تقدير موقف

من كييف إلى لندن.. كيف تقرأ موسكو “الإرهاب الغربي الصامت”؟


  • 14 يونيو 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: nbcnews

يبدو أن موسكو اختارت لحظة فارقة في مسار الحرب الأوكرانية لتصعيد خطابها الدبلوماسي والسياسي والأمني تجاه العواصم الغربية الرئيسة، وعلى رأسها هذه المرة لندن، فقد أطلقت عن طريق وزارة خارجيتها، في 11 يونيو (حزيران) 2025 وتحديدًا على لسان سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية، وماريا زاخاروفا، المتحدثة الرسمية باسم الوزارة، اتهامات صريحة لأوكرانيا بتنفيذ “هجمات إرهابية نووية” ضد منشآت حيوية داخل الأراضي الروسية، بدعم مباشر من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا.

سبق ذلك اتهامات مماثلة وجهها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، 9 يونيو (حزيران)، في كلمته خلال منتدى “المستقبل 2050″، الذي نظمه الملياردير ورجل الأعمال الخاضع للعقوبات الغربية قسطنطين مالوفييف، اتهم فيها لافروف بريطانيا بمساعدة أوكرانيا، بل بأنها شريكة بنسبة 100% فيما وصفه هو بـ”الهجمات الإرهابية” داخل الأراضي الروسية، واستخدم في ذلك لغة حادة، بل غير معهودة في الخطاب الدبلوماسي الروسي التقليدي.

الوزير لافروف لم يربط هذه الهجمات بدعم استخبارتي فحسب؛ بل تقني فني بريطاني مباشر، حيث أشار إلى أن “كييف عاجزة دون لندن” عن تنفيذ هذه العمليات، وهو ما كرره بالعبارات نفسها تقريبًا نائبه ريابكوف، وهما يقصدان بالطبع استهداف القاذفات الإستراتيجية النووية الروسية في المطارات العسكرية، التي وقعت يوم 1 يونيو (حزيران) الجاري في أربع مطارات متفرقة داخل الجغرافيا الروسية بعمق 4 آلاف كيلومتر، على نحو متزامن.

لافروف أوحى في تصريحاته كذلك بأن الدعم الأمريكي أيضًا قد يكون متورطًا في هذه العملية “بدافع القصور الذاتي”، والتعبير هنا للوزير الروسي.

هذا التصريح، أو بالأحرى الاتهام، لا ينبغي أن يُقرأ فقط في سياق الأزمة الأوكرانية، بل إنه يتجاوز ذلك -في رأيي- ليكشف عن تحول روسي في قراءة التهديدات الأمنية وعلاقتها بهياكل البنية التحتية الدولية الحالية، لكنه مع ذلك يندرج أيضًا ضمن سلسلة من التطورات المرتبطة بالتصعيد المتبادل في الحرب الأوكرانية، التي باتت تأخذ منحى نوويًّا، وإن كان لا يزال غير مباشر؛ مما يهدد بانهيار أنظمة الردع التقليدية، ويفتح الباب أمام موجات جديدة من الفوضي الجيوسياسية.

وإذا حاولنا تفكيك الخطاب الروسي إلى بنيته اللغوية والدبلوماسية، نراه جاء حاملًا مفرادات شديدة التصعيد من الناحية الدبلوماسية، فالوصف الرسمي للهجمات بأنها “إرهاب نووي” يعكس -في رأيي- استخدامًا متعمدًا للمصطلحات التي تحمل أبعادًا قانونية وأخلاقية دولية.

فما بين السردية السياسية والعقيدة الأمنية تسعى موسكو، عن طريق صك مصطلح “الإرهاب النووي”، إلى نقل الصراع من ساحة القتال الفعلي إلى الساحة الأخلاقية والقانونية، فالحديث عن “إرهاب ترعاه دولة غربية” يعيد تشكيل الرواية الروسية للأزمة الأوكرانية، لتصبح بريطانيا -بحكم تصريحات لافروف وريابكوف طبعًا- شريكًا مباشرًا في عمل عدائي يتجاوز دعم الحلفاء التقليديين لأوكرانيا.

وهنا يحيلنا تحليل الموقف الروسي إلى أن هناك محاولة روسية لإعادة ضبط قواعد الاشتباك، إذ يوحي الخطاب الروسي بأن موسكو بصدد مراجعة إستراتيجيتها الردعية، وكما فهمتُ من تلميحات لافروف فإن الرد الروسي قد لا يظل محصورًا في حدود أوكرانيا، بل قد يمتد إلى مصالح داعميها، وهو ما يشكل -بلا أدنى شك- تحولًا نوعيًّا في تصور روسيا لمبدأ السيادة الدفاعية.

ومع أن الخطاب لم يذكر الأسلحة صراحة، فإن الحديث عن “منشآت حيوية”، وضرورة رفع مستوى يقظة السكان، يلمح إلى أن موسكو تُدخل -ببطء- مفاهيم الردع غير التقليدي إلى ساحة الصراع، ومنها -حسب فهمي الشخصي- إمكانية الردع النووي، أو الرد على التهديد غير المتكافئ عن طريق أدوات إستراتيجية.

وقراءة الدوافع الإستراتيجية لروسيا في هذا السياق تشير إلى أن التصعيد الحالي يأتي في ظل قلق روسي داخلي متزايد يسببه التسلل الأمني، والضربات البعيدة المدى داخل عمق الأراضي الروسية. وموسكو، بوصفها عاصمة دولة مركزية في بنية الأمن الإقليمي، تسعى بهذه التصريحات إلى إرسال رسالة مزدوجة: طمأنة الداخل، وتحذير الخارج.

في موسكو، هناك قناعة الآن تترسخ يومًا بعد يوم -وفق ما أتابع- بأن العواصم الغربية تتجه نحو اختبار حدود الصبر الروسي، أو -لأكون أدق- حدود صبر بوتين، وقد تكون التصريحات الروسية الأخيرة، التي تناولها هنا بالتحليل، تمهيدًا لمرحلة جديدة من الصراع، تنذر بإعادة تعريف الخطوط الحمراء، وربما فرض وقائع جديدة على الأرض، أو في المحافل الدولية.

ونقطة مهمة في هذا الكلام، فحتى كتابة هذه السطور لم تصدر لندن أو واشنطن ردودًا صريحة وواضحة تتفاعل قانونيًّا أو سياسيًّا مع التصريحات، أو الاتهامات الروسية لهما، فالغرب لا يزال يتمسك بالرواية التي ترى أن أوكرانيا “تمارس حقها في الدفاع عن النفس”، دون الخوض في تفاصيل الدعم الاستخباراتي، أو العملياتي.

وهذا التجاهل المدروس -في رأيي- قد يكون جزءًا من إستراتيجية ما يعرف بـ”التجاهل الوقائي”، وهو أسلوب شائع في إدراة الأزمات الطويلة الأمد، لكن المشكلة أن موسكو ترى في هذا التجاهل نوعًا من التواطؤ الصامت، وهذا الأمر قد يفتح الباب أمام مزيد من المواجهة الرمزية، التي ربما تتحول إلى مواجهة فعلية مباشرة.

وبعد هذا الكلام، يمكننا أن نفترض 3 سيناريوهات لما قد يؤول إليه هذا التصعيد:

1- تصعيد رمزي محسوب، والمرجح بموجبه أن تواصل موسكو التصعيد اللفظي والرمزي، وقد تتجه إلى إجراءات غير مباشرة، كطرد دبلوماسيين مثلًا، أو إطلاق حملات دبلوماسية في الأمم المتحدة تتهم لندن بالإرهاب الدولي.

2- اتخاذ إجراءات ميدانية محدودة، وأقصد أنه إذا استمرت الضربات الأوكرانية، المدعومة غربيًّا طبعًا، داخل العمق الروس، فإن احتمالات استهداف الجيش الروسي لأدوات الدعم الغربية، كالمستشارين العسكريين، أو محطات الاتصال المتطورة، أو بعض المصالح الغربية في الخارج، في أقاليم ومناطق أخرى، تصبح واردة جدًّا. وأعتقد أن هذه الاستهدافات حدثت، لكن في حدود ضيقة جدًّا؛ تلافيًا للتصعيد المباشر حينذاك، لكن الوضع الآن مختلف.

3- تدويل هذه الاتهامات، بحيث تستخدم موسكو ملف “الإرهاب النووي” لتدويل الأزمة من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوسيع الحشد الدولي ضد تصعيد الدعم الغربي لأوكرانيا.

 وبعد السيناريوهات تأتي التوصيات لمن يهمه الأمر:

1- ضرورة تحليل التصعيد الخطابي الروسي ضمن إطار تحول العقيدة الأمنية الروسية، وليس فقط كرد فعل على عمليات أوكرانيا في العمق الروسي.

2-  الاستعداد الجدي لمآلات انهيار نظام الردع التقليدي، خاصة في ظل تآكل مصداقية المؤسسات الدولية، التي لم يعد أحد يعول عليها.

3- المتابعة الدقيقة لاستخدام مفاهيم مثل “الإرهاب النووي”، ولا نتركها تمر ونحن نضحك منها؛ لأن الدول الكبرى قد تستخدمها لاحقًا لتبرير تدخلات في أقاليم أخرى، بما فيها الشرق الأوسط.

4- تعزيز الدور العربي في المؤسسات الرقابية الدولية على الاستخدام السلمي للطاقة النووية، في ظل التسييس المتزايد لهذا الملف، ومطالبة كل الأطراف بضمانات حقيقية بشأن عدم استهداف المنشآت النووية.

وفي الختام، أقول من موسكو إنه يبدو أن العالم يتجه إلى مرحلة تصبح فيها الكلمات أثقل من الرصاص، والاتهامات أكثر تأثيرًا من الضربات الجوية.

وخطاب لافروف الأخير، ونائبه ريابكوف، لا يعكسان فقط موقفًا روسيًّا من ضربة أوكرانية موجعة، أو مجرد رد على هجوم تكتيكي، بل يعلنان تحولًا في فلسفة الردع الروسية تجاه الغرب وأدواته، واستدعاء صريح لمفاهيم الحرب الباردة بنسخة جديدة، والأهم، تغيير تدريجي في  قواعد الاشتباك الدولي.

وفي هذا السياق يصبح من واجب المراقبين وصناع القرار في عالمنا العربي الانخراط في تحليل استباقي متعدد الأبعاد، بدلًا من الاكتفاء بالمراقبة التفاعلية للأحداث.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع