظام -من خلال قدرته على امتصاص الصدمات، وتكييف خطابه السياسي- قد يوظّف لحظة الاغتيال -إن وقعت- كفرصة لإعادة التعبئة الشعبية، وتعزيز مفهوم “الشهادة القيادية” في خطاب المقاومة، تمامًا كما حدث بعد اغتيال قاسم سليماني عام 2020، حين تحولت الضربة إلى وسيلة لتجديد مشروعية النظام داخليًّا وإقليميًّا.
منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، لم يعرف النظام إلا قائدين أعليين، روح الله الخميني، وخليفته علي خامنئي؛ ما يجعل لحظة الخلافة القادمة لحظة تأسيسية ثانية في تاريخ النظام. وتجربة خلافة الخميني، مع أنها تمت بسرعة نسبية عام 1989، لم تخلُ من التوتر والتجاذب المؤسسي، حيث طرحت أطراف داخل مجلس الخبراء آنذاك خيار تقليص سلطة الفرد لصالح “مجلس قيادة” جماعي، وهو خيار عكس المخاوف من تعذر ملء فراغ شخصية كالخميني، لكن التيار المحافظ -بدعم من المؤسسة العسكرية ورجال الدين المتشددين- نجح في ترجيح كفة القيادة الفردية، وعُيِّنَ خامنئي مؤقتًا، ثم عُدِّلَ الدستور ليُلائم وضعيته غير المرجعية. هذه اللحظة التاريخية تُلقي بظلالها على الواقع الحالي، حيث تتكرر مجددًا المعضلة نفسها بين فاعلية القيادة الفردية في زمن الحرب، وحاجة الدولة إلى توازن مؤسسي يمنع الانهيار في حالة استهداف رأس النظام. وإذا تكررت تجربة الاغتيال أو الوفاة الطبيعية في ظروف احتقان وتهديد وجودي -كما هي الحال اليوم- فإن الخيار الجماعي قد يُعاد طرحه بقوة، خاصة مع بروز أصوات داخل المؤسسة الدينية تُفضل نموذجًا أكثر توازنًا في اتخاذ القرار.
لكن التحدي الأهم لا يكمن في شكل القيادة؛ بل في مضمونها وقدرتها على الاستمرار في أداء الدور الذي اضطلع به خامنئي طيلة 36 عامًا من الحكم، حيث فرض سيطرته على الحرس الثوري، ووجّه السياسة الخارجية نحو مسار تصادمي مع الغرب، واحتكر القرار في معظم مفاصل الدولة. هذه القدرة على الهيمنة لا ترتبط بشخصيته أو مكانته الدينية فقط؛ بل بمنظومة “الشخصنة المؤسسية” التي بُني عليها النظام. وفي ضوء الضربات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت نووية وصاروخية، وقادت إلى مقتل عدد من كبار القادة العسكريين المقربين من خامنئي، تبدو قبضته الآن أكثر هشاشة من أي وقت مضى، وتظهر عليه علامات الإرهاق والانعزال، بحسب تحليلات [21]Foreign Affairs وWashington Institute [22]. وبينما استمر إعلام الدولة في بث رسائل “الانتصار”، برز على الساحة الداخلية تيار جديد يجمع بين رجال دين ساخطين، وتكنوقراطيين سابقين، وشخصيات إصلاحية تطالب بإعادة النظر في مسار الجمهورية نفسه، بل في نهج ولاية الفقيه بوصفه مرتكزًا حاكمًا.
الصراع بشأن خلافة خامنئي بات الآن مكشوفًا أكثر من أي وقت مضى، مع تضارب التوجهات داخل النخبة الحاكمة؛ فبينما يدفع الحرس الثوري باتجاه ترقية مجتبى خامنئي -نجل المرشد- بدعوى استمرار الخط الثوري، وضمان أمن العائلة، فإن أصواتًا أخرى ترى أن هذا الخيار يعيد إنتاج “ملكية جمهورية” تثير حساسية عميقة في الوعي الإيراني، وقد تُقابل برفض حتى من داخل قواعد النظام. ويقترح آخرون سيناريو أكثر براغماتية، يتمثل في تعيين رجل دين مسن ضعيف سياسيًّا مرشدًا مؤقتًا، يُمهّد لاحقًا الطريق أمام مجتبى أو غيره. في المقابل، يُطرح اسم حسن روحاني في الأوساط الإصلاحية بديلًا ذا شرعية دينية ودولية، خاصةً أنه كان المهندس الرئيس للاتفاق النووي عام 2015. ورغم استبعاد مجلس الخبراء له، فإن خطاباته الأخيرة، التي تركز على “الدبلوماسية، والحكم الرشيد، والاقتصاد المرن”، وجدت صدى لدى جزء من النخبة المدنية، لكنها تصطدم بجدار الرفض من التيار الأمني- العسكري المهيمن، الذي يرى في أي مرشد معتدل تهديدًا لبنية السلطة.[23]
كل هذه السيناريوهات تضع إيران على مفترق طرق بالغ الحساسية، حيث لا تتعلق المسألة بمن سيخلف خامنئي فقط؛ بل أي نموذج من الدولة سيخلف جمهوريته. هل يستمر النظام في نسخته الثورية الراهنة، من خلال خليفة مدعوم من الحرس الثوري، يحافظ على خط الصدام مع الغرب؟ أم يتجه نحو نموذج جديد أكثر عقلانية وتوازنًا، من خلال مرشد إصلاحي يعيد هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ هذه الخيارات ليست تقنية؛ بل مصيرية، وستُحسم من خلال صراع بين النخب نفسها، وليس بالضرورة من خلال رغبة شعبية حرة. ولأن إيران تعيش تحت ضغوط خارجية شديدة، فإن أي خطأ في التقدير، أو اختيار شخصية غير قادرة على توحيد المؤسسة، قد يُسرّع لحظة التفكك لا الانتقال؛ ومن ثم فإن ساعة ما بعد خامنئي ليست مجرد لحظة دستورية؛ بل هي لحظة أمن قومي، واختبار لقدرة النظام على إعادة إنتاج نفسه في بيئة معقدة داخليًّا، وعدائية خارجيًّا.[24]
رغم الرمزية المطلقة التي يمثلها القائد الأعلى علي خامنئي داخل النظام الإيراني، سياسيًّا وعَقَديًّا، فإن سيناريو اغتياله لا يعني بالضرورة سقوط الجمهورية الإسلامية، بل يشكّل اختبارًا صارمًا لمرونة النظام ومتانة بنيته المؤسسية. فمنذ الثورة عام 1979، عملت إيران على بناء منظومة حكم غير قابلة للاختزال في شخص واحد؛ بل قائمة على تداخل المؤسسات الدينية، والعسكرية، والأمنية، والبيروقراطية، على نحو يجعل فقدان القيادة حدثًا خطيرًا، لكنه ليس كارثيًّا. التجربة التاريخية تثبت أن النظام الإيراني واجه تحديات وجودية مماثلة، من الحرب العراقية- الإيرانية، إلى العقوبات القصوى، واغتيال قادة بارزين مثل قاسم سليماني، ومع ذلك ظل متماسكًا وقادرًا على إعادة التوازن. ومن هذا المنطلق، فإن اغتيال خامنئي -إن وقع- سيكون بمنزلة اختبار تحمّل للنظام، لا إعلان نهايته[25].
في الواقع، ما يجعل إيران أكثر قدرة على امتصاص هذا النوع من الضربات هو تطور بنيتها القيادية التي لم تُبنَ على كاريزما فردية فقط؛ بل على شبكة ولاءات، وعقيدة مؤسسية قوية، لا سيما في الحرس الثوري، ومجلس الخبراء، ومكتب القائد الأعلى، إلى جانب المرجعيات الدينية التي رُوِّضَت تدريجيًّا لتتماهى مع النظام القائم. وقد أشارت تقارير صادرة عن [26]Crisis Group ومعهد [27]Brookings إلى أن سيناريو ما بعد خامنئي بات حاضرًا في النقاشات الداخلية منذ أكثر من عقد، وهناك أسماء مطروحة داخل الدائرة المغلقة، سواء من رجال الدين ذوي الصبغة الثورية، أو من القيادات الأمنية التي تتمتع بشرعية دينية نسبية. إذا توافقت المؤسسات المعنية على اختيار زعيم بديل بسرعة -كما حدث بعد وفاة الخميني عام 1989- فإن الدولة يمكن أن تنتقل إلى مرحلة جديدة من الحكم دون انهيار، بل مع تعزيز للتماسك الداخلي تحت منطق “الرد على الاغتيال بإعادة البناء”.
أما على المستوى الإقليمي، فإن اغتيال القائد الأعلى لن يؤدي بالضرورة إلى تراجع النفوذ الإيراني؛ بل قد يدفع النظام نحو تبني سياسة أكثر هجومية في إطار “الانتقام الإستراتيجي”، من خلال تصعيد دعم الحلفاء في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، وربما تسريع خطط امتلاك السلاح النووي كضمانة بقاء. يشير تحليل لمجلة The National Interest في يونيو (حزيران) [28]2025 إلى أن هذا الحدث قد يحفز ما يُسمى “رد الفعل الثوري الثاني”، أي توظيف لحظة الاستهداف لتجديد الخطاب الثوري، وتعزيز القاعدة الشعبية للنظام من خلال خطاب المقاومة والاستقلال. كما أن المؤسسات الإيرانية ستسعى إلى تحويل لحظة الغياب إلى لحظة تعبئة وطنية تُرسّخ مناعة الدولة أمام التدخل الخارجي، بدلًا من أن تكون فرصة لتفككها.
كذلك، ستكون لحظة حرب الـ12 يومًا ركيزة لإعادة النظر في إستراتيجية الأمن القومي الإيراني مثلما أحدثت الحرب الإيرانية العراقية تحولًا جذريًّا في إستراتيجية الأمن القومي الإيراني، لا سيما في مساحة الاستخبارات ومكافحة التجسس، فضلًا عن مواجهة المسيرات المختلفة، واستخدام التقنيات الحديثة، ومنح النخبة الشابة مزيدًا من الأدوار لتشبيب النظام. كما سيكون ملف الصواريخ رافعة هذه الإستراتيجية، مع ضرورة النظر إلى الشراكات العسكرية مع الدول المختلفة، لا سيما باكستان، التي سيكون لها دور أكبر في السياسة الخارجية في محاولة لتعويض نقطة ضعف الدفاع الجوي والطيران.
كما كشفت هذه الحرب -بجلاء- أزمة “الوحدة الإستراتيجية”؛ فلم يكن هناك أي حليف كبير تستطيع طهران الاعتماد عليه ويقف بجانبها في أوقات الأزمات؛ ما سيتبعه بالتأكيد النقاش بشأن اتباع إستراتيجية حكومة الحياد الفعّال، بما يعني إعلان طهران رسميًّا أنها ليست فناء خلفيًّا وحليفًا لأي من القوى العالمية.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن الرهان على تفكيك إيران من خلال رأسها السياسي والديني يبدو أكثر كونه أمنية غربية منه قراءة واقعية للحقائق الميدانية والمؤسسية، فالنظام الإيراني تطور تاريخيًّا ليقاوم سيناريوهات التغيير المفاجئ، وهو ما يجعل اغتيال خامنئي لحظة حرجة، لكنها ليست حاسمة. لن تكون المسألة بلا تداعيات؛ فغياب القائد سيفتح حتمًا صراعات داخل مراكز القوى، وقد يؤجج التوتر بين الأجنحة المختلفة، لكن هذا الصراع سيبقى -على الأرجح- محكومًا بقواعد اللعبة الثورية التي تحكمت في انتقال السلطة منذ أربعة عقود؛ ومن ثم فإن إيران بوصفها كيانًا سياسيًّا- عَقَدي لن تنهار بموت مرشدها؛ بل قد تُنتج نسختها الجديدة من القيادة، أكثر هجومية، وأشد صلابة في مواجهة الضغوط الخارجية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير