يمثّل الصراع الروسي‑ الأوكراني أطول مواجهة عسكرية تقليدية في أوروبا منذ الحرب الباردة، وقد دخل عامه الرابع من دون التوصّل إلى تسوية شاملة. تحاجج هذه الدراسة بأن تعثّر المفاوضات لا يسهم في إدامة العمليات القتالية فحسب؛ بل يولّد حلقةَ تفاعُلٍ مُركّبة ترفع الإنفاق العسكري الأوروبي، وتعيد هيكلة أسواق الطاقة، وتفتح ثغرات خطرة في منظومات الحوكمة الدولية. ويُظهر تحليل ديناميات الوساطة أن غياب توازنٍ ميداني نسبي، وضماناتٍ أمنية صلبة، وحوافز اقتصادية إيجابية، وإطار قانوني أممي ملزم، وإرادة سياسية داخلية في موسكو وكييف، كلّها عوامل تُبقي الجهود الدبلوماسية رهينة الفشل المتكرر. تخلص الورقة إلى أنّ السلام في أوكرانيا ليس هدفًا إنسانيًّا أو أوروبيًّا فحسب؛ وإنما اختبار مصيري لمصداقية النظام الدولي في القرن الحادي والعشرين.
منذ اندلاع الصراع الروسي‑ الأوكراني في فبراير (شباط) 2022، باتت القارة الأوروبية مسرحًا لمواجهة عسكرية تجمع خصائص الحروب التقليدية الواسعة النطاق مع صراع ذي طابع تكنولوجي معقّد، حيث تتنافس الطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية ومنظومات الدفاع الجوّي على رسم ملامح الميدان. ورغم محاولاتٍ تفاوضية متعاقبة -بدءًا من مسار إسطنبول مرورًا باتصالات أنقرة السرية، ثم مسودّات الهدنة المتعدّدة النُسخ التي طرحتها واشنطن وبرلين وباريس- لم تُنتج أيّ صيغةٍ مقبولة تُنهي القتال أو تُجمّده على نحوٍ مستدام. وعلى العكس، عزّز تعثّرُ المسار الدبلوماسي قناعة جميع الأطراف بأن “تكلفة الاستمرار أيسر من تكلفة التراجع”، مُفسحًا المجال لدوامة تسلّحٍ متصاعدة في أوروبا، وتوسيع نطاق العقوبات الاقتصادية المتبادلة، مع تداعياتٍ تتجاوز الحدود الأوكرانية لتشمل آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط.
تُصنَّف هذه المواجهة أيضًا بوصفها أوّل اختبار فعلي لصلابة بنية الأمن الأوروبي بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي، إذ تُلامس الخطوط الحمراء لكل من روسيا وحلف شمال الأطلسي، سواء تعلّق الأمر بتوسع الناتو أو بانضمام كييف المحتمل إليه. ولئن اتُّهِم النظام الدولي الليبرالي بأنه يعاني خللًا بنيويًّا منذ أزمات العراق وسوريا وليبيا، فإنّ استحالة فرض حظر فصل سابع في مجلس الأمن، وظهور تحالفات عقابية خارج الإطار الأممي، وتعاظم نزعة “الاقتصاد المُسلّح”، كلها مؤشرات على تسارع تفكّك آليات الضبط الجماعي.
إن العالم اليوم يقف على عتبة مرحلة جديدة من الانقسامات والتصدّعات الجيوسياسية؛ لأنّ البنى والمؤسسات التي شُيِّدت عقب الحرب العالمية الثانية لضبط السلم والأمن الدوليين باتت عاجزةً عن استيعاب تعقيدات النظام المتعدد الأقطاب، وعن مواكبة التحولات التكنولوجية والاقتصادية المتسارعة، فإذا لم تُجرَ عملية إصلاحٍ جذرية تُعيد صياغة آليات اتخاذ القرار، وتُقنّن استخدام أدوات الضغط الاقتصادي، وتُنشئ هياكل تمثيل أكثر عدلًا لدول الجنوب، فإنّ الأزمات الإقليمية المجمَّدة ستتحول إلى بؤر صراع نشط، وستتعمّق الفجوة بين مراكز مالية‑ تكنولوجية متقدمة وأطراف مُستنزَفة، مهدّدةً بانهيار ما تبقى من منظومة التعاون الدولي.
