يُعد محور قناة السويس في مصر أحد أهم الممرات التجارية العالمية، حيث يربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، ويُسهل حركة التجارة بين آسيا وأوروبا وإفريقيا. في السنوات الأخيرة، برزت كل من الصين والهند لاعبين رئيسين في الاستثمار بمنطقة قناة السويس الاقتصادية، مدفوعتين بطموحات جيوسياسية واقتصادية متشابكة. يعكس هذا التنافس رغبة البلدين في تعزيز نفوذهما الاقتصادي في الشرق الأوسط وإفريقيا، مع الاستفادة من الموقع الإستراتيجي لمصر بوصفها مركزًا لوجستيًّا عالميًّا.
تتمحور إستراتيجية الصين بشأن مبادرة “الحزام والطريق” التي تهدف إلى توسيع شبكاتها التجارية العالمية، في حين تسعى الهند إلى تعزيز مكانتها بوصفها قوة اقتصادية صاعدة من خلال مشروعات مثل “ممر الهند- الشرق الأوسط- أوروبا (IMEC)”، الذي يُنظر إليه بوصفه منافسًا محتملًا للمبادرة الصينية. هذا التنافس لا يقتصر على الاستثمارات المباشرة، بل يمتد إلى صراع أوسع على النفوذ الإقليمي، حيث تسعى كل دولة إلى تعزيز علاقاتها مع مصر بطرائق تكاملية وتنافسية في آن واحد.
تعود العلاقات الاقتصادية بين مصر والصين إلى منتصف القرن العشرين، حيث أُسست العلاقات الدبلوماسية رسميًّا في عام 1956. خلال تلك الفترة، دعمت الصين مصر سياسيًّا واقتصاديًّا في إطار حركة عدم الانحياز، التي جمعت قادة مثل جمال عبد الناصر وتشو إن لاي. في التسعينيات، بدأت العلاقات الاقتصادية تتخذ طابعًا أكثر عملية، حيث وقّعت مصر والصين اتفاقيات تجارية واستثمارية، مثل مذكرة تفاهم عام 1997 للمشاركة الصينية في المنطقة الحرة شمال غرب خليج السويس. بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لمصر، مع استثمارات كبيرة في قطاعات مثل البنية التحتية، والطاقة.
على الجانب الآخر، ترتبط مصر والهند بعلاقات اقتصادية تاريخية تعود إلى العصور القديمة عبر طرق التجارة البحرية، لكن العلاقات الحديثة بدأت تتبلور في الخمسينيات مع تأسيس حركة عدم الانحياز بقيادة عبد الناصر وجواهر لال نهرو. شهدت العلاقات المصرية- الهندية تقلبات خلال السبعينيات والثمانينيات، لكنها شهدت انتعاشًا ملحوظًا في العقدين الماضيين، خاصة مع زيادة الاستثمارات الهندية في قطاعات التكنولوجيا والصناعات الكيماوية. فالعلاقات المصرية- الهندية تُعد “حيوية”، لكنها واجهت تحديات بسبب التركيز الهندي على دول الخليج في السنوات الأخيرة.
تُظهر البيانات أن الصين استحوذت على حصة كبيرة من الاستثمارات في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، حيث شكلت استثماراتها نحو (40%) من إجمالي الاستثمارات المستقطبة عام 2024. تشمل هذه الاستثمارات مشروعات ضخمة مثل منطقة “تيدا” الصناعية، التي جذبت استثمارات بقيمة (15.5) مليار دولار بحلول نهاية 2023. تستهدف الصين استخدام المنطقة منصةً لتصدير منتجاتها إلى أوروبا وإفريقيا، مستفيدة من موقعها الإستراتيجي واتفاقيات التجارة الحرة التي تتمتع بها مصر.
كما أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين دفعت الشركات الصينية إلى تكثيف استثماراتها في مصر كبديل للأسواق الغربية، مع خطط لزيادة الاستثمارات إلى (12) مليار دولار بنهاية 2025. كما دعمت الصين مشروعات بنية تحتية رئيسة، مثل تمويل البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة بقرض بقيمة (3) مليارات دولار من خلال شركة “سيسك” الصينية. هذه الخطوات تعكس رؤية الصين الطويلة الأمد لتعزيز نفوذها الاقتصادي عبر مبادرة “الحزام والطريق”، التي تُعد قناة السويس جزءًا حيويًّا منها.
في المقابل، تسعى الهند إلى تعزيز حضورها في محور قناة السويس، لكن استثماراتها لا تزال أقل حجمًا مقارنة بالصين. في عام 2023، استقبلت المنطقة الاقتصادية وفدًا من شركة “شيريبال جروب” الهندية، التي تُعد متخصصة في مواد التغليف وإعادة التدوير، لبحث فرص الاستثمار في قطاعات الطاقة النظيفة والوقود الأخضر. تُظهر هذه الزيارة اهتمام الهند المتزايد بالمنطقة، مدفوعًا بطموحها لتعزيز التعاون الاقتصادي مع مصر.
ومع ذلك، يتركز الجهد الهندي الأكبر على مشروع “ممر الهند- الشرق الأوسط- أوروبا”، الذي أُعلن في قمة العشرين عام 2023 بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. يهدف هذا الممر إلى ربط الهند بالخليج وأوروبا عبر شبكة من السكك الحديدية والمواني، ويُنظر إليه بوصفه بديلًا لمبادرة “الحزام والطريق”. وحقق الممر تقدمًا ملحوظًا في الهند والشرق الأوسط، مع مشروعات مثل كابل الاتصالات البحرية “بلو رامان” الذي يربط الهند بإيطاليا. مع أن الممر لا يمر مباشرة عبر قناة السويس، فإن هناك مخاوف من تأثيره في الإيرادات المصرية، وهو ما ينفيه بعض الخبراء الذين يرون أن القناة ستحتفظ بميزتها التنافسية.
يُظهر التنافس الصيني- الهندي في محور قناة السويس ديناميكيات معقدة تجمع بين التعاون والمنافسة. من جهة، تستفيد مصر من الاستثمارات الضخمة التي تقدمها الصين، والتي تسهم في تطوير البنية التحتية، وتوفير فرص العمل. من جهة أخرى، تسعى الهند إلى تقديم نموذج استثماري بديل يركز على الابتكار والطاقة النظيفة، مع دعم غربي يهدف إلى الحد من النفوذ الصيني؛ لذا فإن الممر الهندي يعكس رغبة الولايات المتحدة في إحلال الهند محل الصين في التجارة العالمية؛ ما يضع مصر في موقف حساس كوسيط بين القوتين. في الوقت نفسه، تستطيع مصر الاستفادة من هذا التنافس عبر استقطاب استثمارات متنوعة دون الوقوع في فخ الاعتماد المفرط على طرف واحد. تاريخيًّا، نجحت مصر في موازنة علاقاتها مع قوى دولية مختلفة، وهو ما يمنحها مرونة في التعامل مع هذا التنافس.
يُعد التنافس الصيني- الهندي على الاستثمار في محور قناة السويس انعكاسًا للتحولات الجيوسياسية والاقتصادية على الساحة العالمية. وبينما تتفوق الصين حاليًا بفضل استثماراتها الضخمة واستراتيجيتها الطويلة الأمد، تسعى الهند إلى بناء حضور قوي من خلال مشروعات مبتكرة وشراكات دولية. يُمثل هذا التنافس فرصة ذهبية لمصر لتعزيز مكانتها بوصفها مركزًا اقتصاديًّا عالميًّا، شريطة أن تتبنى سياسات متوازنة تحافظ على مصالحها الوطنية. مع استمرار التوترات التجارية العالمية وتطور المشروعات الإقليمية، مثل الممر الهندي، ستظل قناة السويس محورًا حيويًّا في صراع النفوذ بين القوتين الآسيويتين؛ مما يتطلب من مصر إستراتيجية دقيقة للاستفادة من هذا التنافس، دون الانجرار إلى استقطابات جيوسياسية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.