انعقد منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي في يونيو (حزيران) 2025 وسط ظروف اقتصادية وسياسية عالمية متشابكة. يسود العالم في هذه المرحلة تباطؤٌ نسبي في النمو، مع تحديات متمثلة في ارتفاع معدلات التضخم، وتنامي النزاعات الإقليمية، واستمرار الضغوط البيئية والتكنولوجية على الحكومات والأسواق. تسعى روسيا من جانبها، مواصلةً لمسار السنوات الأخيرة، إلى إبراز نموذجها الاقتصادي البديل، وتعزيز علاقاتها مع دول الجنوب والشرق بعد العقوبات الغربية المفروضة عليها. تحت شعار “القيم المشتركة- أساس النمو في عالم متعدد الأقطاب”، جمع المنتدى الـ28 نحو عشرين ألف مشارك من 140 دولة، بينهم رؤساء دول، ومسؤولون كبار، ومستثمرون دوليون. شكّل هذا التجمع مسرحًا لاستعراض أولويات التحول الاقتصادي الروسي، ومعالجة موضوعات عالمية، مثل التجارة المتعددة الأطراف، والأمن الغذائي، وتطوير البنى التحتية في آسيا وإفريقيا، إضافة إلى إستراتيجيات القطاع الصناعي والطاقة. وفي مقدمة اهتمامات المتتبعين كان تقييم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للوضع الاقتصادي الروسي وموقف روسيا من الاقتصاد العالمي، إضافة إلى المسارات التنموية المقترحة. كما سلط المنتدى الضوء على مداخلات قادة عالميين -من إندونيسيا والصين والبحرين وجنوب إفريقيا- مما عكس الرغبة في تعزيز التعاون الدولي بعيدًا عن الميول الثنائية الضيقة.
شكلت الجلسة العامة التي شارك فيها الرئيس بوتين الحدث الأبرز للمنتدى. في كلمة شاملة، قدم بوتين تحليلًا للوضع الاقتصادي في روسيا، مؤكدًا أن الاقتصاد الوطني يدخل مرحلة “تعافٍ” مدعومًا بإنتاج محلي متزايد، وتوسع في الشراكات التجارية مع دول آسيا والجنوب العالمي، وقد أكد أن موسكو تستهدف دفع عملية التنويع الاقتصادي والنمو المستدام، من خلال التركيز على الصناعة، والتقنية، والزراعة الوطنية، مع الاستفادة من الاتفاقيات الدولية الجديدة التي أبرمتها روسيا مؤخرًا، مثل اتفاق التعاون الاقتصادي مع البحرين.
كما لفت الانتباه إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا ودول رابطة دول جنوب شرق آسيا بلغ مستوى قياسيًّا (تجاوز 23 مليار دولار في 2024)؛ مما يعكس توجهًا واضحًا نحو تعويض تراجع الأسواق التقليدية باتجاه الشراكات الآسيوية.
على المستوى الدولي، عرض بوتين رؤيته للاقتصاد العالمي في ظل صياغة نظام مالي جديد متعدد الأقطاب، وانتقد بشدة ما وصفه بالسياسات الاقتصادية العدوانية لبعض الدول الغربية، ودعا إلى رفض الحروب التجارية والحمائية، مشددًا على أهمية بناء نظام تجاري دولي عادل ومتوازن، وأوضح أن روسيا تدعم التعاون المتعدد الأطراف والحوار بين العواصم المختلفة، في حين ترفض الهيمنة الأحادية، وذلك ضمن إطار شراكات إستراتيجية تحكمها قيم المساواة والاحترام المتبادل. كما ركز في كلمته على معوقات اقتصادية واضحة نتيجة للعقوبات، مبرزًا قدرتها على دفع الاقتصاد الروسي إلى التكيّف مع التحديات باستخدام مواردها الداخلية، وتحويل مسار التجارة إلى أسواق جديدة. وأشار إلى أن من أولويات الحكومة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع الابتكار التقني، بما يضمن رفع جودة النمو الاقتصادي الروسي .
تطرق بوتين كذلك إلى القضايا المالية والنقدية، مبينًا حاجة الاقتصاد الروسي إلى تمويل نابع من تحفيز الاستثمار المحلي. وفي هذا السياق، سلط خبراء الاقتصاد المشاركون الضوء على مخاطر ارتفاع أسعار الفائدة وتأثيرها في حدة تباطؤ النمو؛ إذ توقع مسؤول في أكبر بنك روسي نمو الاقتصاد بوتيرة متوسطة (بين 1 و2 في المئة لعام 2025)؛ مما يتطلب سياسات نقدية أكثر مرونة لمنع “تبريد” مفرط. ولفت بوتين إلى أن البنك المركزي سيوازن بين كبح التضخم وتعزيز الانتعاش الاقتصادي، في حين نوّه بقوة الروبل الذي صعد صعودًا كبيرًا هذا العام بفضل صادرات الطاقة، والسياسات المالية؛ وبذلك عرضت هذه المداخلة تحليل الوضع الراهن للاقتصاد الروسي من منظور القيادة السياسية، مع طرح رؤى بشأن المراحل القادمة للنمو، وأكدت دعم توجهات الحكومة نحو مزيد من التكامل مع الاقتصادات الناشئة، وتعزيز دورة رأس المال الوطنية.
شهد المنتدى كلمات لعدد من القادة والمسؤولين من دول مشاركة بارزة، جميعها ركّزت على أبعاد اقتصادية، وتعاون متعدد الأطراف، فقد أكد الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو -في مداخلته- حرص بلاده على تعميق الشراكة مع روسيا ودول الـ”بريكس”، وشكر روسيا على دعمها لعضوية إندونيسيا في مجموعة بريكس، مؤكدًا أهمية تفعيل اتفاقيات التجارة الحرة (خاصةً مع الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي) كوسيلة لتوسيع الأسواق أمام السلع الإندونيسية والروسية على حد سواء، ووصف منتدى بطرسبورغ بأنه منصة أساسية لتعزيز التكامل الاقتصادي في الجنوب العالمي، مشددًا على دور إندونيسيا في هذا المسعى.
أما دينغ شيويه شيانغ، نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، فألقى كلمة رسمية دعا فيها إلى تعزيز “القيم المشتركة” كقاعدة للتعاون الاقتصادي، وأوضح أن الصين تنظر إلى المنتدى بوصفه منصة مهمة لبحث حوكمة الاقتصاد العالمي، وتعزيز التوافق الدولي بشأن التنمية، وشدد على استمرار الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع روسيا في العصر الجديد. وأضاف أن بكين تأمل أن يترجم التعاون مع روسيا في نتائج ملموسة تخدم التنمية والنمو لكلا البلدين، مع تأكيده أهمية الاقتصاد المفتوح، والعولمة الشاملة المفيدة، لدفع عجلة النمو العالمي.
ومثّل ناصر بن حمد آل خليفة، مستشار الأمن الوطني البحريني، البوابة الخليجية للمؤتمر، وكان حضور البحرين في مقدمة الوفود العربية، إذ جاءت المملكة ضيف شرف للمنتدى، وقدمت جناحها الوطني للترويج لبيئتها الاقتصادية المتطورة. ورأى محللون أن الوفد البحريني، الذي ضم كبار مسؤولي المالية والطاقة والبيئة، سعى إلى فتح مجالات استثمارية جديدة مع روسيا. ونُقل عن الجانب الروسي حرصه على إقامة شراكات متوازنة مع دول الخليج؛ فقد أكّد المسؤولون الروس أن الاقتصاد الروسي بحاجة إلى تعزيز الروابط مع دول المنطقة، خاصة في مجالات الطاقة والبتروكيماويات. في هذا الإطار، أعلن أحد المسؤولين (نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك) أن حجم التجارة مع السعودية تضاعف أضعافًا في الربع الأول من عام 2025، ونُفِّذَت عشرات المشروعات الاستثمارية المشتركة، في حين أشارت تحليلات أخرى إلى اتساع فرص التعاون الصناعي والزراعي بين روسيا والبحرين كجزء من توجّه أوسع نحو الشراكة مع دول آسيا والمحيط الهادئ.
القارة الإفريقية حضرت كذلك في المنصة، من خلال نائب رئيس جنوب إفريقيا بول ماشاتيل، الذي شارك بوفد كبير يتناول فرص التعاون مع روسيا. وقد أتى دور جنوب إفريقيا في المنتدى تجسيدًا للميثاق المتبادل بين البلدين، حيث أكد بوتين -في لقاء ثنائي مع ماشاتيل- قوة الشراكة الإستراتيجية بين موسكو وبريتوريا، المبنية على الاحترام المتبادل، والاهتمامات المشتركة.
وشارك القادة من كلا البلدين في مؤتمر حوار أعمال روسي- جنوب إفريقي خلال المنتدى لتعزيز العلاقات التجارية. كما صرّح مسؤولون أفارقة بأن منتدى بطرسبورغ يمثل منصة حيوية لتعزيز التجارة والاستثمار بين روسيا ودول القارة، مشيرين إلى أن روسيا يمكنها الاستفادة من الإمكانات الضخمة لإفريقيا في مجالات الاقتصاد والتعليم والتدريب لتعزيز الشراكات الطويلة الأمد. تتفق جميع هذه المداخلات على أهمية توسيع آفاق التعاون المتعدد الأطراف، وتنويع العلاقات الاقتصادية بعيدًا عن الضغوط الثنائية الجانب التقليدية، والتركيز على بنود تنموية تشمل الصناعة، والتكنولوجيا، والنمو البشري في الدول النامية.
استغل بوتين المنتدى لعقد سلسلة لقاءات ثنائية مع كبار المسؤولين لتعميق الحوار بشأن قضايا ذات أثر اقتصادي؛ فعلى هامش المنتدى، التقى بوتين بناصر بن حمد آل خليفة، مستشار الأمن الوطني البحريني، حيث ناقشا سبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين، لا سيما في مجالات الطاقة والاستثمار الصناعي. كما أجرى بوتين محادثات مع دينغ شيويه شيانغ، نائب رئيس وزراء الصين، أكدا خلالها أهمية تفعيل الاتفاقيات الكبيرة، والتنسيق في سياسات التجارة والاستثمار بين البلدين، بما يسهم في تسريع مشروعات الشراكة الإستراتيجية الشاملة. وبالموازاة، شهد المنتدى اجتماعًا بين نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، والأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للبترول “أوبك” هيثم الغياث، حيث ركز النقاش على استقرار أسواق الطاقة. وأشار نوفاك -في تصريح لاحق- إلى أن سوق النفط العالمي يتمتع بإمدادات كافية رغم التصعيد في الشرق الأوسط، وأن مجموعة (أوبك+) مستعدة للتأقلم بمرونة مع أي تحولات في الطلب أو العرض للحفاظ على توازن الأسعار. تؤكد هذه اللقاءات الأجواء التعاونية للمنتدى؛ فقد أسهمت في تهدئة المخاوف بشأن الإمدادات النفطية، وفي فتح قنوات تواصل مباشرة بين روسيا وشركائها بخصوص ملفات الطاقة والتجارة. كما عززت المناقشات الثقة من خلال بحثها في تحالفات جديدة على مستوى الأطر الاقتصادية (مثل اتفاقية التجارة الحُرة مع البحرين)؛ ما يعكس سعي روسيا إلى توسيع محيط شركائها الاقتصاديين.
برز المنتدى بوصفه مركزًا حيويًّا لرصد توجهات السوق والطاقة؛ فمن جهة، أسهمت المعطيات الاقتصادية الجديدة في لفت الانتباه لديناميات اقتصادية لافتة، إذ شهدت التجارة الروسية مع دول آسيا -مثل الصين والهند والدول الآسيوية- نموًّا متسارعًا، في حين انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الغرب انخفاضًا حادًّا نتيجة للعقوبات. وفي جلسات مخصصة، حذّر اقتصاديون روس من “تبريد” محتمل للاقتصاد في ظل أسعار فائدة مرتفعة، في حين أُشير إلى قوة الروبل الحالية. فوفق تقديرات مسؤولين مصرفيين، قد يتباطأ نمو الناتج المحلي الحقيقي إلى نحو واحد إلى اثنين في المئة هذا العام ما لم تُخفض تكاليف الاقتراض، ودعا الخبراء إلى سياسات نقدية محفّزة لاستئناف مسار النمو وتجنب الركود، معتبرين أن أسعار الفائدة الحالية قد تثبط الاستثمار.
أما في محور الطاقة، فقد شغلت النقاشات تحديات العرض العالمي للنفط والغاز بسبب التوترات الجيوسياسية، وأعلن الجانب الروسي -مرارًا- أن موسكو تعتمد على سوق نفط عالمي ضخم وثابت نسبيًّا، وأن “أوبك+” هي آلية فعّالة لضبط التوازن بين العرض والطلب. وفي الوقت نفسه، طرح المشاركون في المنتدى موضوعات التحول نحو الطاقات المتجددة والتنمية المستدامة، فقد استعرضت الشركات الروسية والصينية نماذج في مجال السيارات الكهربائية، والطاقة النظيفة، ضمن معارض تقنية، في مؤشر إلى اهتمام تسريع الابتكار التقني. كما تردد في لقاءات بشأن العوامل المناخية، التي يتوقع أن تشكل سياسات اقتصادية طويلة الأجل على المستوى العالمي.
من جهة أخرى، حاول المنتدى إرسال رسائل تطمينية للأسواق؛ إذ ظل تبادل الآراء بشأن أسعار الصرف واستقرار الميزان التجاري حاضرًا. وقد نُقل عن مسؤولين روس إشارتهم إلى أن قيمة الروبل بدأت بالعودة إلى مستويات توازنية نسبيًّا بما يتماشى مع أسعار الطاقة، رغم التحديات اللوجستية والعقوبات. وفي ختام المنتدى، بدا واضحًا أن الرسالة الأساسية الموجهة إلى الأسواق كانت سعي روسيا إلى ضبط السياسات الداخلية (ماليًّا ونقديًّا) لتفادي تقلبات حادة، مقابل تعزيز ربط النمو الاقتصادي بأسواق جديدة، وبموارد الطاقة الوطنية.
خلاصة القول أن منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي لعام 2025 جاء ليؤكد الاتجاهات نفسها التي حدّدتها القيادة الروسية في السنوات الأخيرة: تمتين أواصر الشراكات مع دول الجنوب والشرق، وتسليط الضوء على قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود رغم العقوبات، وتقديم مسارات تنموية جديدة تعتمد على التكنولوجيا والإنتاج المحلي. وقد عبّر المنتدى عن رغبة واضحة في توجيه رسالة للعالم مفادها أن روسيا تواصل الاندماج في نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب، يتجاوز سيطرة الأطراف التقليدية. والفرص التي طرحها المنتدى تتجسّد في تعميق التعاون ضمن تجمعات مثل “بريكس”، ومنظمات الطاقة الدولية، وفي فتح آفاق استثمارية جديدة بالشراكة مع الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا.
ومع ذلك، ظلت التحديات كبيرة: يحاصر الاقتصاد الروسي شعور بالانكفاء بسبب انخفاض التدفقات الأجنبية، وفرص استيراد التقنيات الغربية، كما أن استمرار الصراع في أوكرانيا والتوترات في الشرق الأوسط يلقيان بظلالهما على توقعات النمو. ولم تستطع الجلسات أن تخفي الأسئلة عن كيفية تجاوز ضغوط التمويل، ومنحنى النمو البطيء الحالي. لكن بالمقابل، تولّد عن المنتدى حوار مثمر بشأن إيجاد حلول عملية، من بينها خفض تكاليف الاقتراض، وتعزيز سلاسل التوريد مع الدول الصديقة. شكّل منتدى بطرسبورغ 2025 -في مجمله- انعكاسًا لرؤية موسكو لاقتصاد قائم على التنويع، والاستثمار في العنصر البشري، والتواصل مع الشركاء الجدد، وهي رؤية ستبقى مرشدًا لسياساتها الاقتصادية في المرحلة المقبلة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.