منذ البداية أثمرت الوساطات اختراقات محدودة: تبادل أسرى، ممر الحبوب الأسود عبر البحر، هدنة قصيرة بشأن محطة زابوروجيا، لكنّ القضايا الجوهرية (وضع شبه جزيرة القرم، ومستقبل المقاطعات الأربع، وضمانات عدم انضمام أوكرانيا إلى الناتو) ظلّت عالقة. محادثات إسطنبول في مارس (آذار) 2022 انهارت بعد انسحاب روسيا من محيط كييف، ومسار غوميل لاحقًا تعثّر بسبب الخلاف على الجدول الزمني للانسحاب، وفي 2024‑2025 دخلت واشنطن بمبادرة أكثر طموحًا تربط رفع العقوبات بانسحاب مشروط، لكنّ مفعولها تعطّل حين أصرّ الكرملين على “نزع السلاح” في دونيتسك ولوغانسك قبل أي خطوة متبادلة.
كلّ تقدُّم روسي -سواء في لينيمان أو كورسك أو إنشاء “حزام سومي”- يرفع سقف موسكو التفاوضي، فيما تُحاول كييف الردّ بهجمات مسيّرة على العمق الروسي، وعمليات توغّل محدودة لتعقيد موقف الكرملين أمام جمهوره. تتناغم إستراتيجية “الهجمات في العمق” مع رؤية نظرية الردع الموسّع: إذا لم تستطع كييف صدَّ الجيش الروسي على خط التماس، فعليها إثبات قدرتها على تهديد مساحات خلفية إستراتيجية؛ ما يدفع موسكو إلى إعادة حسابات التكلفة السياسية للحرب.
هناك أربع آلياتٍ مُعرقلة تحكم الجولات التفاوضية:
منذ عام 2022 ارتفع إنفاق الدفاع الأوروبي من 1.3٪ إلى نحو 2.1٪ من مجمل الناتج المحلي للاتحاد، متجاوزًا حدود “السلام المربِح” الذي عاشته أوروبا بين عامي 1991و2021. جاءت أولى بوادر السباق على شكل “صندوق السلام الأوروبي” لتوريد المدفعية وذخائر 155 مم إلى كييف. أعقب ذلك استثماراتٌ ألمانية في الدروع، وقرار بولندا شراء أكثر من ألف دبابة كورية جنوبية K2، وتسريع باريس تحديث القوة النووية الردعية. داخل الناتو، أُعيد إحياء خطة الدفاع الإقليمي التي تُصنف روسيا تهديدًا رئيسًا؛ ما أوجد معضلة أمن كلاسيكية: كل تعزيزٍ دفاعي غربي يُقارَن في موسكو بتهديد، فتردّ روسيا بزيادة الإنتاج الصاروخي، بما يُبرّر دورات جديدة من الإنفاق عند العواصم الأوروبية- حلقة تصعيد يصعب كسرها.
استقطب الصراع الروسي‑ الأوكراني كتلةً رئيسة من القدرات العسكرية والمالية الروسية؛ ما فتح فراغاتٍ متفاوتة في دوائر نفوذها التقليدية:
استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) 9 مرات في ملفات مرتبطة بالصراع، وأفشلت الولايات المتحدة 3 مشروعات قرارات صينية بشأن العقوبات. النتيجة شللٌ شبه تام. يُعيد ذلك أطروحة “آلية الفيتو المزدوج” التي أدخلت إصلاحًا عام 1963 بشأن القضايا الإجرائية، لكن أمام الملفات الصلبة يظل المجلس عاجزًا عن تجاوز الانقسامات بين أصحاب “الفيتو”.
تبنّى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا حزمًا مُتعاقبة من العقوبات من دون تفويضٍ أممي، يطعن الجنوب العالمي في شرعيّتها، ويرى فيها تقويضًا لمبدأ المساواة السيادية. يرفع ذلك جاذبية منصّات الدفع، مثل “مير” الروسية و”CIPS” الصينية، ويُهدّد هيمنة الدولار التي شكّلت أحد أسس النظام الليبرالي بعد عام 1945.
استنادًا إلى دروس تاريخية، تتشكّل الوساطة المستدامة من العناصر التالية:
غياب أحد هذه الشروط يحوّل الوساطة إلى هدنة تكتيكية بانتظار جولة حرب جديدة.
تكشف الوقائع أنّ تعثّر التفاوض في الصراع الروسي‑ الأوكراني يتجاوز كونه مجرّد إخفاق دبلوماسي؛ إنه يعود بمفاعيله على بنية الأمن الأوروبي، وعلى استقرار الاقتصاد العالمي، وعلى مصداقية النظام الدولي نفسه. إن عدم التوصّل إلى تسوية يخلق سباق تسلّحٍ متصاعدًا، ويطيل أمد العقوبات المتبادلة، ويُنتج فراغاتٍ أمنية في أقاليم أخرى سرعان ما تملؤها قوى إقليمية بديلة، بما يرفع احتمال اندلاع أزماتٍ جديدة في آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقوقاز. هكذا يترسّخ منطق “تعدد الأزمات” بدلًا من حصرها في جغرافيا شرق أوروبا.
والأخطر أن الشرعية المتضعضعة لمجلس الأمن، و”تسييس” نظام العقوبات خارج المظلّة الأممية، قد يدفع مزيدًا من الدول إلى البحث عن بدائل للتسويات الدولية القائمة، وهو ما يُعمّق شقوق النظام الليبرالي اقتصادًا وأمنًا الذي صمد عقودًا. في هذا السياق، يصبح السلام في أوكرانيا مرآة لفاعلية الحوكمة العالمية؛ فإذا عجزت القوى الكبرى عن فرض تسويةٍ عادلة ومستدامة، فإن مشروعية تلك القوى نفسها ستتآكل، ويُترك النظام الدولي لفوضى توازناتٍ إقليمية حادّة، وأحلافٍ ظرفية.
تُظهر القراءة المتكاملة للصراع الروسي‑ الأوكراني أنّ الإخفاق المستمر في التوصّل إلى تسوية لا يُبقي الحرب دائرة وحسب؛ بل يدفع النظام الدولي برمّته إلى طورٍ أكثر هشاشة؛ فكل جولة تفاوضية فاشلة تُقابَل تلقائيًّا بتكثيف للعمليات العسكرية، يشجّعه إدراك متبادل بأن تكلفة الاستمرار أدنى من تكلفة التراجع. هذه الحلقة المغلقة أطلقت سباقَ تسلّحٍ أوروبيًّا يلتهم حيّز السياسات الاجتماعية، ويعيد تعريف الأولويات المالية للاتحاد، فيما تُعيد عقوبات الطاقة تشكيل خريطة التجارة العالمية على نحوٍ يرفع الأسعار، ويُنذر بأزماتٍ غذائية في الجنوب العالمي. في موازاة ذلك، يتفكّك هامش الردع الروسي في أقاليم نفوذه التقليدية؛ ما يخلق فراغاتٍ في آسيا الوسطى والشرق الأوسط والقوقاز، سرعان ما تتنافس على ملئها قوى إقليمية بديلة، فتتعدّد الأزمات بدلًا من انحصارها في جغرافيا أوروبا الشرقية. على المستوى المؤسّسي، يكشف شلل مجلس الأمن، وتوسّع العقوبات خارج المظلّة الأممية، عجز بنية الحوكمة الدولية عن ضبط التوترات بين القوى الكبرى، وإذا استمر هذا العجز فستفقد المؤسسات التي شُيّدت بعد عام 1945 مشروعيّتها الوظيفية، وسيبحث عدد متزايد من الدول عن ترتيباتٍ موازية تُقنّن استخدام العملة والعقوبات سلاحًا سياسيًّا؛ وعليه، فإنّ إحراز سلامٍ عادل في أوكرانيا لم يعد مسألة إنسانية أو أوروبية فحسب؛ بل تحوّل إلى اختبارٍ نهائي لمصداقية النظام الدولي، وقدرته على تجنّب انزلاق العالم إلى حقبة تنافسٍ صفري، تتآكل فيها قواعد الاقتصاد المفتوح والأمن الجماعي معًا.
المصادر
Europe to hand billions in frozen Russian cash to Western investors, sources say
Unprecedented rise in global military expenditure as European and Middle‑East spending surges
Charter on Strategic Partnership Between the United States of America and the Republic of Armenia
Asia moves quickly to replace sanctioned Russian crude oil
US LNG supply continues to dominate European imports in 2024
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.