تقدير موقف

على حافة الانفجار.. هل تتحول المواجهة الإسرائيلية- الإيرانية إلى حرب استنزاف كبرى؟


  • 17 يونيو 2025

شارك الموضوع

اليوم الثلاثاء، 17 يونيو 2025، هو خامس أيام المواجهة الإسرائيلية الإيرانية المفتوحة التي أشعلتها الضربة الإسرائيلية لمواقع نووية وعسكرية ومدنية داخل العمق الإيراني، ورد طهران عبر ضربات صاروخية متصاعدة وجديدة تمامًا على المشهد الشرق أوسطي منذ نشأة الكيان.

وسط هذا التصعيد، وبعد مجيء الرد الإيراني المقدر، تتابين مواقف القوى الكبرى التي يمكنها أن تتدخل أو تنجر إلى النزاع، وتتصاعد المخاطر الإستراتيجية، في حين تظل الموارد العسكرية لطرفي القتال محدودة بما يجعل الحرب الطويلة غير مرجحة -إلا في حالة التدخل الخارجي الواسع- لكن ذلك يفتح كذلك نافذة لوساطة دبلوماسية محفوفة بالتعقيدات، لكن ذكرها بات يتعالى في اليوم الخامس من الحرب.

وسأحاول خلال الأسطر التالية تناول مواقف القوى الكبرى المؤثرة من هذه الحرب، ومن منها يمكنه التدخل الفعلي، أو لديه النية الحقيقة أو المصلحة -لأكون أكثر واقعية- لوقف الحرب قبل انزلاقها إلى نطاق أوسع يصعب علينا تخيل عواقبها الوخيمة.

وسأبدأ بالموقف الروسي، حيث أقيم وأتابع من كثب ما يقال، وما يحدث..

يصف الكرملين، وتصف موسكو وتصنف الضربات الإسرائيلية بـ”غير المشروعة”، وتراها تهديدًا للاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، أجرى بوتين مكالمتين هاتفيتين مع نتنياهو وبزشكيان يوم 13 يونيو، وبعد ذلك مع ترمب، ثم مع أردوغان، وعرض جهود الوساطة.

وأرى في ذلك محاولة من روسيا لتقديم نفسها قوة ضامنة للحوار، وتنسق لهذا الغرض دبلوماسيًّا مع الصين، كما تسعى إلى إحياء المسار التفاوضي بشأن الملف النووي عن طريق قنوات غير غربية، لإزاحة النفوذ الأمريكي المحتكر لهذا المسار؛ ما قد يمثل عودة قوية لبوتين إلى السياسة الدولية والوساطة رغمًا عن الممانعة الأوروبية، وكسر عزلة بوتين وروسيا نهائيًّا منذ انطلاق حرب أوكرانيا.

وتأكيدًا لهذا الموقف الروسي، أكد سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في تصريحات لافتة، أن إيران بقصفها إسرائيل تتصرف ضمن نطاق الحق في الدفاع عن النفس، وأن حسابات القيادة الإسرائيلية خاطئة، ولن تحقق أهدافها من مغامرة ضرب إيران وإشعال الحرب.. وهذا التصريح الرسمي الروسي، يعكس معرفة روسية بأن مغامرة نتنياهو حتى الآن لم تنجح، ويبدو أنها لن تنجح؛ ما يجعلنا نفهم أن المشروع النووي الإيراني لا يزال حيًّا، وأن قرارات نتنياهو ستؤدي تاريخيًّا إلى نتائج عكسية.

واشنطن: بالطبع موقفها واضح كالعادة، دعم مطلق لإسرائيل تحت شعار حق الدفاع الإسرائيلي عن النفس، وكأن العالم لم يرَ مَن بدأ بالقصف. ومع ذلك، إذا نظرنا بموضوعية إلى الموقف الأمريكي، فسيتضح لنا أن واشنطن لم تبارك صراحةً ضربات نتنياهو الاستباقية، وحتى الآن تمتنع عن التدخل المباشر الواسع.

وفي الوقت نفسه، نرى التابع البريطاني أيضًا يسجل غيابًا نسبيًّا، ويظهر ذلك -في رأيي- من واقع فشل نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي في اعتراض بعض الضربات الإيرانية، وهو ما يكشف هشاشة -نسبية طبعًا- لدفاعات الكيان دون الإسناد الغربي، عندما يتعرض لهجمات من خصم أقوى، والمقارنة هنا مع صواريخ حزب الله وحماس.

حتى الآن لا أستطيع تفسير هذا الموقف الأمريكي إلا أنه يأتي في سياق تعويل واشنطن على الحرب الخاطفة التي تنجح فيها إسرائيل سريعًا في تحقيق الأهداف الرئيسة، ولا تنجر إلى حرب استنزاف، تكون هي مضطرة إلى التورط فيها، وهو ما يبدو أن ترمب لا يرغب فيه؛ لذلك خفض مشاركة واشنطن في الاعتراضات الدفاعية.

الصين: لا يزال موقفها كما هو منذ التحليل السابق، فقد دعت بكين إلى وقف فوري لإطلاق النار.. المستجد فقط هو تأكيدها استعدادها لدعم الحلول السياسية في إطار الأمن الجماعي، بعد الاتصالات والمشاورات مع الكرملين.. وفي الوقت نفسه تنسق مع طهران لضمان استمرار تدفق الطاقة، وهو أمر بالغ الأهمية لاقتصادها.

 أردوغان وتركيا -كما أشرت سابقًا- يسعى إلى طرح أنقرة بوصفها وسيطًا إقليميًّا محايدًا، في ظل مواصلة احتفاظها بعلاقات عملية مع كل من طهران وتل أبيب. كما يوازن أردوغان بين إدانة التصعيد والدعوة إلى ضبط النفس، وهو يستفيد بذلك من تراجع الوزن الأمريكي التقليدي في هذا الملف.

وفي هذا السياق لا يبشر المشهد العسكري النووي في اليوم الخامس من الحرب بخير، فهو لا يخبرنا إلا بتوازن هش تحت النار التي تطلق من الجانبين، فإسرائيل لا تتراجع عن استهداف المنشآت النووية الإيرانية مع ما لذلك من خطورة شديدة، وإيران تظهر استعدادًا واضحًا لمواصلة القتال، وكل ذلك يحدث دون مؤشرات حقيقية على تخفيف التصعيد.

وتخبرنا البيانات التي يمكن الاعتماد عليها، دون إمكانية التحقق منها تمامًا بالطبع، أن إسرائيل استهدفت حتى الآن أكثر من 250 هدفًا في الداخل الإيراني، لكنها مع ذلك لم تتمكن حتى الآن من ضرب المنشآت النووية الأكثر تحصينًا، والأهم بالنسبة للمشروع النووي الإيراني، وأقصد منشآت فوردو وأصفهان، الموجودة على عمق مئات الأمتار في تضاريس صخرية صلبة.

وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم مما كان يقال لنا عن فاعلية الدفاعات الإسرائيلية، فإن بعضها فشل في اعتراض الضربات الإيرانية النوعية؛ ما يعكس إمكانية اختراقها أمام الصواريخ الباليستية والمجنحة، فضلًا عن الثقيلة التي لم تستخدمها إيران بعد.

وإذا نظرنا إلى الأرقام المتاحة التي  يمكن الأخذ بها، فإنها تشير إلى أن الترسانة الإيرانية المتبقية من الصواريخ تقدر بعدة مئات. ومع معدل الإطلاق الحالي -ثلاث موجات تقريبًا يوميًّا حتى الآن بنحو 60 صاروخًا كل يوم- فإن هذا المخزون الإيراني قد لا يصمد أكثر من بضعة أسابيع؛ لذلك فإن هناك حاجة لتكون الضربات دقيقة وبنسبة إصابة وتدمير كبيرة حتى تحقق الهدف.

إسرائيل دخلت العملية وهي تعتمد سيناريو الحرب الخاطفة، وكان هدفها التكتيكي الأول هو تقويض الدفاع الجوي الإيراني، الذي يعتمد جزئيًّا على أنظمة قديمة، ومع ذلك توجد لدى إيران بعض الأنظمة الروسية الحديثة من طراز إس-300، لكنها منتشرة فقط حول المنشآت الحيوية.

كما لم تفلح إسرائيل حتى الآن في “قطع رأس القيادة الإيرانية” كما فعلت مثلًا مع حماس وحزب الله. وقد أكدت التسريبات خلال اليومين الماضيين سعي نتنياهو إلى اغتيال المرشد الإيراني بعد قتل مستشاره الأقرب، وتصفية القيادات السياسية، وهو ما كان من شأنه أن يشل الدولة بالفعل لو حدث.

أما اغتيال القيادات العسكرية، فقد أثبتت المؤسسة العسكرية الإيرانية مرونة لافتة في استجابتها لهذه المسألة، حيث تمكنت من استبدال القيادات المستهدفة سريعًا.

نقطة أخرى لافتة تستحق الإشارة إليها، وهو ما أعلنته الترويكا الأوروبية (برلين وباريس ولندن) -وسط تبادل الضربات الإيرانية الإسرائيلية- من استعدادها لاستئناف التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي، وهو ما ردت عليه طهران بإعلانها الاستعداد لتوقيع اتفاق يضمن عدم وجود أسلحة نووية، بشرط عدم المساس بحقوق طهران النووية السلمية المشروعة.

وهذا التطور يأتي في ظل تقرير حديث للوكالة الدولية للطاقة الذرية يفيد بامتلاك إيران نحو 400 كغم من اليورانيوم المخصب بمستويات تتجاوز الحاجة إلى الطاقة السلمية.

وفي المقابل ترفض طهران حاليًا التعاون مع الوكالة، بعد ظهور معلومات -وإن كانت غير مؤكدة- عن أن بعض مفتشيها عمل لصالح إسرائيل، والأهم، يطالب البرلمان الإيراني الآن بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار.

وبناء على كل ما تقدم، يشير التقدير الذي أستنتجه إلى أننا أمام عدة سيناريوهات خلال الفترة المقبلة:

1- استمرار المواجهة العسكرية المحدودة خلال أسابيع، يتخللها استنزاف متبادل للقدرات الصاروخية والدفاعية للطرفين.

2- فشل كلا الطرفين في تحقيق حسم إستراتيجي -وأعود هنا إلى تصريحات ريابكوف التي فهمت منها أن نتنياهو واهم إذا اعتقد أنه سينجح في تحقيق ما يعلنه من أهداف من عدوانه على إيران- وهذا السيناريو سوف يفتح الباب أمام مبادرات دبلوماسية، تقودها موسكو أو قوى وسيطة أخرى، مثل تركيا أو قبرص مثلًا- خاصةً بعد تصريح الرئيس القبرصي اليوم بأن إيران طلبت نقل رسائل عبر نيقوسيا إلى إسرائيل، على الرغم من النفي الإيراني اللاحق لما جاء في هذا التصريح. وقد قرأتُه على أنه بداية اختبار لجدوى الوساطات غير التقليدية في هذا النزاع.

3- إسرائيل قد تستهدف منشآت النفط والغاز الإيرانية، مثل حقل جنوب فارس (المعروف قطريًّا باسم حقل الشمال)، ومصنع عسلوية؛ في محاولة لشل الاقتصاد الإيراني.

4- احتمال استخدام إيران صواريخ مجنحة (كروز) متطورة لم تكشف عنها سابقًا، تحدث تغييرًا يزيد الضغوط على الدفاعات الإسرائيلية.

وأوصي بما يلي لمن يهمه الأمر من بني جلدتنا:

1- يا بني أمتنا ادعموا مسارًا تفاوضيًّا غير غربي، يضمن أمن المنطقة، ويحترم سيادة دولها.

2- ضرورة الدعوة والإصرار الجدي على تحييد منشآت الطاقة والبنى التحتية من العمليات العسكرية لتفادي الانهيار الاقتصادي.

3- تعزيز القنوات الخلفية بين إيران وإسرائيل عبر وسطاء غير تقليديين، مثل قبرص أو عمان، أو حتى تحت مظلة الأمم المتحدة.

4- لا بد من إشراك دول الخليج في أي تسوية؛ لضمان استقرار المعادلات الإقليمية.

وفي الختام، من واقع ما لدينا من معطيات حتى اللحظة، يمكنني القول إن الصراع الإسرائيلي الإيراني الذي اندلعت مرحلته الساخنة غير المسبوقة يوم الجمعة الماضي، دخل الآن -في رأيي- مرحلة مركبة من التوازن بين التصعيد والسيطرة.

ورغم ضراوة المعركة، فإن كلا الطرفين يواجه قيودًا موضوعية في الموارد العسكرية، وذلك من واقع ما اطّلعت عليه من تقارير، وهذا الأمر يجعل الانفراج السياسي بعد أسابيع من التصعيد احتمالًا واقعيًّا، بشرط تفعيل دبلوماسية حقيقية وغير تقليدية تعيد صياغة قواعد الاشتباك النووي والإقليمي في المنطقة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع