يشهد العالم اليوم تحولات جذرية في خريطة التجارة الدولية، حيث تسعى الدول إلى إيجاد مسارات تجارية جديدة تلبي متطلبات الاقتصادات الناشئة، وتعزز التعاون الإقليمي. في هذا السياق، يبرز الممر البحري بين تشيناي (الهند) وفلاديفوستوك (روسيا) كمبادرة طموحة تهدف إلى تعزيز الروابط التجارية بين الهند وروسيا، مع التركيز على منطقة آسيا والمحيط الهادئ. يمتد هذا الممر عبر المحيط الهندي والبحر الياباني، مرورًا بمضيق ملقا، وصولًا إلى ميناء فلاديفوستوك في أقصى شرق روسيا. يُعد هذا المشروع جزءًا من رؤية أوسع لتطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، مع إمكانية إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة البحرية في المنطقة؛ لذا مِن المهم أن نستعرض أهمية الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك، وآليات عمله، والتحديات التي تواجهه، مع تقدير موقف بشأن تأثيره المحتمل في قناة السويس، ومدى إمكانية اعتباره بديلًا حقيقيًّا لها.
بدأت فكرة الممر البحري بين تشيناي وفلاديفوستوك تأخذ شكلًا ملموسًا في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عندما أدركت الهند وروسيا أهمية تعزيز الروابط التجارية المباشرة بينهما. يأتي هذا المشروع في سياق الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، التي تعود جذورها إلى عقود من التعاون السياسي والعسكري. خلال قمة العشرين في عام 2019، أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، إطلاق هذا الممر كجزء من جهود تعزيز الاتصال البحري بين البلدين. يهدف الممر إلى تقليل الاعتماد على المسارات التقليدية التي تمر من خلال مضايق مزدحمة، أو مناطق غير مستقرة جيوسياسيًّا، مع تقديم بديل يعزز الكفاءة الاقتصادية.
يمتد الممر البحري من ميناء تشيناي، وهو أحد أكبر المواني في الهند، عبر المحيط الهندي، مرورًا بمضيق ملقا، ثم عبر بحر الصين الجنوبي والبحر الياباني، ليصل إلى ميناء فلاديفوستوك، الذي يُعد مركزًا لوجستيًّا رئيسًا في الشرق الأقصى الروسي. يُنظر إلى هذا الممر على أنه مكمل لمبادرات أخرى مثل الممر الاقتصادي الهندي- الياباني، ومشروع الممر الاقتصادي الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يربط الهند بأوروبا عبر إيران وروسيا.
يحمل الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك أهمية كبيرة لكل من الهند وروسيا، ويمكن تلخيص دوافعه في عدة نقاط رئيسة؛ أولًا: يسعى الممر إلى تعزيز التجارة الثنائية بين البلدين، التي شهدت نموًا مطردًا في السنوات الأخيرة. تشير التقديرات إلى أن حجم التجارة بين الهند وروسيا بلغ نحو (30) مليار دولار في عام 2024، مع طموحات لرفعه إلى (50) مليار دولار بحلول عام 2030. يُعد الممر البحري أداة حيوية لتحقيق هذا الهدف، حيث يوفر مسارًا أقصر وأكثر كفاءة لنقل البضائع مثل النفط، الغاز الطبيعي، المعادن، والمنتجات الزراعية.
ثانيًا: يسهم الممر في تنويع المسارات التجارية لكلا البلدين، مما يقلل الأخطار المرتبطة بالاعتماد على مضايق مثل مضيق هرمز، أو قناة السويس، تتعرض أحيانًا لاضطرابات سياسية أو أمنية. يوفر الممر للهند وصولًا مباشرًا إلى موارد الطاقة في القطب الشمالي الروسي، ومنها الغاز الطبيعي المسال والنفط، وهي موارد حيوية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة في الاقتصاد الهندي المتنامي.
ثالثًا: يعزز الممر التعاون في مجال الابتكار التكنولوجي والصناعات المتقدمة. تسعى روسيا إلى تطوير منطقة الشرق الأقصى بوصفه مركزًا للصناعات المتقدمة، في حين تطمح الهند إلى تعزيز قدراتها في قطاعات مثل تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية. يمكن للممر أن يسهل نقل التكنولوجيا والخبرات بين البلدين، مما يعزز التنمية المشتركة.
يعتمد الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك على بنية تحتية متطورة تشمل المواني، والسفن، وأنظمة الملاحة. في الجانب الهندي، يُعد ميناء تشيناي مركزًا رئيسًا لتصدير المنتجات الصناعية والزراعية، في حين تُطوَّر موانٍ أخرى مثل موندرا وكاندلا لدعم هذا الممر. في روسيا، يخضع ميناء فلاديفوستوك لعمليات تحديث مكثفة، تشمل توسيع الأرصفة، وزيادة القدرة الاستيعابية لاستقبال السفن الكبيرة.
تتضمن آليات عمل الممر إنشاء خطوط شحن منتظمة بين البلدين، مع التركيز على تحسين الكفاءة اللوجستية. تشير الخطط إلى أن السفن التي تعبر هذا الممر ستتمكن من تقليل زمن الرحلة مقارنة بالمسارات التقليدية عبر قناة السويس، حيث يُتوقع أن تستغرق الرحلة من 20 إلى 24 يومًا بدلًا من (30- 35) يومًا. كما يتم التركيز على استخدام سفن حديثة مزودة بتقنيات صديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الكربونية.
على الرغم من الطموحات الكبيرة، فإن الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك يواجه عدة تحديات قد تعوق تحقيق إمكاناته الكاملة؛ أولًا: تتمثل التحديات اللوجستية في نقص البنية التحتية الكافية في بعض النقاط على طول المسار. على سبيل المثال، تحتاج مواني الشرق الأقصى الروسي إلى استثمارات كبيرة لتتمكن من منافسة المواني العالمية الكبرى. كذلك، فإن مضيق ملقا، الذي يُعد نقطة عبور حيوية، يعاني الازدحام والأخطار الأمنية، مثل القرصنة.
ثانيًا: تشكل الظروف المناخية تحديًا كبيرًا. على عكس قناة السويس، التي تتمتع بظروف مناخية مستقرة نسبيًّا، فإن الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك يمر من خلال مناطق تشهد تقلبات مناخية، مثل الأعاصير في بحر الصين الجنوبي، أو الرياح القوية في البحر الياباني. هذه العوامل قد تؤدي إلى تأخيرات في الشحن، أو زيادة التكاليف التشغيلية.
ثالثًا: هناك تحديات جيوسياسية تتعلق بالتوترات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. يمر الممر عبر بحر الصين الجنوبي، وهو منطقة متنازع عليها بين الصين وعدة دول أخرى، مثل فيتنام والفلبين. أي تصعيد في هذه المنطقة قد يعرض سلامة الشحن للخطر. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجه الهند وروسيا ضغوطًا من قوى دولية أخرى، مثل الولايات المتحدة، التي قد ترى في هذا الممر تهديدًا لمصالحها الإستراتيجية في المنطقة.
تُعد قناة السويس أحد أهم الممرات المائية في العالم، حيث تمر من خلالها نحو (12%) من التجارة العالمية، وهي مصدر رئيس للعملة الأجنبية لمصر. يثير إطلاق الممر البحري تشيناي-وفلاديفوستوك تساؤلات عما إذا كان يمثل تهديدًا حقيقيًّا لقناة السويس، أو مجرد مبادرة مكملة للمسارات التجارية الحالية. لتقييم هذا التأثير، يجب النظر إلى عدة عوامل:
أولًا: من حيث المسافة والكفاءة، يقدم الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك ميزة تنافسية للتجارة بين الهند وروسيا، حيث يقلل زمن الرحلة مقارنة بالمسار عبر قناة السويس. ومع ذلك، فإن هذه الميزة تقتصر على التجارة الثنائية بين البلدين، في حين تظل قناة السويس الخيار الأمثل للتجارة بين آسيا وأوروبا. على سبيل المثال، تستغرق الرحلة من مومباي إلى لندن عبر قناة السويس من 15 إلى 20 يومًا، في حين قد تستغرق الرحلة نفسها عبر مسارات بديلة، ومنها الممر البحري الجديد، وقتًا أطول بسبب المسافة الإضافية.
ثانيًا: تتمتع قناة السويس ببنية تحتية متطورة وتاريخ طويل من الاستقرار التشغيلي. على الرغم من التحديات التي واجهتها، مثل حادثة جنوح سفينة إيفرغيفن في عام 2021، فإن القناة استطاعت استعادة مكانتها بسرعة. في المقابل، يعاني الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك نقصًا في البنية التحتية في بعض النقاط، مما يجعله أقل جاذبية للشركات التي تبحث عن موثوقية عالية.
ثالثًا: تؤدي الاعتبارات الجيوسياسية دورًا حاسمًا. تُعد قناة السويس ممرًا محايدًا نسبيًّا، تديره مصر بموجب اتفاقيات دولية تضمن حرية الملاحة. على النقيض، يمر الممر البحري الجديد عبر مناطق تشهد توترات جيوسياسية، مما قد يثني بعض الشركات عن استخدامه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على هذا الممر قد يعرض الهند وروسيا لضغوط من قوى إقليمية مثل الصين، التي تسعى إلى الهيمنة على بحر الصين الجنوبي.
رابعًا: من الناحية البيئية، تواجه قناة السويس تحديات تتعلق بالانبعاثات الكربونية، لكنها لا تزال تقدم مسارًا أكثر كفاءة من حيث استهلاك الوقود مقارنة بالمسارات البديلة. الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك، على الرغم من إمكانية استخدام سفن صديقة للبيئة، قد يتطلب استهلاكًا أعلى للوقود بسبب المسافة الطويلة، والظروف المناخية القاسية.
في ضوء العوامل السابقة، يمكن القول إن الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك لا يشكل بديلًا حقيقيًّا لقناة السويس في المدى القريب. يركز الممر -على نحو أساسي- على تعزيز التجارة الثنائية بين الهند وروسيا، في حين تظل قناة السويس العمود الفقري للتجارة العالمية بين آسيا وأوروبا. التحديات اللوجستية، والمناخية، والجيوسياسية التي يواجهها الممر تحد من قدرته على منافسة قناة السويس، التي تتمتع بموقع إستراتيجي فريد، وبنية تحتية متطورة.
ومع ذلك، لا يمكن استبعاد إمكانية أن يصبح الممر لاعبًا مهمًّا في المستقبل، خاصة إذا تم التغلب على التحديات الحالية. استثمارات كبيرة في البنية التحتية، إلى جانب استقرار جيوسياسي في المنطقة، قد تجعل الممر خيارًا جذابًا للشركات التي تبحث عن تنويع مساراتها التجارية. في الوقت الحالي، يُعد الممر مكملًا وليس منافسًا مباشرًا لقناة السويس.
يُمثل الممر البحري تشيناي- فلاديفوستوك خطوة طموحة نحو تعزيز التعاون الاقتصادي بين الهند وروسيا، مع إمكانية إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. يوفر الممر فرصًا واعدة لتقليل زمن الشحن، وتنويع المسارات التجارية، لكنه يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالبنية التحتية، والظروف المناخية، والتوترات الجيوسياسية. فيما يتعلق بتأثيره في قناة السويس، يبدو أن الممر لن يكون بديلًا حقيقيًّا في المدى القريب؛ نظرًا إلى المزايا الإستراتيجية والتشغيلية التي تتمتع بها القناة. ومع ذلك، فإن نجاح الممر في المستقبل قد يعتمد على قدرة الهند وروسيا على مواجهة التحديات الحالية، وتحويل هذه المبادرة إلى واقع ملموس يعزز مكانتهما في التجارة العالمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير