مقالات المركز

لماذا لا تقاتل روسيا إلا على حدودها؟


  • 18 يونيو 2025

شارك الموضوع

يتساءل الكثير من العرب عن روسيا: أين هي؟ وما هو دورها فيما يحدث بين إسرائيل وإيران؟
وقد طُرح هذا السؤال سابقًا في ظل حرب إسرائيل على قطاع غزة.
وقد يكون من المفيد إجراء مراجعة سريعة للمنطلقات الروسية في سياساتها الخارجية، بما يُعين على فهم مواقفها بشكل أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال أو ردود الأفعال الغاضبة المبنية على العواطف.

روسيا بلد ضخم المساحة، هي البلد الأكبر على مستوى العالم بمساحة تقدر بـ (17,100,000 كم²)، وهي بلد أوراسي أي يقع جزء منه في قارة أوروبا والجزء الأكبر في آسيا، ولديها ربما ثاني أو ثالث أكبر مخزون مياة عذبة في العالم، ولا تعاني من نقص في الأراضي بل أزمتها الحقيقية عدم قدرتها على اعمار أراضيها حيث يتركز غالبية السكان في الجزء الأوروبي، ولا تعاني من حاجة للموارد بل لديها من الموارد الغير مستغلة ما يفوق كل ما تنتجه ربما بمئات المرات، وعليه لا يوجد أي مبرر أو حاجة روسية للتوسع الخارجي للحصول على أراضي اضافية أو خلق نفوذ لأجل الموارد الطبيعية، وتعاني من عدد سكان قليل للغاية مقارنة بمساحتها (فقط 145 مليون نسمة)، وتتناقص بشكل مستمر.
 
هاجس روسيا الأمني يكمن في كونها أرض منبسطة، ويسهل للغاية غزوها من الغرب، وتحديدًا من ناحية جورجيا في جنوب القوقاز وأوكرانيا في شرق أوروبا، والأخيرة بوابتها نحو أوروبا لو تحولت لدولة معادية أو حتى صديقة لكنها موالية للغرب فقد أصبحت روسيا بلد أسيوي أكثر منه أوروبي، لذا هي بحاجة لحماية نفسها والحفاظ على الجزء الأوروبي من هويتها أن تكون جورجيا وأوكرانيا جزءا منها أو تحت هيمنتها المباشرة والكاملة والغير منقوصة، ولذلك استحوذت عام 2008 على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا وموجودة الآن في أوكرانيا.
 
تعاني روسيا من أزمة أخرى قد ترقى للخطر الوجودي من ناحية الشرق الأقصى حيث تكمن ثرواتها الطبيعية اللامتناهية في ظل عدد سكان قليل للغاية، وبنية تحتية محدودة، وسبل عيش ومناخ لا يشكل أي جاذبية للاستيطان مقابل جار صيني قوي اقتصاديا وعسكريا ولديه عدد سكاني مهول من الذكور مقابل (كل 100 أمرأة روسية مقابلها 88 رجل).
 
في ظل هذه الأوضاع، تتمثل أولوية روسيا فيما تسميه “الجوار القريب” أو “المجال ما بعد السوفيتي”، في بلدان البلطيق، وجنوب القوقاز، وآسيا الوسطى، وأوكرانيا، وبيلاروس، ومولدوفا، لتتوسع فيه ضمانًا لوجود منفذ مفتوح على أوروبا، وتأمينًا لنفسها، وتحقيقًا لريادتها وهيمنتها الثقافية، وخلق توازن مع أوروبا التي، من المفارقة، توحدت عبر صيغة الاتحاد الأوروبي عام 1993، بينما تحولت الصين إلى قوة سكانية واقتصادية جبارة بالتزامن مع تفكك الاتحاد السوفيتي وضعف روسيا. وهي، أي روسيا، في المنتصف بينهما، أضعف اقتصاديًا، ومهددة عسكريًا وديمغرافيًا، وكل نضالها الحالي يتركز في تأمين هذه المساحة، وإقناع أوروبا أو أمريكا بأن تطلق يديها في هذا الفضاء الذي تعتبره حقًا لها وجزءًا لا يتجزأ من إرثها، مع ضمان مصالح الغرب، ولكن من تحت مظلتها.
 
أي نفوذ روسي خارج هذه المناطق غرضه إما تحقيق مكاسب تكتيكية لذا نجدها عندما يجد الجد غير مستعدة لتقديم أي تضحية وتنسحب بسهولة أو لخلق مشكلات للغرب لمقايضته على مناطق نفوذها التقليدية، كما أن الاتحاد الروسي، وليس “روسيا الاتحادية” وهو الاسم الرسمي للدولة، ليس الاتحاد السوفيتي، فلا أيديولوجية خاصة لديه، ولا تصور مختلف عن الغرب في الجوهر يقدمه بينما كان السوفيت لديهم عقيدة سياسية واقتصادية واجتماعية بغض النظر عن رأيك فيها سلبا أو ايجابا لكنها كانت تدعي أنها تمثل قيم بديلة عن الغرب بينما روسيا الحالية تدعي أنها تمثل جوهر الحضارة الأوروبية الغربية التقليدية التي تخلى عنها لصالح القيم الليبرالية المتطرفة، لذا موسكو التي كانت يوما ما عاصمة لما تسمى “التقدمية” والقيم “الاشتراكية” تقدم نفسها اليوم كعاصمة للقيم “المحافظة”، كذلك تتبع روسيا الديمقراطية التمثيلية الغربية، واقتصاد السوق الغربي بغض النظر عن طريقة التطبيق ومحاولة تقديم تفسيرات تبدو متمايزة من قبيل “الديمقراطية السيادية”.
 
بناءً على ما سبق، سوريا تمثل في المعادلة الروسية مجرد ميناء على البحر المتوسط يربط أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول عبر المضايق بالبحر الأبيض المتوسط، واثبات وجود أمام الأسطول الأمريكي السادس، وتدخلها العسكري كان يهدف في الأساس للتخلص من المقاتلين القادمين من أراضيها وبلدان الجوار خشية العودة إليها، وخلافًا لذلك سوريا لا تمثل لها أي قيمة حقيقية تدفعها للنضال من أجلها، ولو وجدت من يضمن لها البقاء في طرطوس فهي مستعدة للتعامل معه، وعلى هذا الأساس حصلت على تعهدات بألا يتعرض لوجودها أحد وعليه تخلت عن الأسد.
 
في الساحل الأفريقي المشروع الروسي قائم على الحصول على مكاسب اقتصادية، وقطع الطريق أمام مشروع خط الغاز النيجيري الذي يمكن أن يشكل بديل لأوروبا، وضمان هيمنتها عبر النيجر على سوق اليورنيوم، وإزعاج أوروبا وتحديدا فرنسا في منطقة نفوذ تقليدية لباريس لأن الأخيرة تدخلت في مناطق نفوذ موسكو التقليدية.
 
في القرن الأفريقي تبحث روسيا عن فرص تصدير السلاح، ووجود على البحر الأحمر لوصله مع قاعدة طرطوس، للوصول للمحيط الهندي.
 
في الخليج العربي، أولوية روسيا التوافق على تقاسم النفوذ في أسواق الطاقة، وضبط الأسعار لضمان عدم تكرار التنافس السلبي كما حدث في ما تسمى “وفرة النفط” عام 1986، مع الحصول على بعض المكتسبات الاقتصادية.
 
روسيا صراعها على أمريكا لا مع أمريكا، أي على كسب الأمريكان في صفها بعدما فقدت الأمل في أوروبا، لعقد صفقة مفادها “دعونا نقسم مناطق النفوذ فيما بيننا وسأقدم لكم فرص اقتصادية لا تعوض بدلاً من الصراع الذي لا طائل منه، وفي المقابل سأحترم مناطق نفوذكم ولن أتدخل فيها” معادلة شبيهة بما حدث في مؤتمر يالطا عام 1945، عندما تم تقاسم النفوذ بين السوفيت والأمريكان، أما الحديث عن كون الروس في حرب أو صراع مع أمريكا لأجل التعددية القطبية أو لأجل نظام عالمي جديد فهو حديث دعائي تماما كحديث الولايات المتحدة عن الديمقراطية وحقوق الانسان والنظام الدولي المبني على القواعد.
 
من ناحية الأمن تعتقد روسيا أن الخطر عليها من جورجيا وأوكرانيا، وتوسع حلف الناتو شرقا، وأن أمانها في الهيمنة على محيطها مع وجود سلاح نووي وتكتيكي وأسلحة تقليدية متقدمة، وعليه لا سوريا ولا ليبيا ولا إيران ولا غيرها يمثل خشية أو قلق على مستقبلها وفق تصورات الكرملين الحالية بغض النظر عن مدى صحة هذا التصور من عدمه.
 
هل معنى ذلك أن روسيا بلد غير مهم لنا كعالم عربي؟
 
لا، روسيا مهمة جدا لأنها “عكاز” يمكن الاستناد عليها في أوقات الأزمات مع الغرب وما أكثرها، وعامل ردع في لحظات التعرض للضغوط الغربية، وورقة يمكن التلويح بها، والتنسيق معها مهم للدول العربية المنتجة للغاز والنفط، ويمكن الحصول منها على بعض الأسلحة التي قد تشكل عامل توازن تحديدا الدفاع الجوي ومضادات المدرعات، وربما “مقاول” أمني في بعض المناطق ذات الفرص الأقتصادية التي يمكن تحقيق مكاسب سريعة منها “الساحل الأفريقي نموذجا”، كما أن لديها موقف صارم تجاه الجماعات الإسلاموية المسلحة المخترفة بكافة فروعها من المخابرات الغربية سواء بعلمها أو كونهم مغفلين مفيدين، كما أنها فرصة استثمارية عظمى في مجال المعادن النادرة والثروات الطبيعية الأخرى، والعلاقة معها ضرورية لمن يريد التوسع الاستثماري في منطقتي جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.
 
الموضوع طويل جدا، لكن بشكل مختصر فهم هذه النقاط يعين على فهم ربما أوسع للسياسة الروسية، وعدم الوقوع في فخ التمنيات ثم خيبات الأمل المبنية على تصورات لم تدعيها روسيا نفسها.
 
في المقابل، أمريكا بحاجة إلى الموارد، وفي “العالم الجديد” يفصلها محيطان عن “العالم القديم”، فلكي تكون عاملًا فاعلًا فيه، لا بد لها من قواعد عسكرية وحاملات طائرات ضخمة متنقلة، وهي ترى موقعها في زعامة العالم. بينما روسيا “إمبراطورية قابعة” ترى أن مستقبلها وطموحها لا يتعدى حدود هذه الإمبراطورية الأوراسية الشاسعة في قلب العالم القديم، مع موارد ضخمة جدًا، وإدراك — من خلال التجربة السوفيتية — أن الزعامة العالمية أو المنافسة عليها يترتب عليها تكاليف لا تستطيع الوفاء بها. وعليه، لا مجال لمقارنة ردود أفعالها مع حلفائها بردود أفعال أمريكا، وهو ما ينبغي للعرب وضعه في الحسبان.

أخيرًا، لن تقاتل روسيا نيابةً عن العرب وبقية دول المنطقة في معارك لا هم أنفسهم مستعدون للتضحية فيها، ولا العائد المنتظر منها يمثّل شيئًا يُذكر مقارنةً بما تحصل عليه أمريكا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع